ليست مديونية اليونان حدثا معزولا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد
علاقة بين وزارة المالية اليونانية ومصرفا محليا أو أجنبيا يمكن
تجاوزها بإعادة جدولتها، أو اصدار سندات خزينة بمقدارالمبلغ المستحق
ودفعه حالما تتوفر السيولة المطلوبة. ما يواجه اليونان منذ أمد ليس
بالقصير هو تبعات كارثية لسياساتها الاقتصادية الخاطئة السابقة التي
شكلت آلياتها المالية نقطة الضعف فيها وأكثرها مجلبة للمخاطر.
فقد رافق استخداماتها الكثير من الأخطاء الجسيمة التي لا يغفرها
لها أحد، لا بين الناخبين ولا بين شركائها في الاتحاد الأوربي، لكنها
من الجانب الآخر قد لاقت تشجيع المقرضين وهم مجموعة المؤسسات المالية
والمصارف العالمية والمحلية المستعدة دائما لتوظيف أموالها، ولذلك لاذت
بالصمت وهي تراقب اليونان تغرق في الديون. لقد وجد المقرضون فرصتهم،
لأن مليارات الدولارات المستثمرة في تلك الديون، تجلب لها المزيد من
الأرباح التي تتراكم على مدى السنين عبر خدمة الدين التي على اليونان
دفعها في نهاية المطاف، والمصارف تعرف جيدا إن الاتحاد الأوربي سيهب
لانقاذها من الغرق. وتكمن أخطاء سياسة اليونان الاقتصادية التي أدت إلى
تراكم هذا الكم الهائل من الديون في الآتي:
1 – لقد استسهلت الحكومات اليونانية السابقة الاقتراض دون التفكير
بمسئولية بمجالات استخداماته في الأنشطة الاقتصادية المدرة للدخل،
وبذلك أضاعت فرص تعظيم ناتجها القومي من السلع والخدمات، رغم أنها
تمتلك قطاعا عاما واسعا ومؤثرا يمكنها تسييره والتحكم به لصالح
حفزالتنمية الاقتصادية وديمومتها. فلم تستثمر القروض التي حصلت عليها
خلال العقد الماضي في مشاريع صناعية تصديرية جديدة يمكن أن تزيد من
موارد الصادرات، أو في اقامة صناعات تنتج سلعا بديلة للاستيراد فتخفف
من أعباء ميزان مدفوعاتها.
2 – لقد بالغت اليونان بقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاه
الدائنين، في وقت تشير كل الدلائل على عكس ذلك، فعلى أي أساس ذهبت
باعتمادها على الاستدانة، وهي تعرف أن خدمة الدين العام تتزايد باضطراد
مع كل يورو يضاف إلى دينها ومع كل يوم تتخلف فيه عن مواعيد السداد، حتى
بلغت الخدمة لوحدها 45 مليار دولارا أمريكيا حاليا؟
3 – إن اليونان باسرافها في الاستدانة قد عرضت النمو الاقتصادي
المتواضع لخطر الانكماش والتباطؤ لسنين طويلة قادمة، وربما كانت
توقعاتها المتفائلة بنمو مستدام وراء المبالغة في الاستدانة، ما يعني
أن تلك التوقعات كانت في غير محلها.
فلو وجهت القروض لاستثمارات في الحقول الصناعية التصديرية أو في تلك
البديلة للاستيراد لكانت إيرادات تلك المنتجات قد ساهمت في سداد تلك
القروض أو على الأقل سداد جزء منها. يلقي الاستاذ فؤاد النمري في مقاله
التحليلي المهم لأزمة اليونان المالية المنشور في 14 /5 الجاري في
الحوار المتمدن العدد 3004، الضوء على سبب آخر مهم للهاث اليونان نحو
الاستدانة من السوق الدولي، حيث يرى أن " الحكومات اليونانية المتعاقبة
دأبت على الإنفاق أكثر بكثير من واراداتها تحقيقاً لدور دولة الرفاه
ومن أجل كسب رضا الشعب وصوته في الإنتخابات، ولم يكن من وسيلة لتغطية
عجوزات الموازنة المتفاقمة سوى الإقتراض من البنوك ".
نحن من جانبنا ومع تأييدنا لهذا الرأي كتفسير لدافع الاستدانة،
نعتقد أن الحكومة اليونانية أو أي حكومة في العالم تجازف بحاضر ومستقبل
الاستقرارالاقتصادي في بلادها لمجرد رغبتها بالفوز برضا الناخبين، لا
يمكن أن تكون مؤهلة لدورة انتخابية جديدة. فحكومة تفاقم ديونها إلى هذه
الدرجة، لتبلغ حوالي 300 مليار دولارا أمريكيا، أي أكثر من 115 %
ناتجها المحلي الاجمالي لعام كامل، دون أن يكون دافعها رفع معدلات
النمو الاقتصادي هي حكومة فاشلة بكل المقاييس.
