الليبراليون والكيل بمكيالين

 

شبكة النبأ: الكيل بمكيالين جملة تتردد على ألسنة السياسيين كتعبير عن الغبن الذي تلحقه السياسة المتزمتة والمراوغة بالطرف الآخر وقد تتعدى المجال السياسي الى  المجالات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وعند التطرق الى الليبرالية فإنها كما هو متفق عليه مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في السياسة والاقتصاد، وينادي بالقبول بأفكار الغير وأفعاله، حتى ولو كانت متعارضة مع أفكار المذهب وأفعاله، شرط المعاملة بالمثل.

لكن الكلمات المثالية قد لا تقود بالضرورة الى أعمال ونتائج مثالية قائمة على الارض، فقد يحدث العكس، بسبب سوء التطبيق لتلك الكلمات والافكار المثالية، فكثير منا ربما ينبهر بالمعاني البراقة التي تتحدث عنها الليبرالية وأولها فضاءات الحرية الواسعة التي تدعو إليها، وطالما أن الانسان يبقى تواقا الى الحرية كونه جُبل عليها منذ نشأته، وطالما أن الحرية في الامم الأقل وعيا وتطورا محاصرة او محجّمة، فإن الليبرالية كونها (كلمات مثالية) عن الحرية الفكرية والمادية تبقى مصدر طموح وتطلع المحرومين منها.

بيد أن الاشكالية المؤشرة على ارض الواقع تنعكس في النتائج التطبيقية لهذا المفهوم من قبل المجتمعات التي تؤمن بها وتعمل في ضوئها وتحاول أن تبني نفسها وفقا لما تذهب وتهدف إليه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، حيث تظهر الصورة المعاكسة للكلمات المثالية التي يبثها هذا المفهوم قبل التطبيق.

ولذلك لاحظ المراقب المتتبع خللا واضحا  بين الادّعاء والتطبيق الليبرالي، وترسخت دلائل داحضة على التناقض بين الفكر الليبرالي وتطبيقه من قبل دعاته ومنهم المجتمع الغربي على سبيل المثال، فالغرب كما هو متعارف عليه ينتهج الحرية في كل شيء، فعلى المستوى السياسي ثمة إطلاق للرؤى والافعال في آن، وقد تبدو الساحة السياسية واسعة لدرجة انها تتسع لجميع الفرقاء، وكذا الحال في الاقتصاد وغيره، لكن ثمة خلل كبير وعيب واضح يمكن للمراقب أن يرصده من دون عناء كبير.

هذا الخلل يتمثل بالتناقض الواضح في تطبيق الفكر الليبرالي على الارض وبروز ظاهرة الكيل بمكيالين عند التعامل مع الآخر وفقا لهذا المفهوم، فحين يتعلق الامر بالشؤون الغربية المتعددة فإن الليبرالية تُطبَّق بحذافيرها كونها تخدم توجهاتهم ومآربهم، مثال على ذلك إطلاق الحريات الفكرية والسياسية وما شابه في مجتمعاتهم، بل حتى ما يتعلق بالجانب الاجتماعي، لكن الامر حين يتعلق بالتعامل مع مجتمعات أخرى لها عقائد وأفكار لا تتسق مع الفكر الغربي، هنا سيضمحل الدور التحرري لمبادئ الليبرالية، وتظهر حالة الكيل بمكيالين جلية وواضحة.

وحين نحاول أن نستكنه ما يدور في الساحة الاجتماعية ونرصد الحراك الاجتماعي فيها، نلاحظ أن الليبراليون لا يعترضون على الافعال والمظاهر التي تدفع نحو نشر السلوكيات التي تسيء لكرامة الانسان، كالاباحية والمثلية وما شابه، وحجتهم في السماح لمثل هذه السلوكيات فضاء الحرية الذي ينبغي أن يقبل بالجميع سلوكا وأفكارا ومعتقدات، وهي دعوتهم التي يتمسكون بها به بل ويتبجحون بها ويعتبرونها الفرق الجوهري الذي يرفع مكانتهم بين الامم الاخرى.

لكن حين يتعلق الامر بالرأي الآخر والسلوك الآخر، هنا سيكيل الليبراليون بمكيال آخر أيضا ويلجؤون الى المنع والمحاصرة والتحجيم، وهو أمر لا يتسق مطلقا مع دعواتهم المتحررة، ولكن طالما أن الامر يتعلق بفكر ورأي وعقائد أخرى فلا يهمهم ذلك ولا النتائج التي تتمخض عنه.

فهم مثلا لا يجدون حرجا او ضيرا بمضايقة المسلمين في ممارسة عقائدهم على سبيل المثال، بمعنى حين يبيحون التعري والاباحية والمثلية وما شابه فهذا السلوك مدعوم ومحصّن بالحرية الليبرالية بل ولا يجوز التجاوز عليه كونه يرتبط بالحرية الشخصية، أما اذا كان السلوك يتعلق بالتحجب والتعفف وما شابه فإن منعه ومقارعته وسن القوانين القاطعة ضده أمر لا يمس أفكارهم ومبادئهم المتحررة، وهنا تبرز ظاهرة الكيل بمكيالين بوضوح سافر.

ويمكن أن ينطبق هذا النهج في مجالات عدة، حتى في الجانب السياسي وغيره، إذ غالبا ما تكون المصالح هي المعيار الأهم للساسة الليبرالين، فالحرية السياسية تعني بالنسبة لهم درجة التقرب من تحقيق مصالحهم وما عدا ذلك سيكون من الانهاج المضادة لتطلعاتهم ما يدل على نوع من الانتقائية التي لا تستند الى مبادئ الحرية بشيء.

ومتى ما كان التعامل متقاربا مع جميع الافكار والسلوكيات المتنوعة بمسافة واحدة، هنا يمكن القول بأن معيار الكيل بمكيالين قد انتفى، وأن الليبراليين تخلوا عن صيغ التعامل الانتقائي وأنهم حوّلوا الكلمات والافكار المثالية الى تجسيد مثالي شاخص على الارض، والى أن يتحقق ذلك بوضوح سيبقى الليبراليون متهمين بالازدواجية والانتقاء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 9/أيار/2010 - 24/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م