ثورة الاستهلاك وانتقال السلع بين اجنحة العالم والتداخل بين
القارات وانتقال الثقافات عبر الحدود والمحيطات من خلال الاتصالات
والبث الفضائي وشبكة المعلومات العالمية الانترنت، توهم بتقديم بدائل
اكثر بريقا لكل ما هو سائد في مجتمعاتنا العربية والاسلامية.
وهج المعلومات وتراكم الثقافات في أطر فوضوية صادمة اخذت تربك
المجتعات كلها في مختلف بقاع المعمورة، حتى في تلك البلدان التي تعتبر
نفسها مبشرة ومصدرة للثقافة العولمية، اذ صارت هي الاخرى تخشى على
تقاليدها وثقافتها مما قد يسمى عولمة معاكسة او غزو ثقافي مضاد.
بلدان الشرق ومجتمعاته ومنها العربية والاسلامية والتي تعتز بقيمها
واخلاقياتها وتقاليدها المتوارثة وعموم ما قد يعرف بانه من ثقافتها
امسى تحت طائلة التهديد بالاندثار او التشويه او النسخ بما هو مستورد
من ثقافات غربية، يبتني ـ هذا المستورد ـ في اسسه وجذوره على تقديم
الانسان كقيمة عليا والسعي لاشباع رغباته وغرائزه وتطلعاته سواء كانت
مشروعة او غير مشروعة، وهو ما يرتبط اقتصاديا بتوسيع دائرة الاستهلاك ؛
لكن فتح مثل هكذا باب يتنافى تماما مع القيم الشرقية والاسلامية
بالتحديد.
وليس رفض هذا النزوع نحو ثقافة مغايرة منطلق من اسس عاطفية مزاجية،
بل هو من دواعي الحفاظ على رصيد تراثي وموروث ثقافي اجتماعي يمتد الى
ازمان بعيدة، لا يصح ابداً إلغاءه والقضاء عليه بكبسة زر. وهذا امر
اتفقت عليه كل المجتمعات ذات الموروث الحضاري والقيمي، بل حتى من لا
تمتلكه ولازالت في طور تأسيس ثقافة اجتماعية ناشئة، كما اشرنا الى موقف
مجتمعات مصادر الثقافة العولمية.
إن تسويق الثقافة على انها سلعة تنتجها شركات متعددة الجنسيات او
مراكز بحث مؤدلجة لجهات خاضعة للنظام الرأسمالي يهدد بخطر العمل على
ازالة كل ما سيقف بالضد منها في بلدان السوق الاستهلاكية من قبيل القيم
الدينية والاخلاقيات التي تحظر تداول سلع معينة وتضيء امامها ضوءاً
احمرا، لكن المؤسسات الراعية للعولمة لا تؤمن بهكذا محرمات وتريد
ازالتها سريعا للهيمنة على السوق وطرح بضائعها والترويج لها واقناع
المستهلك بكل ما يعود عليها بالربح.
الحديث عن هوية عالمية مصنوعة على اساس تحقيق المنفعة لجهات محددة
وتحت ظل نظام اثبت فشله في عقر داره، لهو من دواعي السخرية، فهل يمكن
للنظام الرأسمالي المتخلخل والذي يحمل في اعماقه بذرة نهايته ان يجتاح
ويقضي على انظمة حضارية وقيمية رصينة متجذرة في التاريخ؟! حتماً ليس
هذا مما يقول به العقل والمنطق.
ربما أثّرت اذرع التبشير العولمي من خلال تفاعل ما تبثه بشرائح
سطحية عديمة الارتباط بهويتها، الا ان تأثيرها شبه معدوم في أولئك
الذين تأصلت فيهم هويتهم، وليس الاختراق هنا متأتٍ من خلل في الهوية
ذاتها وانما في بعض من يدّعون الانتساب لها ولم يفهموها او لا يريدون
ان يفهموها اصلاً.
من الخاطئ طبعا القول برفض كل ما تجلبه العولمة عبر ادواتها
التواصلية للمجتمعات المتحفظة، ومنها مجتمعاتنا الاسلامية، إذ فيها
النافع والضار على حدٍ سواء، ولكن من مهام النخب الفاعلة إيجابيا في
مجتمعاتنا والمؤسسات الثقافية الحكومية والمدنية تنقية وفلترة الوافد
من الغرب، خصوصا المنتجات الفكرية والثقافية، وكل ما يمس القيم
والتقاليد والثوابت الاجتماعية الاصيلة، وكذلك العمل على ابراز الضامر
في ثقافتنا وترصين ما هو شائع منها ونشر الوعي المضاد لكل ما يهدد
باستلاب الهوية وتذويبها في هوية عولمية لا يمكن الاطمئنان بنزاهة
دعاتها.
* كاتب وقاص عراقي
[email protected] |