رواية الطريق وفكرة خراب العالم

الفكرة التي تكررت كثيرا في الرؤية الأمريكية

ناظم محمد العبيدي

 

شبكة النبأ: حين تتضافر مجموعة عوامل تاريخية في تأثيرها على مجتمع ما، تتبلور عنها رؤية تتخذ طابع العمومية وتظهر في الأعمال الفنية والأدبية، ويمكننا القول أن فكرة نهاية العالم وخرابه على نحو مأساوي بدأت تتكرر في الرؤية الأمريكية الماثلة في السينما والأدب، ولا يمكن هنا طبعاً تقديم عرضاً لمبررات هذه النزعة ذات الجذر الديني في المجتمع الأمريكي، والتي لا تنفصل عن طبيعة تشكله التاريخي، فهو مجتمع ذو خصائص غريبة مقارنة بغيره من المجتمعات ذات العمق التاريخي، واذا كان الرأي السائد عند الناس ممن لا يمتلكون القدرة على النفاذ خلف الظواهر المادية والحضارية هو أن أمريكا جنة لمواطنيها ولمن يهاجر اليها، فإن رأياً آخر يعاكسه كثيراً ظل يتكرر على لسان الكثير من المفكرين والأدباء وكذلك أهل الفن الأمريكيين، ومنهم الروائي المتمرد (هنري ميلر) وبخاصة في كتابه (عملاق ماروسي)، الذي يرى أن حضارة أمريكا هي تجسيد للخواء الروحي برغم كل ما يبدو عليها من بذخ وخيلاء بسبب تمددها العسكري والإقتصادي، ويسخر من الصورة التي يحملها الناس عن بلده ويتهمهم بالسذاجة والجهل.

وما يهمنا هنا هو تقديم نبذة مختصرة عن الأرضية الفكرية التي إنطلق منها الكاتب الأمريكي كورماك مكارثي في روايته (الطريق) التي صدرت ضمن سلسلة إبداعات عالمية، إذ تقوم فكرة الرواية على فرضية أن كارثة حلت في أمريكا أحرقت كل شيء فيها، ولم يوضح الكاتب طيلة أحداث الرواية طبيعة تلك المأساة التي مات بسببها الناس وأحدثت كل ذلك الخراب أو الزمن الذي حدثت فيه، ومنذ الصفحات الأولى نرافق البطل مع ولده الصغير في رحلتهما للبقاء على قيد الحياة، وهما يتجولان بين الخرائب المحترقة ولا يعثرون بينها الا على جثث الناس المحترقة بين رماد يمتد ليغطي كل الأمكنة، والتي مر عليها زمن طويل.

 ومما يزيد من قتامة الصورة التي طبعت مناخ الرواية أن من بقي حياً من الناس أصبح مجرماً ووحشاً لا يتورع عن أكل أمثاله من الناس، ومع تتابع الأحداث التي تتناول تفاصيل هذه الرحلة التي يصطحب فيها الأب ولده، نظل مشدودين وفي حالة ترقب لما سينتهي اليه مصير هذين الشخصين، ولا يبدد الوحشة المخيفة لما آلت اليه الولايات الأمريكية من دمار ورعب، سوى العلاقة الإنسانية الحميمة بين الأب وولده الصغير الذي ظل يلقي الأسئلة البريئة على أبيه وهو ينظر الى مايحدق بهما من مخاطر، ليس أقلها أن يهاجمهما بعض الأشرار كما أطلق عليهم الأب.

 وحين يعترض طريقهما أحد الأشخاص ويمسك بالصبي كرهينة يطلق الأب النار عليه ويقتله، يتألم الصبي لذلك ويدور بينهما هذا الحوار الذي يقسم العالم فيه الى أشرار وأخيار فيقول الأب: (- أردت أن تعرف كيف يبدو الناس الأشرار. الآن تعرف ذلك. ربما يحدث لنا مرة أخرى. واجبي أن أرعاك. لقد كلفني الله بذلك. سأقتل أي شخص يحاول لمسك. هل تفهم ذلك؟- نعم, جلس قابعاً في البطانية. بعد برهة نظر الى أعلى. سأل: هل نحن مازلنا الناس الطيبين؟, - نعم. نحن مازلنا الناس الطيبين...) ص 79.

