حين يصبح الفساد نهجاً ومذهباً ونمط حياة

د. يوسف السعيدي-العراق

الفساد لا ينشأ من تلقاء نفسه، بل يوجد حيث يوجد المفسدون، و لا يمكن أن ينجو منه أحد في دائرة تأثيره، ولا يمكن لأي إصلاح جدي أن يتم في وجوده، وقضية محاربته مطروحة وبإلحاح شديد منذ أمد بعيد، ومع ذلك فوتيرته لم تتناقص، بل ارتفعت درجته واتسعت رقعته، وطوق نفسه بمناخ من أوجه الفساد الصغيرة التي أوقعت أناسا من مستويات أدنى.

 واستطاعت البيروقراطية الفاسدة أن تبقي عليه نهجا ومذهبا بل واصبح نمطا معيشيا نحيا فيه، لأنه حين يعم الفساد لا يعود بوسع أحد ألتحدث عنه أو الإعتراض عليه طالما أن دائرته اتسعت فشملت شبكة واسعة من مصلحتها غض النظر أو السكوت عما يدور، إذ يلجأ المفسدون إلى إشاعة نهجهم الخاص على أوسع نطاق ممكن بين ضعاف النفوس، بحيث لا يعود بوسع أي أحد الاعتراض أو الاحتجاج ضده، عملا بالقاعدة القائلة أنه إذا اراد الفاسد حماية نفسه فإن عليه أن يفسد سواه أيضا، فما أن يعم الفساد و يتورط فيه الكل حتى تتكون آلية تضامنية تلقائية بين المفسدين يتستر فيها الكل على الكل، فلا ترى، بعدها، من هم عناصر الفساد أو الفساد نفسه.

 وبذلك لا يصبح امر الفساد محصورا في بضعة أشخاص فاسدين إنما يتحول إلى منهج متكامل يوفر أصحابه البيئة المناسبة لتعميمه وتحويله إلى وضع أليف يصبح معها مجرد النقاش حول الفساد ضرب من العبث، حينها يفقد الفرد قدرته على المقاومة بالتدريج، وتعلو لديه نوازع الأنانية، ويتخلى عن مبادئه وقيمه كما يتخلى عن إحترامه للقانون والنظام، ثم ينتهي به الحال إلى التخلي عن إنسانيته وإحترامه لذاته وللآخرين، وأى خطوه لمحاربته تلقى مجرد احاديث تجعلنا سعداء حين نسمع أو نقرأ انه جرى ضبط بعض بؤر الفساد، وان إجراءات ستتخذ ضد من يثبت تورطهم فيها، ونكون أكثر سعادة حين نقرأ أو نسمع أن لا أحدا من الفاسدين سيكون محميا من المحاسبة، لكن كثيراً ما يجري تقديم أكباش فداء غالبا ما يكون أصحابها في دائرة الحلقات الأضعف، أو من الذين انتهت صلاحية استعمالهم، ويقدم الأمر على أنه حملة لمكافحة الفساد والتي تنتهى بالتهليل والتصفيق، وتعود كل حليمة إلى عاداتها القديمة راضية مرضية ولا خوف عليها ولا هي تحزن. فيما الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، وأكبر منه بكثير.

الفاسدون والمفسدون:

الفساد هو مجموعة من الظروف البيئية غير السوية التي تسهم في نمو المفسدين والفاسدين، فحينما تغيب الرقابة عن الأداء يكثر الفاسدون، وحينما توكل الرقابة للفاسدين تزداد سطوة المفسدون، ويصبحون هم من يتبنى تأصيل وتنظيم وقيادة الفساد.

والفاسدون قد يكونون أقل ضررا من المفسدين لأنهم مرضى قد لا يؤذون الناس إلا حينما يلتصقون بهم، أما وهم بعيدون فلا يؤذون إلا أنفسهم لأن أخلاقهم تدمرهم وحدهم، ولا يتضرر بهلاكهم إلا من يمتون إليهم بالقرابة، الفاسد بحاجة إلى علاج أو عزل عن المجتمع، أما المفسد فهو بحاجة إلى بتر نهائي، الفاسد مكشوف لأن سلوكه السيئ ظاهر للجميع.

