(الولاية)؛ حقيقتها، فلسفتها، ولوازمها

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيرا، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين.

يقول الله سبحانه وتعالى،في كتابه الكريم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).[1]

بمناسبة مولد الإمام الرؤوف، الإمام علي بن موسى الرضا  (عليه السلام) في الحادي عشر من ذي العقدة.. نتكلم بعض الشيء عن (الولاية) ومفهومها ومكانتها وفلسفتها...

بني الإسلام على خمسة أشياء

جاء في الحديث عن الإمام الباقر  (عليه السلام)، في رواية زرارة أنه (عليه الصلاة وأزكى السلام)، قال: (بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية)[2]..

وفي رواية أخرى: (ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية)[3]..

وسوف نتوقف قليلاً عند كلمة (نودي)، ثم عند كلمة (كما)، ثم عند كلمة (الولاية) بإذن الله تعالى..

الدلالات العميقة لكلمة (وما نودي)

(وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)، علينا أن نتدبر في كلمة (نودي) وأن نتسائل: (النداء) ماذا يعني؟

عندما نتتبع كتب اللغة نجد: أن اللغويين ذكروا للنداء معاني عديدة، لكن الجامع بين المعاني المذكورة في كتب اللغة هو معنيان:

المعنى الأول: للنداء هو (صوت أو صرخة باستغاثة)، فإذا أنت ناديتَ واحداً مُستغيثاً به، فتقول: ناديته، أو أناديه، أو أناديك، أو نادى فلانٌ فلاناً.. فـ (ناداه) أي (صاح به مستغيثاً).

المعنى الثاني: (الطلب)؛ وهو مطلق الخطاب الموجه للغير حتى إذا لم تكن هناك استغاثة، أو لم يكن هناك صراخ، أو نداء بصوت عال.

وقد يقال: إن مجرد الطلب لا يطلق عليه النداء، وأما الاستعمال فهو أعم من الحقيقة، ولعل (الطلب) هو جزء الموضوع له فقط، واللغوي شأنه بيان موارد الاستعمال، لا الموضوع له.

فإذا ناديتَ شخصاً بصوتٍ عالٍ، فهذا يسمونه نداءً، وإلا فالحديث الطبيعي والطلب العادي لا يسمونه نداءً، نعم يمكن أن يقولوا: سأله، طلب منه، تحدَّث معه، خاطبه، لكن لا يقولون: (ناداه)، إذا لم تكن هناك استغاثة، أو لم يكن هناك صوت عال..

وإننا هنا نريد أن نركز على (مفهوم الاستغاثة) المتضمن في كلمة (نودي) الموجودة في الرواية، نريد أن نركِّز عليه بعضَ الشيء.. (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية).

دلالات (النداء) في القرآن الكريم

فلنرجع أولاً للقرآن الكريم، ولنتأمل المعاني المتضمنة في كلمة (نادى) في موارد عديدة في الاستعمالات القرآنية، فإن الآية الشريفة تقول: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).[4]

إننا نجد أن (نادى) تعني هنا: نداءً باستنجاد، باستغاثة، و(النداء) يتضمن مفهوم الاستغاثة بوضوح.. لاحظوا: (أصحاب النار) أين؟ و(أصحاب الجنة) أين؟ فيجب أن يصرخوا بصوت عالٍ حتى يصل صوتهم لهم ثم إننا نجدهم وهم يستغيثون في نفس الوقت..

وفي آية أخرى، قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ).[5]

(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) ماذا يعني؟ وعلى ماذا يدل؟ يعني أنه يستغيث، لأن ابنه سيغرق ويعذب، وأيضاً تجدون أن مفهوم النداء بصوت عال متضمن هنا، كما في الآية الأولى أيضا (وَنَادَى أَصحَابُ النَّارِ أَصحَابَ اْلجَنَََّةِ)، وبذلك نعرف بعض معنى (نودي) في الرواية الشريفة: (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)..

وللتأكيد نذكر لكم آيات أخرى ذات دلالة فقد قال تعالى: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[6]، تلاحظون أن (فنادى) هنا تعني نداءً باستغاثة، واستنجاد، (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿87﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[7].

وعلى أي تقدير وسواء أقلنا بأن (المنصرف) من النداء هو ما ذكرناه، وأن (الاستغاثة) هي جزء المعنى الموضوع له، وكذا (الصوت العالي) وأن (الطلب باستغاثة وبصوت عال) هو المعنى الحقيقي وأما المجرد عنهما فهو مجاز، أم قلنا: بأنه يطلق عليهما بالاشتراك اللفظي، أم قلنا بأن الاستغاثة والصوت العالي هما أيضاً من شأن الاستعمال لا من قيود الموضوع له فإنه لا شك في دلالة قرائن المقام في تلك الروايات وفي هذه الرواية عليهما أي على الاستغاثة والصوت العالي وذلك بلحاظ السياق، والغاية، وقرينة الحكم والموضوع، وبقرينة سائر الروايات.

