لهذه الأسباب انهارت القاعدة في العراق

صادق حسين الركابي

يبدو أن عمر تنظيم القاعدة في العراق بدأ يشارف على نهايته. فالضربات الموجعة التي تلقاها افراد هذا التنظيم والتي كان من أبرزها وليس آخرها مصرع أبو عمر البغدادي، أمير ما يعرف بدولة العراق الإسلامية ونائبه أبوأ يوب المصري أو المهاجر أدت إلى تقويض أركان هذه الدولة المزعومة. وقد أدى هذا التسارع الكبير في عمليات اعتقال قادة هذه الدولة وولاتها إلى التساؤل حول مصير تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.

فالمتابع لمسيرة الأحداث يرى وجود عدة عوامل تؤدي إلى تقويض وجود القاعدة في العراق واستحالة نجاح مشروعها في إقامة ما يعرف بدولة العراق الإسلامية.

فهذه الدولة المزعومة والتي أعلنت في العام 2004 هي غير واضحة المعالم وهي لا تمتلك مقومات الدولة سواء أكان هذا من الناحية التشريعية أو التنفيذية. حتى أن العديد من منظري التيار السلفي يشكلون على قيام هذه الدولة كونها تقوم في ظل الاحتلال حسب تعبير هؤلاء. كما أنها لم تقم على اساس الشورى على الرغم من اسم (مجلس شورى دولة العراق الإسلامية) الذي يطلق عليها.

ولا يخفى على أحد تبعية دولة العراق الإسلامية لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين واسامة بن لادن والظواهري المتواجدين في خارج العراق. وهذا أدى إلى عدد من الصراعات الداخلية بين قادة وأمراء التنظيم نفسه. فالبعض منهم رفض أن تكون أوامره صادرة ممن هو من خارج العراق والآخر أراد أن تكون سيطرته مركزية على مجمل التنظيم بما في ذلك إصدار الفتاوى. وقد ظهرت العديد من بوادر الشقاق والخلاف داخل صفوف هذا التنظيم من خلال الرسائل التي نجحت قوات الأمن العراقية في فكّ شيفرتها ومن خلال اعترافات بعض أفراد التنظيم الذين تم اعتقالهم.

وقد حاول البعض من منظري هذا التيار القضاء على هذه الإشكالية من خلال وضع شرط أن يكون أمير دولة العراق الإسلامية قرشيا ً في نسبه. وذلك بهدف حل إشكالية النزاع على السلطة التي زعزعت من تشكيلة هذا التنظيم وهرميته. وهذا ما حصل مع أبو عمر البغدادي الذي تولّى هذا المنصب بدلا ً من أبو ايوب المصري على الرغم من أن الأخير كان العقل المدبر لكل العمليات التي تمّت. وهو الأمر نفسه الذي حصل مع الأمير الجديد لهذه الدولة والمعروف باسم أبو بكر البغدادي الحسيني القرشي على الرغم من أن الأوامر الفعلية تصدر عن المغربي الجنسية والمعروف باسم الناصر لدين الله أبو سليمان الذي عيّن كوزير للحرب.

وللتمويه على هذا الصراع الداخلي على السلطة تم إدخال بعض الأمور الشرعية من التاريخ الإسلامي كقضية الخلافة وربط هذا الأمر على انه تجسيد لعلاقة الإسلام بالسلطة السياسية.

إلا أن كثيرا ً من مؤيدي الفكر السلفي يعتقدون بأن تشدد دولة العراق الإسلامية في الكثير من الاحكام الشرعية وصراعها مع العشائر العراقية، كانا من العوامل الاساسية في سحب البساط من أمراء هذا التنظيم في العراق. فقضية جواز خروج المرأة إلى مزرعتها بدون جلباب مع وجوب لبسها للنقاب على سبيل المثال كانت من جملة القضايا التي تشير إلى قلة الوعي والفهم التي تميّز بها من قام بإصدار هذه الأحكام. وهذا ما يعتبره بعض السلفيين ابتعادا ً عن الواقعية.

ويضيف هؤلاء بأن العراق ليس افغانستان ولا اليمن أوالصومال. فالشعب العراق شعب متعدد المذاهب والأديان والقوميات ولا يجوز التعامل بفكر منغلق مع الجميع ووفق معايير لا تتناسب مع الواقع والزمن الذي نعيشه. فقضية الاختلاط في التعليم كمثال آخر والتي حاربها أمراء هذا التنظيم في العراق وقضية التعصب الديني هي أمور أدت إلى توحيد العراقيين ضد فكر هذه الدولة المزعومة وتأليب معظم العشائر العراقية عليها. خاصة تلك العشائر التي اعتقدت القاعدة بأنها سوف تكون حاضنة لها في المنطقة الغربية من العراق.

