تهميش العقل وتعظيم اللسان

عباس عبود سالم

يرجع الفضل في قيام الحضارات الانسانية الحالية الى اصحاب العقول، والمهارات الفكرية، الذين شيدوا الدول، ورسموا الافكار، وانشأوا الصروح العلمية، والابتكارات التي اسهمت لاحقا في تهميشهم، وصعود آخرين في عصور ارتسمت لها ملامح جديدة، تقدس السطحية وترفض الاصالة.

فمنذ القدم انقسمت المهارات البشرية الى يدوية، ولسانية، وفكرية.. وتوزعت كل المواهب الاخرى بين هذه المهارات بشكل او بآخر، وفي الحضارات والمجتمعات المتوازنة، والدول الناجحة، كانت القيادة وعلى مر العصور لاصحاب المهارات الفكرية.. القادة.. الفلاسفة.. والحكماء العلماء اصحاب الرأي.. واصحاب الخيال الخصب..

 وهؤلاء فضلهم الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه الكريم (يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة11، (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر9، كما شخصهم وعبر عنهم افلاطون في جمهوريته، والفارابي في مدينته الفاضلة، والماوردي في احكامه السلطانية، وجان جاك روسو في عقده الاجتماعي، وعبد الرحمن الكواكبي في كتابه ام القرى.

  اما اصحاب المهارات اليدوية فهم عادة مايمتلكون القدرة على توظيف خبراتهم، ومهاراتهم لبلورة وجودهم وتاثيرهم، والمهارة اليدوية تتدرج من حياكة السجاد وصنع الاواني الفخارية، وتصفيف الشعر الى اتقان الفنون والحرف اليدوية، وانواع الرياضة.

 وعادة مايكون اصحاب المهارات اليدوية اما حرفيين تمكنهم مهاراتهم من كسب المزيد من المال، او جنود اشداء يحترفون القتال، او عمال تطبعوا على انجاز عمل يتطلب شيء من الجهد، او فلاحين توارثوا مهنتهم وحفظوا الفصول الاربعة، ومواسم الزرع، او الحصاد، او مديرين ثانويين بالاستناد على رؤيتهم التكتيكية الميدانية، وفي كل الاحوال سيكونون تابعين يطيعون مايرسمه ويقرره اصحاب الرأي، والذكاء، والمشورة، والافق الاستراتيجي.

ويبقى لدينا اصحاب المهارات اللسانية فهم في دائم الاوقات مروجون لبضاعة الاقوياء حكاما كانوا ام فرسان، وفي الاغلب يعتاشون على قابلياتهم الكلامية دون ان يكون لهم موقف محدد، حتى لايخسروا مواقعهم مع تقلب السياسات، وزاول ملوك.. ومجيء آخرون، فهم الكهنة.. وشعراء البلاط ..وندماء الامراء.. وحواشي السلاطين..وبعض الوعاظ.

 ومن المفيد ان نلاحظ انقلاب المعادلة التي استمرت طيلة القرون الماضية، في عصر العولمة، والنظم الرقمية، والتدفق الحر للمعلومات، وصار اصحاب المهارات الفكرية ينزوون بعيدا عن الاضواء كصفحات مطوية لامعرفة للناس بها.. بينما يبرز اصحاب المواهب الكلامية الذين توزعت مهاراتهم بين الحنجرة.. واللسان.. وحركات الجسد.. تقدموا الصفوف..نجوم في الغناء او كرة القدم او الرقص او التمثيل او ادعاء السياسة، مستندين الى تقدم وسائل الاتصال لاسيما المرئية منها، وحاجة الناس الى التسلية.. والترفيه اكثر من اي شيء آخر، لذلك اختلفت معايير التقييم ومقاييس الثقافة فتراجعت الاصالة امام الاستهلاك، وباتت الوجبة السريعة اكثر قبولا من الوجبة الدسمة.

فلا غرابة ان نحفظ اسم وشكل ومواصفات ملكة جمال العالم ولانكترث بقضايا اخرى اكثر اهمية، ولا غرابة ان يكون مايكل جاكسون اشهر واهم من بيل غيتس، وان يعرف لبنان بهيفاء وهبي، واليسا.. ولا يعرف بجبران خليل جبران، ورياض الصلح، ومحمد مهدي شمس الدين.. وان تعرف مصر بفيفي عبده، ونادية الجندي وغيرها اكثر مما تعرف بتوفيق الحكيم، او يوسف زيدان، او احمد زويل.

او يختزل العراق بحضارته ورجالاته وعظمائه بشذى حسون، وماجد المهندس، او رحمة رياض احمد، بناء على ما امتلكوه من جمال في الحظ او الصوت، فيتقدمون الصفوف دون اكتراث بدراسة.. او تدرج وظيفي، او شرف مهني او غيرها من خواص المواطنة الصالحة او المتميزة.

اصبحت الحنجرة، او القوام، او قلة الادب وقلة الحياء مميزات يرتقي بها المرء قمة السلم الاجتماعي ليكون امرا واقعا على الجميع الاعتراف به.. والا شن هجومه اللاذع على من يصفهم (بالجهلة والاميين واعداء التمدن) والقصد اصحاب العقول الراجحة والثقافة الموزونة؟؟؟؟.(مع تقديرنا واكبارنا للفنانين الاصلاء).

لم يعد للعقول وزن في مجتمع مجنون، وعصر مجنون تتحول فيه التسلية الى غاية واصحاب التفاهة الى وجبة قابلة للهضم من قبل الجميع، وماركة لامعة تنفتح امامها صالات الشرف في المطارات، وتنهال عليها العروض، والجوازات الدبلوماسية، وربما يجذبها بعض السياسيين الى الدخول معهم او دعمهم في الانتخابات.

وعلى ذكر الانتخابات ففي حمى الصراع والنتائج، من المؤلم ان يتقابل صاحب لسان مع صاحب عقل على فضائية تحتقر العقل.. وتقدس ثقافة اللسان، ولكن الاكثر اثارة للالم هو ان ينتخب الناس اصحاب اللسان ويهمشوا اصحاب العقول، وهم اي الناس بكامل قواهم العقلية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 26/أيار/2010 - 12/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م