من مثقفي عراق اليوم لإخوانهم ضحايا الأمس!

فيصل عبد الحسن

كنت أجلس هناك في زاوية مقهى حسن عجمي قريبا من النافذة الزجاجية التي تطل على"حلويات السيد" هذه الحلويات التي تم تأسيسها منذ بداية القرن الماضي 1906 مرة همس بأذني الشاعر الفلسطيني خيري منصور وأنا في ذلك المجلس من المقهى ملمحا لزمن تأسيس هذا المحل، لأنه أقدم بكثير من تأسيس عاصمة دولة عربية هي "عمان"! تخيل محل حلويات في هذا الشارع أقدم من عاصمة عربية! ولم نتعلم طوال تلك الأحقاب الماضية نحن العراقيين لغة المحبة، والتآخي في السراء والضراء، ولم نتقن بعد كمثقفين وأدباء تقاليد أخوة القلم وروح الأدب المتسامحة!

 طردت الحروب والأحداث والأيام أولئك الكتاب والمثقفين العراقيين! إلى المنافي! والجميع الذين كانوا يعدون من قبل هؤلاء سقط متاع، وصعاليك، ولا قيمة لهم، ولا نفع يرجى منهم.. تسيدوا الصورة الآن، وهم يشعرون في مواقعهم الجديدة بمعاناة من تغرب، ويستمتع بعضهم بسادية مماثلة، أو أشد لما سبق، بمعاناة هؤلاء المنفيين الجدد، لا أدري كيف لمن يسمي نفسه شاعرا، أن يرى شاعرا آخر يموت جوعا، أو يبيع سجائر بالمفرد(ولا عيب في أي عمل مهما كان هامشيا) في المقهى ذاتها التي جاء فيها ليغرد كشاعر، مظفر، مترف، معبرا عن نفسه، وانجازاته في الشعر وغزوه لقلوب الحسان، وحيازته النقد الرنان، ومن دون أن يمد لزميله يد العون! أو يتيح له نافذة عمل يرتزق منها ليقيم أوده وأود عياله، ويحفظ له كرامته؟!

 لكنهم للأسف لم يفعلوا! ولن يفعلوا الآن! تركوهم ليمتلئ كيسهم بالحقد والغضب! وتدور الدوائر، الحقد الآن صار مضاعفا! من ضحايا اليوم لإخوانهم ضحايا الأمس! ما يحيط بمشهد أدباء العراق آطار عظيم من حزن عتيق! من في الداخل يركض وراء الدولارات والمكافئات السخية! والمناصب، إن أبقى بهلونات السياسة لهم مناصب! ومن في الخارج يعيش ذل المتغرب وفقره! والحقد بين الجماعتين كلما مر الوقت يتجذر، ويعرش بجذوره البشعة في النفوس! ليلتحق بالقافلة جيل جديد نشأ في الغربة، وتجرع من قير حقدها الأسود! وكل فريق يتوعد الآخر بالفناء، ويصف مناوئه بالخسة والتفاهة والعمالة للغير والسخف ويكتب عنه بحبر مصنوع من وسخ الأظافر!

 ذكريات قديمة عن مقهى"حسن عجمي"جعلتني أحلق بأجنحة الخيال إلى شارع الرشيد وبغداد مرة أخرى! وأعيد فيلم الفيديو للوراء لأرى مجددا ما مضى، وعشناه بحركة سريعة الخطوات للسنوات الماضية: حقا لم تكن أيامنا فيها سعيدة! فقد كنا خائفين من اليوم والغد! ونعيش اللحظة التي تسبق سقوطنا في الهاوية، فأما كنا مقبلين مع البلاد إلى الحرب أو كنا مغادرين إلى حرب جديدة! ومن غزو دولة جارة إلى أعادة دولة شقيقة إلى حضن الوطن! وحسن عجمي ومقهاه العتيقة! وسط بغداد، في بداية شارع الرشيد العريق، أعتقد الآن أنها لم تكن من المقاهي التي تمت لعصرنا بصلة! بل هي أقرب إلى مغارة في جبل، يرتادها من عاش أثناء الفترة العثمانية من القرن قبل الماضي! حتى نادلها يرحمه الله حسن عجمي (بجراويته) أي بما كان يضعه على رأسه! وشاربه العثماني، الذي لا ينتمي لهذا العصر، كان ومقهاه ينتميان إلى قرون ماضية! مقهى مشهورة بشايها الأسود! شعراء المقهى، رموز حقيقية وضحايا للفقر الشديد! ضحايا الفساد السياسي، والانقلابات العسكرية، قصاصون وشعراء شعبيون للبسهم أشكال، وهيئات رسمها قلم كافا في رواياته: القضية والقلعة وأمريكا والمسخ!

عالم مقهى حسن عجمي، كان يسبح في اللامعقول، واللامعنى، وكل نهاية أسبوع كان شعراء وكتاب السلطة، أو من يعملون في خدمة السلطة والسلطان، أن كان عثمانيا أو بريطانيا أو أمريكيا، أو مجرد سلطان أحمق، متمرد على كل هؤلاء، يأتون تحت سقفها المدخن، ليتشفوا بإخوانهم من شعراء وكتاب فضلوا البقاء بعيدا عن السلطة! بسبب وطنية يؤمنون بها، أو لمجرد كسل أو لكليهما! تشفي أولئك بإخوانهم، ممن أدركتهم حرفة الأدب كان ساديا وغير مبرر! الأمر ذاته يحدث الآن..

