أمن الطاقة العالمي وسوء الاستخدام والتوقعات

الاستثمار في ظل غياب التنظيم

 

شبكة النبأ: شهد العقد الماضي من القرن الحالي تحولات جذرية في توقعات نظام الطاقة في العالم مع التذبذب الحاد في أسعار الطاقة. إضافة إلى التأثيرات السلبية بعيدة المدى لسوء استخدام الطاقة على البيئة والمناخ. وهو ما دفع كثيرًا من العلماء والباحثين للبحث عن حلول جديدة وواقعية لتلك الأزمة.

وفي هذا السياق تأتي هذه المقالة البحثية في مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairs عدد يناير/ فبراير 2010، لكـــل من ديفيد ج.فيكتورDavid G. Victor وهو أستاذ بكلية العلاقات الدولية ودراسات المحيط الهادئ بجامعة كاليفورنيا ومدير مختبر القانون الدولي، وليندا ييه Linda Yueh أستاذة الاقتصاد بجامعة أكسفورد ومديرة مركز نمو الصين. وقد حملت المقالة عنوان " النظام الجديد للطاقة وإدارة عدم الأمان قي القرن الحادي والعشرين". بحسب موقع تقرير واشنطن.

تتناول المقالة تداعيات أزمة الطاقة في السنوات الأخيرة، وسبل مواجهتها. الارتفاع في أسعار الطاقة وما تزامن معه من تذبذب وارتفاع حاد في أسعار معظم السلع دفع مستهلكي الطاقة في العالم إلى تجنب الاعتماد على سياسات قصيرة الأجل، واتخاذ سياسات طويلة الأجل لتأمين إمداداتهم من الطاقة.

ويوضح كاتبا المقال أن الاضطرابات التي تحدث في أسعار النفط تمتد لما هو أبعد من النفط ذاته فمن الملاحظ أن معظم الدول المستهلكة الكبرى تساورها الشكوك حول تأمين الطاقة أكثر من أي وقت مضى وذلك منذ أزمة النفط في السبعينيات. وفى الوقت ذاته نجد أن الدول المصدرة للطاقة يساورها الشك ذاته عما إذا كان الطلب الحالي يعد كافيًا لمواجهة الاستثمارات الكبيرة اللازمة لتطوير قدرات جديدة في هذا المجال. فالشك يراود الطرفين، المنتجين والمستهلكين على حد سواء، وعدم ثقة كل طرف في الطرف الآخر يجعل من الصعب اتفاقهما على كيفية تمويل وإدارة نظام طاقة أكثر أمنًا.

تحديات أمن الطاقة العالمي

يرى كاتبا المقال أن ثمة بوادر أزمة تلوح في الأفق مع عدم توفر الحل الملائم لاحتوائها وذلك نظرًا لظهور تغيرين جذريين في مشكلة أمن الطاقة تمثلا فيما يلي.

أولاً: تغير المستهلك الرئيس للطاقة. فمن الملاحظ أن عصر الطلب المتزايد على النفط والوقود الحفري من البلدان الصناعية الكبرى المستهلك الرئيس للطاقة قد انتهى، ليصبح الطلب مستقبلاً لأسواق ناشئة لاسيما الصين والهند. وقد اتبعت الصين نهجًا مغايرًا لنهج المصالح التجارية الذي اتبعته الدول المستهلكة للطاقة خلال العقدين الماضيين، حيث عمدت الصين إلى عقد صفقات ثنائية مباشرة مع حكومات الدول المنتجة للنفط وخاصة إفريقيا وآسيا الوسطى، بالإضافة إلى مناطق أخرى غنية بالنفط وتنطوي تلك الصفقات غالبًا على اتفاقيات حكومية ومساعدات لتلك الدول وهو ما يؤثر سلبًا على الجهود الرامية لحث منتجي الطاقة على حماية حقوق الإنسان وسيادة القانون وتعزيز الديمقراطية، ويعيق الجهود الدولية الساعية لخلق سوق نفطي آمن.