إلا أن أمراء التنظيم ومن يواليهم لا يؤيدون هذا الاعتقاد ويميلون إلى الرأي القائل بأن نجاح الحكومة العراقية في تشكيل الصحوات والأموال التي أغدقت على هذه العشائر هي من ساعدت في نجاح الحكومة العراقية في إعادة سيطرتها على تلك المناطق.

ولا يخفى على أحد بأن دولة العراق الإسلامية هذه أخذت على عاتقها محاربة الشيعة في العراق وهم الغالبية السكانية في البلاد. وهذا أدى إلى فقدان القاعدة إلى الأرضية الصلبة التي تستند عليها. فهي فقدت تأييد السنة في المنطقة الغربية وبعض المناطق الشمالية واستعدت الشيعة في بغداد وجنوب العراق بل جعلتهم هدفا ً لحربها.

وهنا برزت مشكلة التجنيد والتمويل كمصادر مهمة في دعم عمليات القاعدة في العراق. فالشباب العراقي الذي يشكل غالبية سكان العراق كان من أبرز ضحايا عمليات التنظيم الانتحارية التي شنّها هنا وهناك. لذا فإن التوجه الشعبي صار متوحدا ً ضد وجود هذه الدولة المزعومة على الرغم من المحاولات اليائسة لإعطاء الصبغة الطائفية لهذا التنظيم من خلال استغلال أسماء بعض الصحابة وإطلاقها على أمرائهم وعملياتهم.

وللالتفاف على هذه المعضلة المتمثلة في صعوبة إيجاد من يقوم بهذه العمليات لجأ أمراء هذا التنظيم إلى عمليات الخطف والتهديد خاصة للنساء والأطفال وابتزاز عوائلهم للحصول على الأموال أو استخدام المخدرات للسيطرة على هؤلاء الشباب.

إلا ان التواجد الأمني المكثف وعمليات المداهمة التي قامت بها القوات العراقية والتشدد في مراقبة الحدود إضافة إلى تطور كفاءة القوات العراقية وطرق قتالها وتكتيكاتها كلها عوامل أربكت القاعدة وساعدت في تجفيف منابع التمويل والتجنيد التي كانت ترفد دولتها في العراق. وهذا ما أدّى إلى ازدياد حالات السطو على بعض المصارف والمؤسسات التجارية بغية الحصول على الأموال. وقد لوحظ ارتفاع عمليات السطو على محلات الصرافة وقتل واختطاف عدد من التجار في بغداد في العام 2009. حتى أن هذا التنظيم كان قد عيّن المدعو(طارق حسان عبد القادر) والملقب أبو ياسين الجزائري كمسؤول عن عمليات السطو المسلح على المصارف ومحلات الصاغة وشركات الصرافة في العراق.

ويبدو من خلال التحليل أن اعتماد دولة العراق الإسلامية على الأموال هو رئيسي في تمكنها من الاستمرار في عملياتها وهذا يتنافى مع المبدأ القائل بأن الناحية الفكرية والعقائدية هي من تحفّز على القيام بالعمليات الانتحارية والتي تعتبر استشهادية من وجهة نظر أمرائها. وقد أشار السيد إمام عبد العزيز الشريف المعروف (بالدكتور فضل) وهو الزعيم السابق لتنظيم الجهاد المصري في كتابه (مذكرة التعرية لكتاب التبرئة) إلى هذا الأمر. حيث أوضح أهمية عامل الشعبية لحصول تنظيم القاعدة على التبرعات والأموال وهو الأمر الذي تستخدمه القاعدة في خطاباتها الدعائية. إلا أن الخطاب الدعائي لدولة العراق الإسلامية بات غير قادر على تبرير أعمال القتل والدمار التي تستهدف المدنيين الأبرياء.

وهذا إن دلّ على شيء فيدل على الصعوبة التي يواجهها هذا التنظيم في إقناع الشباب العراقي والسنّي خاصة ً على اللحاق بصفوفه والانصياع لأوامره.

