أسطورة الخلاص العراقية

لاشيء من قبلي وكل شيء من بعدي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تتعدد تعريفات الأسطورة ووظائفها لدى معظم الباحثين حسب المناهج والمدارس التي ينطلقون منها.

ففي حقل الدراسات الاجتماعية يختلف تعريفها ووظائفها عن الحقل الانثروبولوجي او الحقل السياسي الحديث نسبيا – في تعاطيه مع الأسطورة – وتختلف عن الحقل النفسي، الى آخر الحقول الدراسية والمناهج والمدارس. ولكن يمكن القول ان الأسطورة في كل اللغات الأوربية تعني شيئا ممثولا، موهوما، متخيّلا.

يرى كلود ليفي ستروس، (إنه مهما قلّبت الاساطير على اختلاف أوجهها، فيبدو أنها تظل مقتصرة على كونها لعباً مجانياً (الاناسة البنيانية، كلود ليفي ستروس)، بينما يرى بيار غريمال أن الاسطورة لا غاية لها في ذاتها. نصدقها أو لا،  بايمان لدينا، إذا وجدناها جميلة أو واقعية، أو إذا أحببنا تصديقها. (الميثولوجيا اليونانية، بيار غريمال)

أما رولاند بارئيز، فقد شخص لها وظيفة سلبية، وخطيرة جداً حين قال: (إن الغاية الوحيدة من الاسطورة هي تجميد حركة العالم) (الاسطورة، راثفين).

وقد حدد الباحثون أربعة نماذج تتخذها الأسطورة في تأثيرها على سلوك متعاطيها وهو المخيال الجماعي يمكن إجمالها في:

1‌- (أسطورة الخوف) والمؤامرة و التي تحاول أن تقدم المحيط كشيء معاد و مقلق للجماعة باستمرار.

2‌- (أسطورة المنقذ)، أي الشخص/ المفتاح لتحقيق الأماني الكبيرة للجماعة (الفاتح العظيم، بطل التحرير القومي، الرفيق، القائد الضرورة...) و هو في نفس الوقت المخلّص من الأزمة الخانقة.

3‌- (أسطورة الوحدة) التي تحاول جمع و حشد و تعبئة الإرادات ضمن إرادة و إطار وحدوي  مخطط للمستقبل الزاهر الأفضل للجماعة.

4‌- (أسطورة العصر الذهبي) و التي تقوم على مرجعية حنينية لزمن مضى يتخذ طابع الكمال في المخيال الجماعي للمجتمع.

اما عن الذهنية الاسطورية فانها تتجلى خصوصا من خلال استعدادها لتقبل العجائب والغرائب.

ويرى أرنست كاسيرر أن إعادة تصنيع الأساطير السياسية الكبرى تتطلب (إحداث تغيير كبير في مهمة اللغة؛ بحيث يصبح للكلمة بُعد سحري يتجاوز بُعدها الدلالي، أو بصورة أدق: يصبح للكلمة مهمة قيمية تتجاوز وصف الأشياء والعلاقات بينها، بل تتعداها في سعيها إلى إحداث أثر سحري فيمن يخاطبهم صناع الأسطورة لتضفي شرعية على الأسطورة).

ومن وجهة نظر المفكر الفرنسي (ريجيس دوبريه) في نقده للعقل السياسي؛ فإنه لا شيء يشبه الساحر إلا السياسي المعاصر، فكلاهما كاهن: الأول في معبده السحري يتمتم بكلمات سحرية قليلة مؤثرة تضمن له تبعية القطيع البدائي واستسلامه، والثاني -أي السياسي المعاصر- كاهن جديد لأسطورة جديدة، عليه أيضًا أن يحافظ على تمائمه السحرية ويحفظها عن ظهر قلب، وأن يحافظ على مكره السياسي الشديد ليضمن نجاح أسطورته السياسية الجديدة لنقل أيديولوجيته السياسية الجديدة؛ فلا شيء يشبه الأيديولوجيات السياسية الجديدة إلا الأساطير السياسية الجديدة، كما ترى هبة رءوف عزت أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة.

يرى الكثير من الباحثين ان القوميات والاشتراكيات قد شكلت أفضل نموذج لانبعاث الأساطير والأسطوريات الجديدة في أوربا القرن التاسع عشر. وهي تقدم دليلا آخر على عدم اكتفاء الكثيرين بالأسطورة ذات الطابع الفردي وانتقالهم الى إنشاء أساطير جماعية..