كان ذلك المكان من المقهى يعطيني زاوية جيدة لرؤية بانورامية كنت أنتظر القاص"حاكم محمد حسين" صاحب مجموعة قصص مساحة بيضاء، الذي ألقي عليه القبض فيما بعد بوشاية بسبب دين مالي، أو شيء من هذا القبيل، ليتضح فيما بعد في مركز الشرطة، أنه كان هاربا من الجيش! وكانت عقوبة الهروب من الجيش وقتذاك الإعدام! وبالرغم من أن أدباء كثيرين في أعلى سلم السلطة وقتها، وقد توسط البعض لديهم بحرمة الأدب، والقصة والقصائد التي كانوا يؤمنون بها أن ينقذوا هذا القاص من مقصلة الإعدام! لكنهم لم يحركوا ساكنا وتركوه لمصيره المحتوم بسادية وتشف قل نظيرها!

أتذكر بألم أنه لم يذهب أحد غير كاتب هذه السطور، وقاص آخر هو حميد المختار! لزيارته في سجن أبي غريب قبل إعدامه بأيام! لن أنسى ما حييت كيف سلمنا(يرحمه الله) قصصه الجديدة الأخيرة التي كتبها في السجن، وكانت مكتوبة على أغلفة علب السجائر الفارغة! وكان منظره- برأسه الحليقة- ضاجا بالبؤس والألم، واليأس، وهذا ما كان يفعلونه مع من حكم بالإعدام في تلك الأيام: حلاقة للرأس قبل الإعدام! عقوبة شكلية تسبق الإلغاء من الحياة! لم يكن وحده ينتظر الإعدام! كان المئات غيره من الشباب رأيناهم حليقي الرؤوس أيضا، استعدادا لتنفيذ عقوبة الموت فيهم!

 في تلك المقهى لا تزال أصداء ضحكات "ضرغام هاشم" الصحفي الذي أعدم فيما بعد.. لمطالبته لا ادري الآن بماذا؟! من خلال عموده الأسبوعي في مجلة حكومية يعمل فيها! عالم معتق من روائح السجائر ودخان وجاغ النار، وحكايات المرحوم الشاعر كمال سبتي، وضحكات الشاعر أديب كمال الدين، وسجالاتهما حول الحداثة الشعرية، وقصيدة النثر، أما أولئك الواشون الذين يكتبون التقارير عن الأدباء فقد كانوا كثرا لدرجة كان الكتاب، والأدباء الذين يكرهون السلطة، ويكرهون خدمتها يتصنعون الجنون والهلوسة إلى درجة أنك لن تجد لديهم حقا أو باطلا، في أي قضية تطرحها عليهم! عالم من السواد بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة!

 مقهى حسن عجمي وما أكثر موتاه! القاص الكردي يوسف الحيدري يرحمه الله مات يوما على احد كراسي المقهى، كان يظن أن بعد الحرب ستتحسن أوضاع العراق، وتطبع أعماله الكاملة، فانتهت حروب وتناوش كرسي الحكم سبع سمان وسبع ضعاف من دون أن يعيد أحد طبع مجموعة قصصه التي أصدرها بضمان راتبه كمدرس! عالم ضاج بالمخبرين والشعراء الساديين، والضحايا والموتورين، والمعقدين، وأولئك من صرعهم وهم الكتابة، فاعتقدوا أنهم أفضل كتاب العالم، ويستحقون جائزة نوبل، وهم في حقيقة الأمر لم يكتبوا شيئا في حياتهم!

 بغداد التي نبقى نحبها بالرغم مما عشناه فيها من فصول مأساة طويلة ومعقدة، وذكريات مريرة تتأطر دوما بهيئة امرأة جميلة نحبها من طرف واحد، ولا نستطيع التواصل معها إلا من خلال الخيال، فهي في كل وقت ليست لنا بل لسوانا، لأولئك الذين يستطيعون قتل الناس بدم بارد وبلا ندم، ويجلسون مساء حول مائدة الراح يندبون حظهم لأنهم لا يبدعون كما يفعل المبدعون الحقيقيون!

*كاتب عراقي يقيم في المغرب

faisal53hasan@yahoo.com

........................................

 وقد ورد تعليق على مقالي السابق والحالي من القارئ (محمد جاسم) في جريدة القدس العربي العدد 6518 ليوم الاثنين 24/5/2010 صفحة ثقافة وقد لخص ما أردت قوله، في المقالين ولتتم الفائدة، وصار لزاما نشره مع المقال كتضمين، وربما:( هامش في كتاب يوصل ما أراد أن يوصله الفقيه في صفحات).. وأورد التعليق أدناه:

 أنهم في العراق نائمون فلماذا توقظ النائمين..حرام عليك!

 لقد قرأنا مقالك السابق عن اللاجئين العراقيين في المغرب وسوء أحوالهم وغرقهم في المحيط الذي نشر في القدس الغراء -صحيفة المظلومين- وصار المقال اليوم لجماعات حقوق الإنسان في المغرب وثيقة إدانة لتقصير الحكومة المغربية الواضح معكم،ولم يحرك أحد من أصحاب المليارات في الوطن العربي خصوصا أولئك الكتاب والشعراء الأغنياء أصحاب الكروش،والعطور الغالية أصابعهم الوسخة لفك الكيس ومساعدتكم، ماديا أو معنويا،أو على الأقل نشر كتبكم لتستفيدوا من ريعها،أما وزير الثقافة العراقي ماهر الحديثي فلم يحرك مقالكم فيه نخوة، فرفع سماعة الهاتف ليتصل بسفارة العراق في المغرب لتعينكم على بلائكم، أنهم يا أخي نائمون فلماذا توقظ النائمين.. حرام عليك!

 محمد جاسم

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/أيار/2010 - 11/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م