اليونان مطالبة أن تتخذ اجراءات لاعادة التوازن إلى ميزانياتها
المالية، وإجراءات أخرى على مستوى الاقتصاد الكلي تساعد على الخروج من
الركود والسعي لتحقيق الانتعاش الاقتصادي وزيادة معدل نموه. لكن
الانتقال بالاقتصاد من وضع الانكماش إلى وضع الانتعاش لن يحدث قبل أن
تنفذ سياسة التقشف التي رافقت حزمة الانقاذ المالية التي وعد بها
الاتحاد الأوربي البالغة أكثر من 110 مليارات دولارا، يضاف اليها حزمة
أخرى من صندوق النقد والبنك الدوليان.
يتوقع المحلل الاقتصادي مارتن فيلدشتاين في مقاله المنشور في "
الاقتصادية "* السعودية والمعاد نشره في موقع الاسواق العربية، الأسبوع
الماضي " أن يهبط الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي يتجاوز 4 %، الأمر
الذي لابد أن يدفع مستويات البطالة إلى مزيد من الارتفاع. وأن فرض
ضرائب أعلى وخفض الإنفاق الحكومي، من شأنه أن يتسبب في انخفاض موازٍ في
العائدات الضريبية وزيادة موازية في نقل دفعات الإعانة إلى العاطلين عن
العمل. كما يعني بالتالي أن الزيادة الضريبية المقررة وخفض الإنفاق
الحكومي الأساسي لا بد أن يكونا أكبر من 10 % من الناتج المحلي
الإجمالي حتى يتسنى تحقيق هدف خفض العجز في الميزانية إلى 3 % من
الناتج المحلي الإجمالي ". ويرى أيضا، " إن تعزيز الموقف المالي سيكون
أسهل وأقل إيلاماً لو كانت اليونان تتصرف بموجب سياسة نقدية خاصة بها
". ويخرج المحلل برأي يشكل ربما مفاجئة لدول الاتحاد الأوربي، حيث يرى
" أن العجز الضخم الحالي في الميزانية العامة ناتج بشكل رئيسي عن عضوية
اليونان في منطقة اليورو. ولأن اليونان تركت عملتها الخاصة منذ ما يزيد
على عقدٍ كاملٍ من الزمان فإن إشارات السوق التي كانت لتحذر اليونان من
أن ديونها تنمو إلى حدٍ غير مقبول من الضخامة لم يكن لها وجود."
ومن اجل تحاشي تكرار المثال اليوناني فقد أصدر الزعماء الأوربيون في
ختام الاجتماع الذي عقدوه أخيرا في بروكسل بعد موافقتهم على حزمة
المساعدة لليونان جاء فيه **: ان كافة المؤسسات الاوروبية بما فيها
المصرف المركزي الاوروبي ستستخدم "كل الادوات المتوفرة لها لضمان
استقرار منطقة اليورو."
وقال باروسو الرئيس التنفيذي للاتحاد الاوربي في مؤتمر صحفي عقد عقب
انفضاض الاجتماع "إننا سندافع عن اليورو مهما كان الثمن. لدينا آليات
متعددة تحت تصرفنا وسنستخدم هذه الآليات عند الضرورة ". و قال: "إن هذه
الخطط الجديدة ستنفذ ضمن السقف المالي للميزانية الحالية ". ويأمل
زعماء دول منطقة اليورو في تفعيل آلية الضبط الجديدة (التي ستتوفر لها
ميزانية تبلغ 70 مليار يورو) قبل افتتاح الاسواق في الفترة القصيرة
القادمة، وذلك لتطمين المستثمرين القلقين من احتمال انتشارالازمة
اليونانية الى غيرها من الدول ذات العجز المرتفع والنمو الضعيف
والتنافسية المنخفضة. ونقل عن المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل قولها
" إن هذه الآلية ستبعث "برسالة واضحة جدا" الى المضاربين في الاسواق
لايقافهم عند حدهم " لكنها لم تحدد من أولئك المضاربون لتحميلهم
مسئولية الأزمة المالية اليونانية، بدلا من تحميلها الشعب اليوناني
الذي وقع فريسة أولئك المضاربين وحكوماته المغامرة.
......................
* فيلد شتاين – مجلة الأسواق العربية - 15 / 5 /
2010
** بي بي سي البريطانية / 10 /5 / 2010© BBC 2010 |