وهكذا نجد في روايتنا أن مفردة (النداء) قد استخدمت فقيل: (وما نودي) ولم يقل الإمام (وما طلب من أحد) أو (وما سُئل)، وذلك لأن في هذا النداء هنا يوجد مفهوم استغاثة واستنجاد.

لماذا يستغيث بنا الرسول والأئمة  (عليهم السلام) لنتولاهم؟

ولكن ماذا يعني ذلك؟ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي (بالولاية)، أي (يستغيث) بنا لكي نتولاه، ونتولى علياً، والأئمة من بعده؛ لماذا يستغيث؟ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، الإمام الحسن  (عليه السلام) يستغيث بنا، يستنجد بنا، لكي نتولاهم، ماذا يعني ذلك؟

السر في ذلك نكتشفه في رواية أخرى حيث ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

(يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)[8]

فماذا نستفيده من هذا التعبير الرائع (أبوا هذه الأمة)؟

الذي نستفيده: أن النبي والإمام (عليهما الصلاة وأزكى السلام) حيث كانا للأمة بمنزلة الأب الرحيم، فإنهما أحرص الناس على مصالح الأمة، وعلى حفظهم وهدايتهم وإرشادهم، إن الأب لا يريد لابنه أن يضلَّ، لا يريده أن يضيع، لا يريده أن ينحرف، لا يريد أن يسلك طريق النار، فإذا رأى ابنه أنه سيخرج عن الجادة، يناديه مستغيثا به،لكي يعود، لماذا؟ لأن الضرر الذي يلحق بالابن يلحق بالأب، لأنه قطعة منه، بَضْعَة منه، جزء منه، يحبه، يخاف عليه الهلاك..

وإن هذه الرواية الواردة: (أنا وعلي أبوا هذه الأمة)[9].. تمتد من النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)، والإمام علي بن أبي طالب  (عليه السلام)، لتلفّ بدلالتها الأئمة واحداً أثر آخر وصولاً لـ: الإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، فإنهم جميعاً بمنزلة الأب الرحيم، وذلك لأنهم نور واحد وامتداد واحد.

إن هذا الإحساس السامي إذا تولَّد فينا، فإن كثيراً من الأمور سوف تتغير حقيقة.

الأب الرحيم لا يريد لأبنائه أن يَضِلوا، لذا يستغيث بنا، تأمل هذا النداء الرحيم:

(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا) ، إنه يستغيث به كي لا يهلك ويغرق ويخلد في النار.

وبتعبير آخر: النبي والإمام يحبنا حقيقة، كحب الأب أبنائه، بل لعله أكثر، وأنتم سمعتم بأن الإمام الحسين  (عليه السلام) بكى يوم الطف على أعدائه، لماذا؟ لأنه يحبهم بما هم خلق لله، حتى عدوه كان يحبه بالعنوان الأولي أي: لا يريد أن يذهب عدوَّه إلى النار، بل يريد أن يدخل إلى الجنة، هذا عبد من عبيد الله، لكنه بسوء اختياره يريد أن يدخل النار وبالقوة، فالإمام يبكي عليه، وعيسى المسيح  (عليه السلام)، يقول: (أحبوا أعداءكم)[10]، لان هذا العدو عبد من عبيد الله وخلق من خلائقه، فأحبوهم بذواتهم، لا بصفاتهم، أحبوهم بالعنوان الأولي.

فأنت تحب هذا العدو وهو بالحقيقة أي في جوهره ليس بعدو، ولكن سوء اختياره جعل منه عدواً لكي تجذبه، لكي تجره إلى طريق الجنة، وأما إذا أصرَّ وذهب إلى طريق النار، وبقي على هذا الدرب الشائك الموبِق المهلك، فإن من الواضح أن الواحد منا يجب عليه أن يتبرأ من أعداء الله، ولا يحبهم بما هم أعداء الله، لكن المحبة بالعنوان الأولي، أو في المحطة الأولى، أو في المرحلة الأولى، أو هو مقتضى الطبع الأولي، وليس بالعنوان الثانوي، أي بملاحظة انه دنّس فطرته، وفي الرواية: (كل مولود يولد على الفطرة، إلا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه).[11]

وبعبارة أخرى: المحبة له (لا بشرط) عن صفاته، إن لم نقل أنها (بشرط لا) عن صفاته، والبغض له (بشرط صفاته).

(وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)[12]، الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادينا بالولاية لكي نتولاه، لماذا؟

لأنه هو القائد الذي يُنْجِحُ هذه المسيرة في الدنيا وفي الآخرة أيضاً، فالقائد إذا كان قلبه يحترق على الرعية، يستصرخهم: (يا جماعة تعالوا، تمسكوا بي، أنا القائد والمنقذ، العدو سيدهم البلد، وسيقضي عليكم) يستنجدهم، لماذا يستنجدهم؟ لأنه يحب رعيته، يحب الناس، يعرف أنه القائد الكفء، وأن غيره ليس بكفء، سيسلك بهم مسالك الردى والضلال، ويوقعهم في أسفل الوادي فيتحطمون أشد تحطم.

(وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)، هنا نجد بوضوح أن معنى الاستغاثة متضمن في هذه الكلمة، وما أرقُّ هذا المعنى، وما أدقّه.. إذا الواحد منا عرف هذا المعنى؛ وعرف والده ووالدته، وعرف قدرهما، وإنهما كم يحبانه، إذا عرف من هو أبوه، من هو قائده، من هو إمامه، من هو نبيه، فإنه سيبادله المحبة، والشوق، والرغبة، والطاعة، وسيسلس له قياده ويكون له أطوع من بنانه.. هذه كلمة مختصرة حول كلمة نودي.

الموازنة بين (الولاية) وبين الصلاة والصوم والحج والزكاة

بعد ذلك نتوقف عند كلمة (كما)، (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)، لماذا؟

(الصلاة)؛ أليست هي أهم الأركان؟ وعلينا أن نفكر بهذه المقاطع الخمسة، ونتساءل ما هو الرابط بينها؟ (بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والجهاد، والولاية)، وتوجد إضافة: (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية) في الرواية الأخرى.

ما هو الرابط بين الأربعة الأولى؟

ربما تكون الإجابة أن العنوان الأول:

وهو (الصلاة) يحدد علاقة الإنسان مع ربه بالأساس، ويتحكم بها ويوجهها ويؤطرها، ذلك أن الإنسان له (علاقة بربه)، وله (علاقة بنفسه)، وله (علاقة بمجتمعه)، وهذه (العلاقة) لها شعبتان أيضاً، و(الصلاة) تُجسِّدُ علاقة الإنسان بربه،

و(الزكاة) تجسد علاقة الإنسان بمجتمعه في وجهها الاقتصادي.

ذلك أن الحياة تبتني فيما تبتني عليه على الاقتصاد كما هو واضح، (مَنْ لا مَعاشَ له لا مَعادَ له)[13] حتى الآخرة، في الجملة تبتني على الاقتصاد..

و(الصوم) يُجسِّدُ علاقة الإنسان بنفسه، إذ عليه أن يمتنع عن (الأكل والشرب والمفطرات المعروفة)، فهو يضبط نفسه، ويُسيطر عليها، ويتحكم فيها، فيكون هو الذي يسيّر سفينته في لُجج البحار، ليس هي مَنْ تأخذ به يمينا وشمالاً،قال تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿10﴾).[14]

فهو يسلك بها سبيلَ الرشاد والهدى؛ بدل سُبُل الضلالة والردى.

وأما (الحج) فإنه يُجسِّدُ علاقة الإنسان بالمجتمع، فإنَّ واحداً من ابرز وجوه الحج هو الوجه الاجتماعي.

وإن من الصحيح: أن هذه الأركان الأربعة كلها ذات أبعاد مُختلفة، لكن قد يقال إن الوجوه الأبرز لها هي هذه، أو أنها من أبرز الوجوه.

إذن علاقة الإنسان بربه، تجسدها (الصلاة)، وعلاقة الإنسان بنفسه، يهذبها (الصوم)، وعلاقة الإنسان بمجتمعه في الوجه الاجتماعي، يوجهها (الحج)، وعلاقة الإنسان بمجتمعه في وجهه الاقتصادي، تتحكم بها (الزكاة)، والزكاة تشمل الخمس أيضاً..

والوالد (قدس سره) كان يقول: قد يتساءل المرء: لماذا توجد في القرآن آيات كثيرة حول الزكاة؟ كقوله تعالى: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا).[15] لكن الخمس لم يذكر بهذا اللفظ إلا مرة واحدة في القرآن الكريم (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ)[16]..وفي الروايات (أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة)[17]؟

كان يجيب: الزكاة تشمل الخمس أيضاً، فإنها أعم وهو من مصاديقها.