ثانيًا: ظاهرة الاحتباس الحراري والقلق المتزايد بشأن الآثار البيئية السيئة لاستخدام الطاقة. وقد كانت المخاوف من تغير المناخ أحد الأسباب الرئيسة لعدة برامج تحفيزية، وذلك لكبح ظاهرة الاحتباس الحراري. ولكنها للأسف لم تحقق تقدمًا يذكر حتى أن وكالة الطاقة الدولية أهم مؤسسة دولية معنية بهذا الشأن لم تحرز تقدمًا يذكر في إشراك المستهلكين الجدد للطاقة في صنع القرار. فأغلب هؤلاء المستهلكين هم من خارج نطاق الوكالة ولا يزالون يشعرون بالقلق من النهج القائم على السوق لتأمين الطاقة. بالإضافة إلى أن الدول الأوروبية لم تتخذ أية خطوة إيجابية من الناحية العملية بالرغم من توقيعها معاهدة ترمى لجعل إمدادات الطاقة أكثر أمنًا. يزيد على ذلك أن مجموعة العشرين التي أعلنت عن خفض الدعم على الطاقة لترشيد الاستهلاك لم تعلن عن خطة أو برنامج واضح لتنفيذها على أرض الواقع. كما أن كبرى الدول المنتجة للنفط سعت لما أسمته أمن الطلب ولكنها لا تملك في الحقيقة صلاحيات لضمان الطلب على منتجاتها.

وبالرغم من وجود كثير من المؤسسات الدولية المعنية بشئون الطاقة اليوم إلا أنها غير فاعلة في ظل عدم وجود آلية لتنسيق المبادرات تركز على أمن الطاقة وحماية البيئة جنبًا إلى جنب. ويقترح كاتبا المقال الاقتداء ببعض الآليات الموجودة في النظام الاقتصادي الدولي والتي اتخذت في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات، وذلك لتحقيق التنسيق بين تلك المبادرات.

مؤسسات للطاقة على غرار الاقتصادية

خلال العقود الثلاثة الماضية لم تُبذل جهود حثيثة لإنشاء مؤسسات اقتصادية باستثناء صياغة القانون الاقتصادي الدولي، أما اليوم فهناك مجموعة من القواعد العامة التي نمت لتصل لمرحلة التنفيذ وأغلبها مرتبط بالمصالح الوطنية. فالحكومات تسعى لتنفيذ القواعد حينما ترى أن ذلك يخدم مصالحها وأبرز هذه المؤسسات هي منظمة التجارة العالمية التي لا تكتفي فقط بالقواعد التي تحكم التجارة الدولية ولكنها تتجاوز ذلك إلى تفعيل الآليات القائمة لتوضيح القواعد التجارية وتسعى لإضافة أعضاء جدد للمنظمة من الدول القوية والضعيفة على السواء. والمفترض أن تميل الدول الأعضاء للامتثال لسياسة المنظمة الهادفة لأداء منظم للاقتصاد العالمي حتى إذا تعارضت تلك السياسة مع الرؤية المحلية لمصالح بعض الأعضاء.

ومع ظهور الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات ثم انتقالها من آسيا إلى روسيا وتركيا وأمريكا اللاتينية كان لابد من إنشاء هيئة لتشمل كافة اللاعبين الرئيسيين فكان تشكيل مجلس الاستقرار المالي Financial Stability Board استجابة سريعة لهذه الأزمة وتمت توسعته ليشمل كافة الدول الأعضاء في مجموعة العشرين G-20 وتمت صياغة معايير بازلBasel Standards وقد اعتمدت هذه المعايير على نطاق واسع في الاقتصاديات الناشئة، فتطبيقها في الصين ساعد على طمأنة المستثمرين الأجانب ممن يشعرون بالقلق من سوء إدارة البنوك المحلية. وفى الوقت ذاته طمأنة الحكومة الصينية التي كانت تخشى التدخل في سيادتها وبدأت المصارف الأجنبية في الاستثمار على نطاق واسع في النظام المصرفي الصيني.

إن ما يمكن استخلاصه من هذه التجربة هو أن أي جهد يبذل لتنسيق سياسات الطاقة العالمية يجب أن يشمل كافة اللاعبين الأساسيين وهذا ما لم تستطع تحقيقه المؤسسات المتحكمة بالطاقة حتى وقتنا هذا فحتى الجهود الرامية لتوسعة نطاق وكالة الطاقة الدولية تعثرت لاشتراط الوكالة انتماء أعضائها إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بجانب أن وكالة الطاقة الدولية تضم حقيقة البلدان الأقل استهلاكًا للطاقة بينما لا تضم بين أعضائها البلدان الأكثر استهلاكًا للطاقة كالصين والهند وكذلك فإن كبريات الدول المنتجة للنفط لا صوت لها داخل الوكالة.