أما المفسدون فقد جمعوا بين الفساد والإفساد، وهؤلاء هم الخطر الذي يأتي على الأخضر واليابس، والذي لا بد من مقاومته بكل الوسائل، إنهم إيدز التنمية ؛ لأنهم لا يكتفون بالعيش في الفساد ولكنهم ينقلون فسادهم إلى كل مكان يتواجدون فيه ويوظفون كل أسلحتهم لتجنيد الضعفاء للترويج لهم ومساندتهم، المفسدون في الأرض لا يحبون الفساد لذاته ؛ ولا يقتنعون بحياتهم فيه والاستمتاع بعفونته، بل إنهم يتنفسونه ويزفرون أنفاسهم المسمومة به في أوساط الناس لتدمير المجتمع بكل ما فيه من منجزات جميلة وعظيمة، فتجدهم يتلونون بلون الموقف ويغيرون جلودهم حسب البيئة التي يتواجدون فيها.

 المفسدون خطر لأنهم يظهرون غير ما يبطنون ويدافعون عن قيم وأفكار ليس لاقتناعهم بها وإنما لجذب مزيد من ضحاياهم لصفوفهم وتمرير فسادهم إلى القلوب والعقول الشابة، يحرصون على التواجد في أي مكان يجدون فيه متنفسا لفسادهم، وكثيرا ما يتسترون بمظلة الأخلاق المزيفة التي تخدع رؤساءهم ومن بيدهم أمرهم فيظنون بهم الخير وهم أخطر من الشر نفسه يهملون واجباتهم ويدعون أنهم هم المبدعون يعطلون مصالح الناس ويدعون أنهم هم المحركون لعجلة التنمية، يوظفون كل إمكاناتهم لبث سمومهم مرة بالترهيب ومرة بالترغيب، ومرة بنسف إنجازات غيرهم، ومرة باستغلال الفرص لصالحهم، ومرة بتشويه سمعة من يعتقدون أنه لن يجاريهم، ومرة بتهميش المخلصين من أبناء هذا الوطن، ومعظم المفسدين في الأرض لن يعيشوا إلا بدعم المجتمع، وبجهل المجتمع 00

شر البلية ما يضحك:

وبكل تأكيد فإن الفاسد والمفسد، يتفقان من حيث المبدأ على ممارسة عمل غير مشروع قانونيا لإثراء نفسيهما، وضد مصلحة المواطنين الذين تعود إليهم تلك الأموال والموارد..

وفجأة وعلى غير ما هو متوقع تفتح كل الأفواه على مشدا قيها تطالب بالإصلاح وبالتصدي الفوري للفساد، ولا يتجرأ أحد إما خوفا أو تحرجا لذكر أى من الأسماء التي تمارس الفساد والإفساد أو أن يحدد اسما واحدا من بين الأسماء وهي كثيرة وتحتل مواقع ومناصب هامة وحيوية وكأن الفاسدون والمفسدون قد هبطوا على أرضنا من كوكب آخر، وأن جميعهم جاؤوا من خارج الشعب، الجميع يطالب التغيير والتطهير وكأن المرتشين والمفسدين وقطاع الطرق مستوردون من الخارج، وفي إطار الضجة المطالبة بالتغيير والتطهير تجرى عملية خلط بين الأسماء، فأصبح المطالبين بالتغيير والتطهير من الفاسدين والمفسدين في سلة واحدة مع الشرفاء ويتفوق الفاسدين والمفسدين في سباق المزايدة وتتم التطهير والتغيير لكل الشرفاء.

 وحينما تأتي بوادر التغيير تحدث حالة من الهلع والفزع بين صفوف الفاسدين والمفسدين ويعدون العدة ليسرعوا بالهرب، او أتباع الوسائل الملتوية بحيث أن تكون أصواتهم هي أعلى الأصوات المطالبة بالتغيير رغم أن صورهم وقصصهم معروفة وواضحة ومستقرة في مخيلة ووجدان كل مواطن فلم يعودوا أشباحا، فالاشباح لا تمتلك الفيلات والبيوت الفاخرة، وليس لها حسابات في البنوك بالمليارات، ويرى الشعب صورهم دائما وهم يستمتعون براحة الفنادق الفاخرة يرتدون الملابس الغالية والمتمشية مع أحدث الأزياء، ويقفون أمام المرآة طويلا لكي يصلحوا من زينتهم ليتناسب مع أحاديثهم فى القنوات الفضائية وتنهال علينا آرائهم وأفكارهم الخيالية الخالية من اى مصداقية وبعيدة عن ارض الواقع بل والأكثر من هذا نسمع عن انجازات لم يلمسها الشعب، واذا بحث عنها يجدها محض سراب، ونسمع عن معدلات انجازات خرافية وكأنها تمت لأناس يعيشون فى كواكب اخرى، وتشعر بأنه لولاهم لما حدثت وان تركهم لهذه المناصب سيؤدى الى انهيار ما تحقق من منجزات.