وفي بلداننا العربية شكل هذان النموذجان مفتاحا للولوج الى الأساطير السياسية المؤسسة للكثير من السياسات العربية وأيضا لخيبات الأمل والاندحار والتراجع..

فالقومية العربية في الاربعينات من القرن المنصرم في استعارتها للنموذج الألماني أسست لأساطيرها (الوحدة العربية) في كتابات المؤسسين الأوائل لحركة البعث العربي ولاحقا في تطبيق عملي باء بالفشل الذريع (الوحدة السورية – المصرية) (الاتفاق القومي المشترك)، ومثل اخر ايضا لهذه الاساطير وهو الاشتراكية الذي كان استعارة غير موفقة ايضا للتجربة السوفياتية السابقة ويمكن مشاهدته ونتائجه في تجارب (العراق – سوريا – اليمن) وما آلت إليه اقتصادات هذه الدول بعد عقود من هذه الأسطورة.

اما الخلاص فهو صفة كل اسطورة جماعية او مجمع عليها تربط تعبئتها للمجتمع المعني بنقلة كيفية وفردوسية من حاضر مسدود الافق الى حد لا يطاق،  الى مستقبل مفتوح لكل الصبوات وعلى كل الامال، كما يرى جورج طربيشي في الديمقراطية والاحزاب في البلدان العربية/مركز دراسات الوحدة العربية.

في الواقع السياسي العراقي ظهرت الكثير من الاساطير السياسية التي انساق لها الكثير من الناس البسطاء وصوتوا للقوائم التي تحمل وعودا كثيرة بالتغيير دون النظر الى اشتراطات هذا التغيير، وانساق المثقفون  ايضا للترويج لمثل هذه الاساطير والتي تعد مفارقة كبرى على حد تعبير الباحث اللبناني خليل احمد خليل (معجم المصطلحات الاجتماعية – بيروت – 1995) فهو يرى ان المثقف اخذ مكان الاكليروس الفاقد اهليته والذي جعل من نفسه مبدعا جديدا لاساطير وديانات.  

فقد اكتشف المثقف ميدانا جديدا يسعى لكي يصبح كاهنه انه ميدان السياسة: العلم السياسي الذي يعتبر علم العلوم.

ولا نجد مثل القائمة العراقية في هذه السطور خير معبر عن هذه التوجهات الجديدة في صنع الاساطير السياسية في الواقع السياسي العراقي،  الذي يكشف عن رثاثة سياسية تنسحب على العقل السياسي العراقي طيلة السنوات السبع المنصرمة في امتداد لرثاثة متاصلة منذ عقود طويلة.

لنأخذ بعض الأمثلة على ذلك ونبدأ من آخر الأساطير والتي ظهرت بعد إعلان اندماج ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني.

من المعروف إن الكثير من أعضاء القائمة العراقية بعثيون سابقون (لست في وارد إدانة الانتماء العقائدي السابق) منهم من آمن بالتغيير على مضض ومنهم من لازال متشبثا بوهم العودة الى الوضع السابق، أدانت القائمة العراقية وعلى لسان الكثيرين من أعضائها هذا الاندماج ووصفته بالطائفي، وهي ترى –وهنا المفارقة المؤسسة لهذه الأسطورة- إن من كان بعثيا فيما مضى قد أصبح ديمقراطيا الآن، و(الديمقراطية تجبّ ما قبلها) تماهيا مع المفهوم العقائدي الديني (الإسلام يجبّ ما قبله)، ولكن من كان طائفيا -بغض النظر عن صحة التوصيف أو الشروط الموضوعية لتحققه- فأنه يبقى طائفيا وهنا يقع التناقض بين الحالتين.

أسطورة أخرى تروج لها القائمة العراقية وهي ان العراق في عهدها الموعود سيتحول الى جنة خضراء تحج اليه قوافل المتعبين والمنهكين والمهجرين والمهاجرين وسيشهد عودة الكفاءات المهاجرة والطيور المهاجرة الى آخر الأصناف المهاجرة،  وهي في هذه الأسطورة أيضا لا تنظر الى شروط التأسيس لمثل هذه الجنة الخلاصية الموعودة والموهومة، وإنها ستحسن من وضع المواطن العراقي الاقتصادي من خلال توفير الوظائف وفرص العمل.