كما أن محادثات التجارة العالمية لم تحقق القدر الكافي من النجاح إلا حينما ركزت على الإجراءات كتخفيض التعريفات الجمركية والحد من التهرب الضريبي. ويوضح الكاتبان أن تطبيق هذه الدروس على الطاقة يعنى إدراك أن أي نظام لن يصبح فاعلاً ما لم يبدأ مع البلدان الأكثر أهمية من كبار المنتجين والمستهلكين ويخدم مصالحها فالنجاح يتطلب جني تلك البلدان لفوائد عملية من جرَّاء تعاونها.

مؤســسات بلا فاعلـية

ليس هناك نقص في المؤسسات اليوم في مجال الطاقة ولكن المفقود هو وجود استراتيجية عملية لوضع معايير فعالة لتنظيم الاقتصاد العالمي للطاقة، فوكالة الطاقة الدولية لعبت دورًا أساسيًا في هذا الشأن ولكنها تجد صعوبة في التأثير، ومنظمة الأوبك ليس لديها مقدرة لتحمل مهام أوسع نطاقًا من حماية منتجي النفط بالرغم من وجود حوار واعد بين أعضاء أوبك ووكالة الطاقة الدولية لتحقيق مزيد من الشفافية في أسواق النفط من خلال توفير بيانات عن تجارة النفط وإنتاجه.

وخارج هذه المؤسسات لم يكن هناك أي فاعل جاد بشأن مشكلة الطاقة فقد عزلت معاهدة ميثاق الطاقة الأوروبية اللاعب الرئيس، وهو روسيا المصدر الأهم للطاقة لأوروبا. فروسيا لم ترغب في التعرض لرقابة من قبل المؤسسات الغربية فأصبح هذا الميثاق بلا جدوى.

وكذلك المؤسسات العاملة في مجال تغير المناخ لم يكن لها تأثير يذكر بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ. و مجموعة الثمانية G-8 التي وضعت مسائل المناخ والطاقة على رأس جدول أعمالها لعقد كامل بلا جدوى حتى مع الجهود المبذولة لتوسعة المجموعة لتشمل البلدان النامية الرئيسة (البرازيل والصين والهند والمكسيك وجنوب إفريقيا).

ورغم وعد مجموعة العشرين G-20 بإقامة منتدى لمعالجة مشكلات الطاقة والمناخ إلا أن الانهيار الاقتصادي عام2008 حال دون وجود تلك المشكلات على رأس جدول الأعمال وحتى إقامة منتدى للاحتباس الحراري في أكتوبر الماضي لم يسفر عن أي شيء.

الاستثمار في ظل غياب التنظيم

مواجهة المشكلات السابقة يمكن أن يتأتى بشقين. أولهما: تحفيز الاستثمار لمواجهة الطلب المتزايد على الطاقة. وثانيهما: تقديم الدعم للتكنولوجيات صديقة البيئة فمشكلة أمن إمدادات النفط ليست فقط هي أزمة موارد بفعل قرب نضوب المصادر التقليدية. ولكنها كذلك في القلق من الاستثمار في موارد جديدة بديلة قد تحتوي على مخاطر سياسية واقتصادية كامنة ولاسيما تلك الاستثمارات التي تتعدى الحدود الوطنية مع قلق الموردين من عدم وجود طلب كاف لتبرير الاستثمارات. وقد طرحت الدراسة مجموعة من التوصيات، نجملها في الآتي:

أولاً: تحفيز الاستثمار لمواجهة الطلب. ويؤكد الكاتبان أن هذا الشأن يتطلب تكاتفًا من جهات شتى. وبالرغم من ذلك فإن أقل المناطق نفوذًا من قبل المؤسسات الدولية هي أكثر المناطق استهلاكًا وهى الصين وموردي الطاقة لها في إفريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وما تقدمه الصين لهؤلاء الموردين من منح وقروض خاصة لمشروعات التنمية بشكل دائم قد ولًد انتقادات في الغرب مما أثار مخاوف الصين وأصبح من الصعب إقناعها بأن تأمين الطاقة لديها شأنها شأن كبار مستهلكي الطاقة في الغرب مرهون بضمان الشفافية وتنظيم السوق الذي تحكمه مؤسسات دولية فعالة.

