يتقوقع المتقوقعون بعيداً عن الدين.. ليخوضوا عالمهم الضيق الذي
زخرفوه لأنفسهم ظانين أنهم يعيشون الانفتاح بأجلى صوره، واهمين أنهم
يمتلكون حجزة الحضارة وينفثون بحديثهم كتنين مغرور يظن أن دخانه ملأ
الكون الفسيح، وما هو إلا غيمة سوداء تنقشع لأول سطوع شمس الحقيقة.
مساكين هم يظنون أن من يقترب ليمس هذا الدين سيتلبس به عفريت من
الجن، أو تقع على رأسه صاعقة سماوية تلقي بحتفه أرضاً، أو تجره إلى
مزبلة التخلف ليكون من رعيل البدائيين وإنسان الكهف القديم.. إنهم
يظنون من يلتزم بتعاليم السماء يدفن نفسه في زوايا مليئة بالعناكب
والحشرات المقززة – كما يصور أحد أعداء الدين الإسلام للغرب بأنه
مجموعة من الفقراء والمغلوبين في متاهات أفريقيا البائسة يحوطهم الذباب
والقاذورات - متناسيين أن الدين الإسلامي..هو رائد الحضارة.. وينبوع
العطاء ونجم الاستبصار لغيرهم من الحضارات،
هم من ألهم الآخرين، وعلى سواعد أبناء الإسلام بنتي حضارة اليوم،
فأساسها ينطلق من رحم هذا الدين العظيم – الذي يتنكر له الكثير في هذا
الزمن المجحف – فمن أراد أن يتحدث عن الحضارة ويوشك أن يلتهمها، عليه
أن لا ينسى فضل الإسلام في مد يد العون للحضارات التالية فلقد كثرت
الحملات الشيطانية ضد الدينيين وأوصلوا الأفعى إلى رقبة هذا الدين
العزيز،اغتنم المناوئ بعض الفرصة ليضع العصا في مركبة ديننا المقدس،
حينما أكتشف بعض أخطاء الدينيين والمنتمين له - والتي ستفرز ولا ريب
منهم لكونهم لا يمتلكون العصمة ولا يتفهمون كامل حقيقة الدين بشكله
الصحيح والصافي – فلهذا انبثق الكثير موضحاً ذلك الفرق الشاسع بين
ثقافة هذا المسلم، والمنهج الحقيقي الذي يدعو له المنهج الإسلامي
الحنيف..
هناك من المتزمتين من يرون أن الجنة لهم دون سواهم، فهم يقسمون
تركة الجنة وفق ما تهواه أنفسهم وتلذ لهم أعينهم.. لم تكن هذه الحالة
جديدة، بل هذه القوقعة والأنانية كانت منذ زمن الرسول (ص) حينما صرخ
أحدهم بدعائه يناجي ربه أن يجعل الجنة له ولمحمد (ص) وحدهما دون شريك،
لقد ضيق هذا الأعرابي الواسعات، خصوصاً إذا عرفنا أن امتداد السماوات
والأرض لا يعد في مقاييس الجنة إلا العرض.. أما الطول فيتعب من حسابها
جبرائيل رغم قدرته الهائلة !
ها هم الناس يخرجون من دينهم أفواجاً، بدعاوى مغرضة وأحكام باطلة،
أو ليس تكفير المسلمين كفراً، فما بالنا نشاهد سحق المسلم لأخيه المسلم،
أو شطب طائفة إسلامية كاملة عن بكرة أبيها من أجل أهواء وأطماع لا أصل
لها إلا في كتاب الشيطان إن كان له كتاباً، رغم اتفاقهم على المرتكزات
الأساسية، أيُ تعقل هذا الذي يصدح به المعاصرون؟..
وفي حدث ساخن نشاهد أن هناك أحكام تعلق على خيوط واهنة لكون أن
المسألة تعود جذورها لأزمة مذهبية تزكم الأنوف.. لقد ألقينا الدين
جانباً وبدأنا نفرز أدياناً من أهوائنا ما أنزل الله بها من سلطان..
فترى البعض يتشدد في أمور.. ويتراخى ويلين في أمور أخرى خاضعاً ذلك
لمؤشرات ذاتية لا تتصل بالعقل ولا بالسماء.. أوليس كل حرام محمد حرام؟!
فلماذا نخفف الوطأة حينما تنسجم الفكرة مع أهوائنا وملذاتنا، وإلا فإن
النار هي المصير إن كانت تخالف؟! المعادلة العادلة هي التي تضع الأمور
وفق هدي الكتاب والسنة المطهرة، أم وفق أهواء ومستحسنات شخصية لا تخضع
لمعيارية الشرع؟!،
هكذا تنجر القضايا وفق مصالح معينة وتنسحب الأمور تبعاً لسياسات
أرضية محددة لا تمت لعالم الملكوت بأي صلة، فالوزن هباء لا قيمة لها..
والريح تعصف بها كيفما تشاء..
كثيرة هي المواقف التي يصمت فيها الآلاف.. وذات الآلاف يتكلمون في
مواقف أخرى.. السؤال الحرج: لماذا تكلم المتكلم..؟! رغم أنه قد صمت
دهراً في السابق، الإجابة سنجدها وراء الأكمة !
هكذا كانت ثقافة الكثير من زعماء المعابد والكنائس.. يجمعون أموال
الناس.. ويجمعون ثم بعد ذلك يجمعون أيضاً، وإذا جاءت ساعة الصفر يهجمون
على هذه الأموال ليأكلونها كما يهجم الأكلة على القصعة، وهكذا ما صرح
به القرآن لنا بكل جرأة وشجاعة رغم أنوف الحانقين.. قال تعالى :
((أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ
وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))، والسؤال الفاقع اللون هنا : هل هذه الآية مخصوصة
بعلماء اليهود "الأحبار"، ومجتهدوا النصارى "الرهبان"؟!، أم أن الآية
تتحدث عن قيمة أكل أموال الناس بالباطل بكل صنوفها وألوانها؟!.. فهل
سنلوي عنق الآية عن الحديث إذا انطبقت في ما يرتبط بنا؟!، وهل سنسكت
إذا شاهدنا التلاعب بالمال، أو أحجامه عن أفراد وصرفه لآخرين بناءً على
معادلات لا يستطيع فيثاغورس تصنيفها من أي درجة هي؟!
هل سنتكلم عندها أم أن الطير سيبني عشه فوق رؤوسنا ويفرخ؟!، هل
سنهجم بسياط الكلام على القريب قبل الغريب؟!..إنها ثقافة تعلمناها من
القرآن : لا للمهادنة، ونعم للأنصاف، حتى لا تأخذنا في الله لومة لآئم،
وهذا ما أشار له الرسول (ص) : ((...فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم
كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه
الحد...))، هذه الوساطات ملغية في قواميس الرسالة، وهذه المحسوبيات
مكنوسة وهي التي دمرت الأمم من قبلنا كما يصرح الرسول (ص)، وهي في
طريقها الآن لتفتيتنا وتحطيمنا وتمزيقنا قطعة قطعة، إنه الداء العضال
الذي لا ينكره أحد، فترى أن هذا الفيتامين العجيب.. له مفعول مكهرب في
جهة، وتراه خامل في جهة أخرى؟! وبالفعل تصدق هنا عليهم الطرفة النحوية
: باءك تجر، بائي لا تجر... !! |