وهنا تبرز إشكالية جديدة تعيق قيام دولة القاعدة في العراق على خلاف ما هو موجود في الصومال أو افغانستان وحتى اليمن. فالسنة في العراق اصحاب مدرسة متطورة ومنفتحة على المذاهب الأخرى. أمّا دعاة الفكر التكفيري فهم قلّة وقد يكونون معدومين إذا ما قارنا العراق بالبلدان المذكورة آنفا ً. لذا فإن كل فتوى تخرج من أمراء دولة العراق الإسلامية يجابهها علماء السنة بفتاوى تحرم قتل الابرياء أو استخدامهم كدروع بشرية.

وهذا ما دعى الكثير من معارضي قيام دولة العراق الإسلامية من داخل التيار السلفي إلى الدعوة إلى الخروج من العراق بأسرع وقت ممكن وعدم الوقوع في مأزق يؤدي إلى هزيمة محتمة للقاعدة في بلاد الرافدين. ويشبه أحد مفكري التيار السلفي دولة العراق الإسلامية بكيس بلاستيكي منتفخ ومليء بالسائل، ما إن تحدث فيه ثقبا ً صغيرا ً حتى ينهمر السائل كله ويضيع وينتفي هذا الانتفاخ الكاذب.

ويبدو أن أمراء دولة العراق الإسلامية قد فقدوا القدرة على تحديد مفهوم الجهاد الصحيح فباتوا يرون في كل من يخالفهم مجرد الرأي عدوا ً حقيقيا ً يستوجب الهلاك والقتل. حتى لو كان هذا الطرف إماما ً لأحد المساجد.. كما حدث مع إمام مسجد بعقوبة الشيخ عبد الله جاسم شكور الصالحي الذي انتقد هذا التنظيم خلال خطبة صلاة الجمعة فكان جزاؤه القتل والتمثيل بجثته.

وقد حدث الأمر نفسه مع إمام مسجد قرية آل شاهين في بعقوبة الذي أعدم أمام أنظار عائلته لمجرد انتقاده لأفعال وتصرفات قادة تنظيم القاعدة تجاه العراقيين على حد سواء.

وكان عدد كبير من قادة القاعدة في خارج العراق وداخله قد أعلنوا في أوقات سابقة عن رفضهم لرؤية دولة العراق الإسلامية في استهداف المسلمين والتأثيرات العكسية لهذه التصرفات على شعبية هذا التنظيم وتهديدا ً لوجوده. وقد صدر عن أحد قادة القاعدة وهو المدعو (أبو محمد المقدسي) رفض صريح للتكفير وتنديد بتنظيم القاعدة بسبب عمليات القتل من دون تمييز. أما الشيخ (نجد الراوي) فقد حذّر من الإفراط في التكفير لأنه سوف يولد عداءً غير مبرر. كما نصح الشيخ (حامد بن عبدالله العلي) وهو أحد قادة الحركة السلفية في الكويت الجهاديين بالاعتراف بحرمة دماء المسلمين والكف عن استهدافهم.

أما (أبو يحيى الليبي) فقد حذّر من الأخطاء العملياتية التي تؤدي إلى سقوط ضحايا من المسلمين وتنفير شريحة واسعة منهم من القاعدة.

وقد أظهرت إحدى الدراسات التي قام بها مركز بحثي متخصص أن معظم ضحايا العمليات التي قامت بها القاعدة كانوا من المسلمين. وأوضحت الدراسة التي أجريت في الفترة الزمنية (2006-2008) إلى أن (98%) من مجمل ضحايا القاعدة كانوا من المسلمين على الأراضي العربية والإسلامية، بينما لم تتجاوز نسبة الأجانب الغربيين من القتلى جراء عمليات القاعدة (2%).

ولا يزال النقاش حول تحديد هوية العدو قائما ً في داخل صفوف التيار السلفي نفسه حيث يتم تفسير بعض الأحاديث على أنها تبرير لقتل المدنيين الأبرياء في حين يتم تجاهل أحاديث أكثر صراحة ووضوحا ً تحرم قتل الأبرياء وتحث على احترام النفس البشرية.

ويحاول أنصار الفكر السلفي الذي ينتمي إليه قادة وأمراء القاعدة حل العديد من القضايا الفكرية التي تؤثر على وجودهم كتنظيم ليس على الصعيد العراقي وحسب وإنما على الصعيد العربي والعالمي. لهذا فجدلية الصراع مع الحكومات العربية ما تزال في سلم أولويات هذا التنظيم. كما أن التناقض الداخلي بين مفهوم الدولة المزعومة والتنظيم المكون من عدة أفراد وجماعات يشكل عامل ضغط نفسي شديد على أفراد هذا التنظيم.