ورغم ذلك فالصفقات الصينية اليوم ليست استثنائية فكثير من أبرز المشروعات الدولية نبعت إمدادات الطاقة فيها من اتفاقيات تربط التمويل لعميل معين يضمن الطلب على مدى فترة معينة محددة سلفًا، ولكن الحقيقة أن الصين تعلم أن تدفق إمدادات جديدة سيكون أكثر ضمانًا إذا ما أتى من بلدان تحت حكم رشيد حتى لا تأتي المساندة بنتائج عكسية كما حدث مع السودان التي أصبحت ورطة سياسية لبكين بدلاً من كونها مصدرًا موثوقًا للنفط. فالمفترض أن تسعى الصين الآن لصياغة معايير للاستثمار تتفق ومصلحة الصين ولا تتعارض مع المعايير الغربية لشفافية الأسواق والحكم الرشيد.

ثانيـًا: دعم التكنولوجيا الصديقة للبيئة أو التكنولوجيا الخضراء وهى أيضًا تعاني فراغًا تنظيميًا جعل من الصعب على الحكومات تحقيق مصالحها المشتركة معها بالرغم من أن قطاع الطاقة واحد من أكثر القطاعات تأثرًا بالتكنولوجيا اليوم، وذلك يرجع جزئيًا لتغير المناخ الذي تتوقعه الحكومات من زيادة استهلاك الطاقة وكذلك لتعلق الحكومات بالأمل في أن تلعب الاستثمارات في مجال البنية التحتية للطاقة دورًا إيجابيًا في الانتعاش الاقتصادي.

وبالرغم من ضخامة الميزانيات التي تخصصها الدول لدعم مسألة الطاقة الخضراء إلا أن تلك الجهود لم تسفر عن شيء حتى الآن بسبب غياب التنسيق بين الدول كما أن تلك البرامج في حقيقتها هي لخدمة المصالح الاقتصادية القومية لكل دولة وهذا النظام من التكنولوجيا المؤممة لا يمكن أن يؤدي لنتيجة فعالة في مجال التكنولوجيا الخضراء. والطريقة المثلى لبدء التنسيق هي باتفاق رواد الإنفاق على التكنولوجيا الخضراء، وهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والصين لتقديم تقييمات دورية لبرامجهم الخاصة وتكثيف التعاون المشترك بينهم.

خلاصة واستنتاجات ختامية

مما تقدم نخلص لحقيقة مفادها أنه لا يمكن للمؤسسات الحالية ملء الفراغ في هذا القطاع ويوصي كاتبا المقال بضرورة إنشاء مجلس استقرار الطاقة Energy Stability Board وذلك على غرار مجلس الاستقرار المالي في القطاع المصرفي. ويمكن أن يضم مجلس استقرار الطاقة العشرات من كبار منتجي ومستهلكي الطاقة وتقوم بإدارته أمانة وكالة الطاقة الدولية ومع بداية نشاط المجلس يمكن أن تنضم له مؤسسات أخرى ذات صلة بهذا الشأن كمنظمة أوبك وكذلك منظمة أو أكثر من المنظمات الأمنية الآسيوية .

وسيتمثل الاختبار الأساسي لمجلس استقرار الطاقة في قدرته على إقناع شركات القطاع الخاص بالاستثمار في مجال البنية التحتية للطاقة، وذلك لن يتأتى إلا بوجود إشارات واضحة من الحكومات لوضع سياسات تتيح للقطاع الخاص الاستفادة من تلك الاستثمارات وتعاون القطاع الخاص مع الحكومات في أداء بعض التزامات هيئة استقرار الطاقة وقد يخلق النجاح في هذا الأمر الظروف المناسبة لتحقيق التعاون في مجالات أخرى.

ويمكن أن يتولى مجلس استقرار الطاقة إدارة البحث والتطوير بعيد المدى في مجال الطاقة كي يكون التنسيق سببًا في أن تحقق تلك الأبحاث نتائجها. ويمكن أن يساعد المجلس كذلك في حشد الدعم للمبادرات الهامة كتلك المبادرة الجديدة الأمريكية-الصينية الرامية إلى إقامة نظام أكثر أمنًا لإنتاج الوقود النووي.

لابد من وجود قيادة لبدء العمل والولايات المتحدة والصين يمكنهما التعاون سويًا من أجل ذلك بعد إعلانهما السابق عن رغبة مشتركة للعمل سويًا في هذا الشأن وهذا التعاون يصب أساسًا في مصلحة البلدين فاستراتيجية الصين الحالية لتأمين الطاقة ليست مستدامة ومن مصلحتها الوصول لاستراتيجية تؤمن لها الطاقة وتكون أقل انتقادًا من قبل الدول الغربية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/أيار/2010 - 18/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م