هل ستكون هناك معالجة للبطالة في ظل تضخم جاهزة الأمن والدفاع برواتب شهرية تبلغ خمسة مليارات دولار؟ وهل ستكون هناك معالجة سريعة لأزمة الكهرباء المتفاقمة  بسبب شح المياه والحاجة الى مبلغ 34 بليون دولار لا يمكن توفيرها الا عن طريق الاستثمار الاجنبي مع رقود قانون الاستثمار على طاولة المشرعين وعدم إقراره حتى الآن؟ وهل يمكن الحديث عن اعمار البنى التحتية مع الحاجة الى 200 مليار دولار لا يمكن لاي حكومة عراقية توفيرها في المدى القريب المنظور وهي التي تستدين من صندوق النقد الدولي سبعة مليارات دولار لبعض المشاريع و250 مليون دولار لرواتب بعض الدرجات الخاصة للعام 2010.

أسطورة أخرى تروج لها القائمة العراقية وهي أسطورة محاكمة الفاسدين في الحكومة الحالية، وتتناسى ملفات الفاسدين في حكومة علاوي الأولى (الدفاع- الداخلية- الكهرباء)، والتي أسست لمشروعية الفساد والنهب العام والهروب بما خف حمله وغلا ثمنه تحت حماية الجنسية الثانية التي يحملها الوزراء الفاسدين.

وهي ايضا تروج لأسطورة دولة المؤسسات وحكم القانون الذي تباركه حين يكون لصالحها (اثبت القضاء العراقي انه مستقل، صالح المطلك / بعد السماح للمشمولين بقانون المساءلة والعدالة الاشتراك في الانتخابات) لكن هذا القانون سرعان ما يصبح (وصمة عار في جبين القضاء العراقي) ظافر العاني / بعد صدور قرار قضائي بتجريد بعض المشمولين بقرارات المساءلة والعدالة من عضويتهم البرلمانية.

وأما عن المؤسسات فلا ادري ما هو المقصود بها؟ هل هي بنايات ودوائر جديدة غير التي نعرفها والتي تشكلت على أنقاض العهد السابق او استحدثت بعد العام 2003 او هل المقصود بها تشريعات وقوانين جديدة تنظم عمل هذه المؤسسات التي لم تستطع وطيلة سبع سنوات من التخلص من العمل بقرارات وقوانين صدام حسين الا بالقليل من هذه القوانين التي شرعها مجلس النواب والتي كانت محل اخذ ورد وجذب وشد بين النواب تبعا لمطالب واشتراطات الكتل التي تمثله؟

هل سيكون الوضع مختلفا هذه المرة فلا تكون هناك اشتراطات ومطالب لهذه الكتل عند النظر في التشريعات وإقرارها كقوانين نافذة والقائمة العراقية لا تملك غير91 مقعدا ليس بإمكانها تمرير أي قانون دون موافقة ثلثي الأعضاء وربما أكثر.

أسطورة أخرى، وهي هنا ليست خاصة بالقائمة العراقية وحدها،  فالقوائم الأخرى تشترك معها أيضا في هذا النوع من الأساطير، وهي أسطورة تمثيل الشعب العراقي بغض النظر عن النسبة العددية لهذا التمثيل.

حيث صرح هاني عاشور المستشار الإعلامي لأياد علاوي بان قائمته تمثل أصوات الشعب العراقي، وهو هنا قد حددها بتسعة ملايين (السنة الذين صوتوا للقائمة) (قناة الشرقية / نشرة أخبار التاسعة مساءا ليلة  6/5/2010)، وهو ضمنا يمارس نوعا من الإقصاء لأكثر من 15 مليون ناخب صوتوا لبقية القوائم الفائزة (الرقم هذا على أساس عدد المقاعد التي فاز بها المرشحون)، فهو يرى إن الإجماع قد تحقق بهذه الملايين التسعة والتي هي مطلق الشعب العراقي.

والإجماع المطلق كما هو معروف من أوهام الإعلام الاستبدادي الذي أخذت الشرقية على عاتقها إعادته الى الواجهة الإعلامية العراقية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/أيار/2010 - 28/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م