تنمية الزراعة والعمران في النموذج الاسلامي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: لا تنحصر السياسة في مجال صنع القرار وتنفيذه فحسب، فهي تمتد لتشمل ميادين الحياة كافة، فلا تخص قرارات الحرب مثلا ولا تنحصر مهمامها بحفظ الأمن داخل الدولة وخارجها مقابل إهمال الشؤون المهمة الاخرى التي تتعلق بطبيعة حياة الناس وأنشطتهم المختلفة. 

فالسياسة نشاط كلي شامل يمتد الى جوانب وميادين الحياة كافة، وهكذا كان ساستنا العظام، حيث الاهتمام ببناء الدولة في مجالات الزراعة والصناعة والعمران وغيرها من المجالات المادية، ولم يهملوا العلم بأنواعه كافة، فكان اهتمامهم كبيرا بالثقافة والفن وترجمة الكتب العلمية والافادة منها في تطوير البنى المادية كافة، فلم يكن اهتمامهم في هذا الجانب على حساب جانب آخر، فكان للزراعة حصتها من الاهتمام ومثلها حصة للبناء والعمران وكذا بالنسبة لبناء الجيش وما شابه بحيث تتشكل الدولة على اسس مادية وعلمية متوازنة تجعلها قوية البنيان في جميع المجالات.

ولقد شكا كثير من الناس إهمال الزراعة وكذا الامر بالنسبة للصناعة، وثمة من السياسيين القادة وغيرهم من يتذرع بهذا السبب او ذاك لا سيما حفظ الامن وما شابه مقابل خلل فادح في مجالي الزراعة والعمران، الامر الذي أحدث نوعا من البطالة والبطالة المقنعة حيث انتشرت في عموم البلاد، في هذا الوقت يتساءل كثيرون أننا نملك الارض والموارد فلماذا نبقة تحت رحمة البطالة والجوع والعوز؟

لقد كان لنا في تجربة الاسلام دروسا مهمة في هذا المجال، حيث لا تُترك الارض من دون زراعة وحيث ينشط الانسان في البناء هنا او هناك، خلافا للحاضر المؤسف الذي تردّت فيه الزراعة والصناعة وضعف العمران لدرجة ان سكن الانسان بات صعبا في ظل غياب الاهتمام في هذه الجوانب، مع أننا كان يمكن أن نستفيد من تجاربنا القديمة في هذا المجال.

يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) حيث أكد سماحته قائلا:

(اتخذ الإسلام سياسة حكيمة، في ازدياد العمران والزراعة، التي بهما تكون رفعة الدولة أو سقوطها، وذلك بإباحة الأراضي لمن عمّرها بالبناء، أو الزراعة، أو فتح قناة، أو شق عين، أو تشييد المصانع والمعامل، أو غير ذلك. وبالتحبيذ إلى العمل والزراعة، واتخاذ دور وسيعة، وغيرها).

فإذا كانت الجهات التنفيذية منشغلة بإمور أخرى، فيمكنها أن تسن بعض التشريعات التي تبيح للمواطنين لاسيما العاطلين منهم أن يزرعوا الاراضي الواسعة وفق خطط مدروسة تضعها الدوائر والمؤسسات الزراعية المعنية بدلا من البقاء تحت رحمة الجوع والبقاء من دون عمل او دور في الحياة، وهي طرق مشروعة يمكن أن تذهب إليها الجهات الرسمية زيادة للزراعة والعمران في آن واحد، فقد كان المسلمون سباقون في هذا المجال كما يذكر المؤرخون ذلك، وقد ورد في كتاب المرجع الشيرازي نفسه بهذا الصدد:

(وقد وصف الاصطخري-1- مدينة البصرة وصفاً بمثل ما كانت عليه أرض العراق من العمارة في عصره، قال: البصرة مدينة عظيمة، لم تكن في أيام العجم، وإنما مصّرها المسلمون، وليس فيها مياه إلا أنهار. وذكر بعض أهل الأخبار، أن أنهار البصرة عدّت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على مائة ألف نهر وعشرين ألف نهر، تجري فيها الزوارق)-2-

فإذا كان حال الزراعة والعمران كهذا الوصف قبل مئات السنين، فما بال المسؤولين لا يستفيدون من تلك التجارب للنهوض بواقع الزراعة راهنا ؟ فأرضنا واسعة وماؤنا وفير فيما لو تم ترشيد الاستهلاك وتوجيهه بالطريقة الأمثل، لذا يبدو أننا بحاجة قصوى الى تخطيط سليم وتنفيذ أسلم، نعم نحن نرى الآن كثيرا من الاعمال العمرانية والاشغال التي تتوزع المدن وغيرها، بيد أن الامر ينطوي على عشوائية واضحة، لذلك يبقى الامر مرهونا بطرق التخطيط والتنفيذ الذي ينبغي أن يقوم عليه قادة مخلصون يكون همهم الاول مصلحة الناس وتطورهم واستقرارهم كما كانت عليه الدولة الاسلامية، إذ يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي بعض الامثلة في هذا المجال في كتابه نفسه قائلا:

(وأمّا الزراعات، فهي أيضاً كانت بكثرة هائلة منقطعة النظير ـ حتى بالنسبة إلى هذه الأيام التي سهلت فيها الزراعات، وصنعت مكائن تعمل لإستخراج المياه ورش البذور والحصاد وغيرها ـ. فالعراق كان يسمّى بـ أرض السواد، لأنّ الشخص في العراق أين ما كان يذهب أو يحل، يبصر ـ بمرمى بصره ـ الزراعات، وكان يقول واصفو مزارع العراق: إنّها لا يوجد فيها فدان غير مزروع).

وهكذا على قادة اليوم أن يتعلموا من التأريخ وتجاربه، فإذا كان حال الزراعة على هذا النحو المشرق قبل مئات السنين فما الذي يجب أن تكون عليه الآن ؟ في ظل التطور التقني والمكننة الزراعية وما شابه.

لذا نهيب بمن يتصدر سياسة البلاد وقيادته أن يأخذ من تجربة الاسلام في الزراعة والعمران إنموذجا لتدعيم الواقعين الزراعي والعمراني لكي يتم تجاوز محنة البطالة المستشرية بين اوساط الشباب وغيرهم ناهيك عن الفوائد المادية والمعنوية الكبيرة في هذا المجال، ومع أننا لم نتطرق إلا لشواهد عمرانية وزراعية قليلة للتذكير لكننا نجد في كتاب سماحة المرجع الشيرازي دلائل ونماذج كثيرة وكبيرة في الوقت نفسه يمكن ان تكون دليلا لساستنا في هذا الجانب الهام إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي:

(هذه الشواهد وإن كانت لا تعطينا صورة تفصيلية عن العمران والزراعة في ظل الحكم الإسلامي في البلاد الإسلامية كلها، إلا أنها تكفي لأن تكون أنموذجاً عن ذلك).

.............................

هامش:

(1) هو أحد المؤرّخين في القرن الرابع الهجري.

(2) الزوارق: جمع زورق وهو: ضرب من السفن الصغيرة. انظر مجمع البحرين: ج5 ص176 مادة زرق.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 1/أيار/2010 - 16/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م