والفاسدون والمفسدون بتركيبتهم الاجتماعية وسلوكهم السياسي والدعائي الكاذب يمثلون جماعة لا تربطهم أي علاقة حياتية بالشعب الذي يشيد فيلاته من الصفيح واختار لها موقعا رومانسيا تطل منه على ضفاف قنوات المجاري العارية التي تفصل طرقات والشوارع والتي لا يتعدى عرضها عن متر ونصف فهي طرقات لمرور راكبي أرجلهم فقط.

الفاسد ما كان بإمكانه أن يكون فاسداً متألقاً بدون خبرات سابقة وقدرة عالية على التسلق والانتهازية، بمعنى أنه حسبها " صح" وأنه يتصرف بلا رقيب عليه، وإن وجد عليه رقيب حقيقي فهذا الرقيب فاسد آخر أكبر منه، والفاسدون بينهم مصالح وبائية مشتركة ولا يمكن لأي منهم أن يغرق الآخر لأن غرق الآخر غرق له وللكثيرين من الفاسدين أمثالهما.

 الفاسدون والمفسدون ليسوا شخصيات وهمية أو خرافية انهم يعيشون بيننا، ويمتلكون لساناً أفصح من ألسنتنا، ولديهم لغة مقنعة وبإمكانهم تخريب بلد كامل، ومن ثم سيعجز ألف شريف معمّر عن تعمير الخراب وراءه.

الفاسد لص يعرف كيف يجعل من الآخرين الشرفاء لصوصاً في أحاديثه وعلى الورق الرسمي المزور؛ ليظهر في لباس الوطنية والشرف والمسئولية، وخاصة عندما يوظف جوقة من الفاسدين الذين يرضعون من ثديي فساده، فيصير حينها أشرف الشرفاء، ولا ما نع لديه من أن يحاول من خلال امتيازاته وسلطاته أن يشتري كل ما هبّ ودبّ ليعملوا رصيداً يضخ في صالحه ولا مانع لديه أن يشتري مستلزمات التدين وأن يطبع على جبهته ختماً، ليظهر بمظهر أهل الدين، حتى لا يتم التعرف عليه عندما نقرر محاربة هذا الفاسد الأفاق.

والمثير للأسف ان الفساد بات يكتسب مصداقيته من ملامسة هموم الناس الذين يعيشون بشكل يومي كل إفرازاته المريرة التي تحاصر أنفاسهم وكل مفردات حياتهم , يضرب عقولهم وأجسامهم بتكرار يومهم وغدهم , يضغط على بطونهم وجيوبهم وكرامتهم وإنسانيتهم , يجعل حياتهم أشبه بجحيم ٍيحيطهم لا مفر منه يحرقهم بناره كيفما تحركوا ويسد طريقهم أينما توجهوا ويغلق أمامهم كل الأبواب ويقضي على حلمهم وأملهم وتطلعهم إلى الخلاص من مرارة واقعهم , كابوس مخيف يتسلسل بإصرار مع تسلسل الكذب المستمر على الشعب بإصلاح قادم طال انتظاره والملايين تعيش في ظل هذه الحالة المستشرية من الفساد المروع لأولياء الفساد الذي عم كل دوائر الدولة , واصبح هذا الوباء هو المنظم الوحيد الذي يتحكم بالدولة والمجتمع , وفي دائرة من المتاهة لانهاية لها , بل أصبحت مافيا الفساد أشبه بطاحونة أطرافها الجبال تحاصر الإنسان بين كتل رحاها الشريرة وتطحنه باستمرار وبهمجية وفوضى لا رحمة فيها ولا شفقة منحدرة ًبإنسانيتها إلى الحضيض بل أدنى منه بكثير.