ومع أن الراوي يترك الإشارة الى التفاصيل المتعلقة بطبيعة الكارثة وزمنها، الا أنه يستغرق في تتبع الأحداث الصغيرة لهذين الشخصين وهما يواصلان الرحلة عبرالخرائب الرمادية بحثاً عما يأكلانه للتشبث بأذيال حياة تتهددها شتى الأخطار، ومنها طبعاً قسوة الطبيعة الشتائية القاسية، الأمر الذي يجعل منها مهمة شبه مستحيلة، فقد إنعدمت أسباب الحياة وصار لزاماً عليهما أن يظلا شريدين في العراء وتحت رحمة الطقس وتقلباته القاسية، ويأخذ الوصف لما يشعر به الأب من غربة تخالجها الهواجس وشيئاً من الذكريات الماضية مساحة كبيرة من السرد، وما تتميز به الرواية هو قدرتها على الإمساك بانتباه القارئ، لأن حالة من الترقب كتلك التي نستشعرها ونحن نشاهد أحد أفلام الرعب، تظل ماثلة لدى المتلقي الأمر الذي أمد هذه الرواية بالمتعة والحيوية.

 الا أن خلف ذلك كله يوجد معنى كامن، ورؤية يمكن التقاطها من خلال الجمل القليلة التي ظل الراوي ينثرها بين الحين والآخر، فضلاً عما تقود اليه الحكاية حتى في نهايتها بعد موت الأب وعثور إبنه على عائلة تحتضنه من الطيبين الذين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة، لعل في هذه الأسطر القليلة التي يختتم بها الراوي رواية الطريق، واصفاً سمك السلمون اشارة الى ذلك المعنى: (كانت تلمع وتنبعث منها رائحة الطحالب وهي تتلوى في يدك، وقد بدت على ظهورها رسوم على شكل ديدان تمثل خرائط العالم في صيرورته.

تلك كانت خرائط ودهاليز لشيء لا يمكن إعادته ولا يمكن صنعه من جديد. في الجداول العميقة حيث عاشت الأسماك كل الأشياء كانت أقدم من الإنسان وكان يلفها الغموض.) ص269.

أهي نبوءة بعودة الحياة بعد أن تنتهي ذات يوم بكارثة كونية؟ أم أنها الحنين الى الطبيعة البكر التي أفلتت من الحياة الإنسانية بسبب الجري الى بريق الحضارة وطموحات الإنسان الحديث؟

كل ذلك وارد في الحسابات النهائية التي يمكن أن تخالج تفكيرنا بعد قراءة رواية (الطريق) لكورماك مكارثي، ومع إنها لا تحمل فكرة بعيدة عما دأبنا على مشاهدته في بعض أفلام هوليود الحديثة، إلا أنها برغم ذلك تحمل سمة جديدة لا يمكن تجاهلها، السمة التي تذكر بجوهر الوجود الإنساني حيث يكون البحث عما هو روحي حاجة ملحة للإنسان المعاصر، ولو تحدثنا بلغة الرموز فإن بمقدورنا الإشارة الى أن احتراق كل شيء وتحوله الى رماد، ينبيء ولاشك بأن ما يصنعه الإنسان سيؤول في النهاية الى رماد مثلما يقول الكتاب المقدس، ووفق منطق الأسطورة توجد إمكانية عودة الحياة وانتعاشها من جديد، ولكن ليس عن طريق القتل وأن يأكل الناس بعضهم بعضاً كما نقرأ في (الطريق) وما يجري في العالم الواقعي، ولكن بالمحبة والنظر الى ما تنطوي عليه الحياة من فسحة حقيقية لإستعادة الحلم البعيد، حيث يجد الإنسان ملاذاً يحميه من شرور العالم، فليس في مظاهر الحضارة المؤذنة بالإحتراق من ضمان مؤكد لإنسانها الباحث عن الطمأنينة، وفي هذه اللوحة المؤثرة يصف لنا الراوي جزءً من المشهد العام:

(.. بدت على إمتداد الطرق بين الولايات عن بعد صفوف طويلة لسيارات اسودت وأصابها الصدأ، استقرت إطارات العجلات المعدنية العارية في وحل رمادي جاف من المطاط الذائب في حلقات مسودة من الأسلاك. تقلصت الجثث المحترقة حتى صارت في حجم الأطفال على الأسلاك المشدودة للمقاعد العارية , وقد دفنت في أفئدتها الثكلى عشرات الآلاف من الأحلام...) ص 256

إن هذه الأحلام التي تحرك الإنسان منذ البدء إنتهت الى التلاشي، ربما سيجد القاريء الذي إعتاد على نمط واحد من القراءات، حيث يواصل إغفاءته على إيقاع الحياة الأليفة ما يصدمه في رواية الطريق، كما صدمت قصيدة (الأرض اليباب) لإليوت القاريء العادي المبهور بإنجازاته الحضارية في أوربا، الا أنه لن يتمكن في النهاية من تجاهل الحقيقة التي حملتها الكثير من النصوص الإبداعية فيما يشبه النبوءة، وهي أن ليس بوسع حضارتنا الحديثة أن تقدم لنا كل شيء، وأن الناس لا بد أن يتساءلوا دوماً كما تساءل الولد الصغير في براءة طوال أحداث هذه الرواية: هل نحن مازلنا الناس الطيبين؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 26/أيار/2010 - 12/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م