فهذه إشارة لهذا الجانب الاقتصادي المهم، والحديث في هذا الحقل حديث فقهي لا نريد أن ندخل فيه الآن.. فلنعد إلى الرواية الشريفة

السر في أرجحية الولاية على الصلاة وغيرها.. (لأنها مفتاحهن)

(وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)، ماذا يعني ذلك؟ ولماذا (ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية)؟

الإمام (عليه الصلاة وأزكى السلام) في تتمة رواية زرارة يجيب على هذا السؤال عندما سأله زرارة: أي شيء من ذلك أفضل؟ فأجاب: الإمام الباقر  (عليه السلام): الولاية، لأنها مفتاحهن.[18]

و(الولي) هو الدليل عليهن.. هذا هو المفتاح.. ولكن كيف أن الولاية هي المفتاح لهذه الأربعة؟ وكيف أنها المفتاح لعلاقة الإنسان بربه؟ مما يعني: أنه لولا الولاية تكون علاقة الإنسان بربه علاقة غير مَرضيَّة لله سبحانه وتعالى، وكذلك علاقته بنفسه غير سليمة، كما أن علاقته بمجتمعه في وجهيها الاجتماعي والاقتصادي، ستكون مختلة مضطربة.

ونكرر السؤال: فلماذا (ما نودي)؟، ولماذا (ولم يناد احد بشيء كما نودي بالولاية)؟

ونجيب:

لأن الولاية هذه يُراد بها (الولاية العظمى).. ذلك أنه توجد (ولاية صغرى)، وهي ولاية تجزيئية، وولاية مُبعَّضة، مثل ولاية الأب أو الجد، على الابن، أو ولاية المولى على العبد، أو ولاية الوصي أو ما أشبه ذلك، وتسمى ولاية القيِّم..

وتوجد (ولاية عظمى) عامة شاملة، وإن (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية) تُشير إلى (الولاية العظمى)، وهي التي أشير لها في الآية القرآنية الكريمة،التي ابتدأنا بها البحث: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، فأية ولاية هي الثابتة لله سبحانه وتعالى؟

إنها الولاية العظمى، المطلقة، هذه الولاية جعلها الله سبحانه وتعالى للرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعلها للإمام  (عليه السلام) من بعد الرسول.. أي أنها من المراتب الطولية لولايته جل اسمه.

الاستدلال بآية الولاية على العصمة الكبرى

فكروا ولاحظوا، فقد كنتُ أفكرُ بالأمسِ بهذه الآية الشريفة، فرأيتُ أنه توجد أدلة عديدة يمكن أن نستنبطها من هذه الآية، في الاستدلال على عصمة الرسول والأئمة (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، أشير فقط لاستدلالين:

الاستدلال الأول: بكلمة (إِنَّمَا)..

الاستدلال الثاني: بكلمة (وَلِيُّكُمُ)..

الاستدلال الأول:

أما كلمة (وَلِيُّكُمُ) فدلالتها ظاهرة، لأن الولاية التي جُعلت لله سبحانه وتعالى، ولاية مطلقة، ونفس هذه الولاية أعطيت للرسول، والإمام، فالآية هكذا تقول: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ)، نفس الوزن، ونفس السِّياق، وليس أكثر، ومنتهى الأمر أن هذا بالذات، وذاك بالعرض، وإلا فمن حيث الصلاحية فإنها هي صلاحية مطلقة، إلا أن هذا بالذات، وذاك بالعرض، والله هو الأصيل والمعطي، والرسول والإمام هو الخليفة والنائب والوكيل والمعطى.

هذه مرتبة الخالق، وتلك مرتبة المخلوق، لكن في مرتبة صلاحية التصرف، والسلطة، والولاية على الناس، هي صلاحية مطلقة من جميع الجهات، فالآية مُطلقة، والله سبحانه دقيق في كلماته، ولن يُطلق الكلام - والعياذ بالله - على عواهنه.

ولا دليل على تقييد هذه الولاية المطلقة الممنوحة للرسول والإمام بنص هذه الآية الشريفة (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ)، وواضح أنه تعالى هو الولي بقول مطلق. هذه الولاية التي هي لله، جُعلت بنصِّ الآية القرآنية الكريمة للرسول الأعظم ولـ(وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، الذي هو بالإجماع علي بن أبي طالب  (عليه السلام) ولا كلام في ذلك..