ويخشى أمراء القاعدة وعلى رأسهم من هم في خارج العراق من أن يؤدي سقوط دولة العراق الإسلامية إلى بداية سقوط كامل الشبكة في المنطقة العربية والإسلامية. لذا يفضل البعض منهم الخروج من العراق حفاظا ً على ماء الوجه وللإبقاء على الصورة الإعلامية للتنظيم كقوة لها فعاليتها، على الأقل في أذهان مناصريها.

ويُشكل البعض على دولة العراق الإسلامية المزعومة بقاءها في إطار السرية وعدم قدرتها على التحرك بصورة علنية كما هو الحال لأعضاء هذا التنظيم في بلدان أخرى كأفغانستان وباكستان والصومال. التي يخرج افرادها بين الحين والآخر على شاشات التلفزة للتهديد والوعيد. في حين يبقى تحرك أمراء القاعدة في بلاد الرافدين محصورا ً في مناطق محدودة ومعتمدا ً على بعض الرسائل الشفهية وبعض البيانات المنشورة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت).

ولدحض هذه الصورة قامت القاعدة مؤخرا ً ببعض العمليات اليائسة التي استهدفت أحياء وأبنية سكنية وعمالا ً وموظفين في مناطق سكنية لا وجود فيها لقوات أمنية أو حكومية. الأمر الذي فسّر على أنه الرمق الأخير في عمليات تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.

ومن المشاكل الكبيرة التي يواجهها أفراد القاعدة في العراق افتقارهم إلى الغطاء الجغرافي الذي يحصلون عليه كما هو الحال في كل من افغانستان واليمن حيث التضاريس الجبلية والوعرة. فالعراق أرض منبسطة صحراوية يصعب الاختباء فيها أو حتى القتال وصد الهجمات المضادة كما يحصل مع مقاتلي القاعدة في المغرب أو اليمن وافغانستان. مما أجبر العديد من هؤلاء على الاختباء في المدن والأحياء السكنية. وقد أدى هذا إلى مزيد من النقمة الشعبية على أفراد هذا التنظيم واستحالة تقبل وجودهم ككيان ملطخ بالدم في داخل الدولة.

لذا فإن دولة العراق الإسلامية المزعومة وبحسب توقعات منظري التيار السلفي ذاته هي أمر غير منطقي ولا واقعي وهي دولة وهمية لا وجود لها إلا في أذهان من يحلمون بالسلطة والإمارة. وينصح هؤلاء بالخروج من العراق بأسرع وقت ممكن والبحث عن بديل أو التركيز على اليمن والصومال وأفغانستان. في حين يدعو البعض الآخر إلى الالتفات إلى النواحي الفكرية والعقائدية لتأسيس فكر أكثر انفتاحا ً على الآخر مع مراعاة الظروف الموضوعية والمؤسساتية لقيام الدول. ويستشهد هؤلاء بهجرة الرسول الأكرم (ص) إلى المدينة وكيفية تأسيسه لدولته وذلك على الرغم من الاختلاف الشديد بين أفكار رسول الله (ص) وأفكار هؤلاء.

ويحاول بعض متشددي التيار السلفي تجنب أية هزيمة محتملة للقاعدة في أي بقعة من العالم مع الإيحاء بأن قادة هذا التيار هم المقاوم الوحيد والشرعي للمشاريع المعادية للإسلام في العالم.

إلا أن ّ هذا يفسر من قبل البعض بأنه نزاع على مركز الصدارة في زعامة العالم السني المسلم.

ويحاول هؤلاء تجنيب مشروعهم الجهادي صفة القطرية والابتعاد عن تأليب الحكومات العربية ضدهم. لذا فهم يحاولون الخروج من هذا الإطار إلى إطار أكبر وأوسع. كما أن هذا الرأي يتناسب مع رغبة البعض في تصدير أزماته إلى العراق وإبعاد من يسمّون بالمتشددين عن أراضيه. فالعراق من وجهة نظر هؤلاء يجب أن يكون ساحة للصراع وأن يبقى مركزا ً لاستقطاب الأفراد والجماعات المتشددة من كل حدب وصوب. إلا أن الواقع الذي تعاني منه القاعدة في العراق يجبر العديد من السياسيين والمنظرين على تغير حساباتهم والبحث عن بديل آخر للعراق في اقرب وقت ممكن.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/أيار/2010 - 6/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م