لقد أصبح الفساد المتحكم فى المجتمع وفرض عليه ثقافة جديدة يطلق عليها ثقافة الفساد وهى تعنى قبول افراد المجتمع بصفة عامة لكل حالات الفساد سواء كانت صغيرة او كبيرة واقتناعهم بوجود الفساد والتعايش مع صوره وأنماطه المختلفة بل وإفساح المجال لها، واصبح الفساد ظاهرة طبيعية يتوقعها المواطن فى كافة تعاملاته اليومية والاخطر من ذلك المسئول الفاسد هنا يكون اكبر من القانون وفى كثير من الاحيان لا تتم مساءلته او معاقبته بل يحاول ترسيخ هذه الثقافة بخلق وعى زائف لدى المواطنين بإقناعهم انه ليس فى الإمكان أبدع مما كان وان الحكومة لا تخطى وإن كثيرا ما يتم تبرئة بعض المتورطين فى الفساد خاصة كبار المسئولين حتى ان الدولة نفسها قد تصبح بمثابة مؤسسة للفساد، فإذا نظرنا الى اشكال الفساد داخل المجتمع كوقوع بعض من الشخصيات المهمة والوزراء داخل واصحاب السمو وذوى المقاعد العليا وأعضاء المجمعوعات البرلمانية والشعبية فى جرائم عديدة كإهدار المال العام والتعاون لتسهيل المخالفات وعلى الرغم من فساد كبار الموظفين تكون هناك توجهات مطالبة الجماهير بضرورة التضحية وربط الأحزمة من اجل مشروع قومى، فلا يجدون إمامهم الا التكيف مع أنماط الفساد دون محاولة تغييره والإصابة باليأس والإحباط، وحتى التشريع الذي يتصدى للفساد قد وضع من قبل برلمان هو نفسه متهم بتستره أو لا مبالاته إزاء الفساد والفاسدين، وإن الكثيرين من أعضاء البرلمان أنفسهم يرفضون حتى اليوم تقديم كشوف بممتلكاتهم وحساباتهم بينما يجب عليهم أن يكونوا مثالاً في الشفافية والصدق مع القانون والشعب، وهم بذلك طبعاً لا يستطيعون محاسبة رئيس الوزراء والوزراء وبقية العاملين في الدولة على وضعهم المالي وتصرفاتهم في أموال الشعب.

ان الفساد اصبح اقوى مؤسسة تعرف باسم مؤسسة الفساد فقد وصل لكافة المجالات والنواحى فى المجتمع لدرجة يطلق عليه ما يسمى بالفساد المتبجح لوضوحه وضوح الشمس، لأن فساد الفاسد لا يقتصر على ذاته أو من هم في دائرته إنه فاسد مجهز دوماً ليكون على استعداد أن يتحالف مع الشيطان ليدمر من يسعى إلى النيل منه ومن إمبراطورية فساده.

ان مناقشة ظاهرة الفساد بالمجتمع وقابلية الشعب ورضاه بالتعايش معه لن تنتهى فقد تغلغل الفساد فى كافة الاجهزة الحكومية والمشروعات العامة والخاصة فى غفلة من الزمن زادت فيها الرشوة والمحسوبية وإستغلال المناصب والاختلاس والاحتيال والنصب والتزييف فى التقارير الرسمية. فقد نجح الفساد فى تكوين ثقافة خاصة به واصبحت ثقافة مقبولة وهذه مسئولية النظام الاجتماعى بأكمله الذى يتساهل ويتهاون مع حالات الفساد خاصة الفساد الكبير والذى يتضمن عملية الشبكات المعقدة من الترتيبات والإجراءات التى يصعب إكتشافها وهى تضم عادة كبار المسئولين وهو الامر الذى يضفى عليها طابع السرية والكتمان وعدم وجود قوانين رادعة للفساد وحتى وان وجدت القوانين فهى غير قابلة للتنفيذ، فالعبرة ليست بشكل القانون ولكن بالتنفيذ الفعال وما تنطوى عليه من جزاءات على من يخالفها فقوانين الحظر على شاغلى المناصب الرسمية تقاضى رشاوى او عمولات او ممارسة اى شكل من أشكال المحاباة او المحسوبية او استغلال النفوذ وتسخير المنصب العام لتحقيق مصالح خاصة موجود من الناحية الشكلية وعمليا لا توجد عقوبات رادعة تفرض على شاغلى المناصب العامة متى ثبت تورطهم بالفساد.

الفساد إذن منهج متكامل ولا يمكن محاربته لأنه وباء مرضي لا يسلم منه احد اذا تفشى واستشرى، ولا يستقيم معه جسد الدولة وسلامة إدارتها وصحة إجراءاتها وجودة خدماتها، بل ان التغاضي عنه يعني الاستسلام للمرض وللأخطار والكوارث وقبولها والتعود على روائحها النتنة والنظر إليها باستخفاف ثم انتظار النهايات الموجعة والموت البطيء الناتج عنها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 12/أيار/2010 - 27/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م