(وليكم) دليل العصمة

والآن لننطلق إلى التساؤل الآخر

هذه الولاية بقول مطلق هل يعقل أن تُجعل لغير المعصوم؟

كلا؛ فلا يُعقل أن تُجعل هذه الولاية، لشخص غير معصوم، أي بما للولاية من معنى، بما للسلطة من معنى وشمول، هل يعقل أن يجعلها الله الحكيم، لشخص غير معصوم؟ لشخص جائز الخطأ، أو الاشتباه؟ إن هذا غير معقول، وهو خلاف الحكمة..

نعم؛ خلاف الحكمة من الله سبحانه وتعالى؛ أن يجعل ولايته المطلقة لشخص من الأشخاص، يمكن أن يخطئ، أو يشتبه، أو يزلَّ في أيِّ موقع من المواقع كان، وفي أية قضية كانت.. وبذلك نعرف أن هذا العيار الثقيل والوزن الكبير، أي جعل الولاية الموجودة له سبحانه وتعالى وهي بلا شك ولاية مطلقة من كل الجهات للرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم)، وللإمام  (عليه السلام)، دليل على عصمته وإلا كان خلاف الحكمة، وخلاف العقل أيضاً.

الاستدلال الثاني:

(إِنَّمَا) دليل الولاية المطلقة

وأما كلمة (إِنَّمَا)، فهل هذه الكلمة يَصُحُّ استخدامها لو كان المراد الولاية الجزئية؟

الأب له ولاية أيضاً، فلماذا الله سبحانه يقول: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ)، والحال أن الآباء، والأجداد، والقيمون على الأيتام ومن أشبههم، أيضاً لهم الولاية التجزيئية. هذه (إِنَّمَا) أداة حصر، فلنفكر: الله تعالى يَحصرُ ماذا في ذاته القدسية وفي رسوله وإمامه؟

إنه يحصر مفهوماً استثنائياً، وليس مفهوماً عاماً.. (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ)، وليس إلا (الولاية العظمى والمطلقة).

والحاصل إن هذه الولاية المجعولة للنبي، وللإمام - والتي هي في طول ولاية الله سبحانه وتعالى- هذه هي (الولاية العظمى)، هذه هي المحصورة في الله، والرسول، والإمام، وإلا فإن غيرها غير محصور في الله، والرسول، والإمام، ولا يُعقل الحصر أيضاً إلا بالعصمة.. والحديث عن العصمة طويل، ولكن تكفينا في هذه العجالة إشارة فقط.

(وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)، لماذا؟ لأن هذه الولاية هي الولاية العظمى، التي هي ولاية الله، والرسول، والأئمة، والنتيجة أن الإنسان إذا ابتعد عن هذه الولاية، تكون صلاته باطلة.. والصوم كذلك يكون باطلاً.. وعلى أحسن الفروض والصور، تكون غير مقبولة.

هل صلاة غير الموالي باطلة؟

وقد تسأل: لماذا صلاته تكون باطلة؟

وأجيب:

لأن الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي)[19].. فالصلاة تكون باطلة أو غير مقبولة، إذا لم تطابق صلاته ما أمر به رسول الله، ولم يقتد به  (صلى الله عليه وآله وسلم) أي صلى على غير ما صلى عليه رسول الله، أي: لم يصل مسبلاً يديه واضعاً جبهته على التراب مثلاً، لأن مسجد الرسول لم يكن مفروشاً بشيء، وكان  (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي على التراب. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)[20] والملفت أن هذه الرواية موجودة في الصحاح وفي صحيح البخاري بالذات[21].

إذن (الولي) وهو الرسول والإمام، هو بتصريح الإمام الباقر (عليه السلام) (إنها مفتاحهن) والوالي الدليل عليهن.. والله، يقول: صل كما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. فإذا صليت بطريقة ثانية أي إذا لم يكن المأتي به مطابقاً للمأمور به تكون صلاتك باطلة في الجملة.. فعلاقتك مع ربك ليس لها مُصحِّح، فإنّ تلك العلاقة مع الرب، يجب أن يُحددها الله وليس أنتَ..

الله يقول هكذا صل، ويأتي مَنْ يقول مثلاً: أنا أصلي خمس ركعات!! أنا إنسان عابد صالح فأصلي خمس ركعات!! أصلاً أصلي ألف ركعة متصلة!! هل صلاته مقبولة؟ كلا.. إن صلاته باطلة.

الله يقول: صلِ مثل ما أنا قلت وأمرت، وليس بطريقة أخرى، سواء في الأجزاء أم الشرائط وبدون الموانع والقواطع.

كذلك (الصوم)، فإذا الإنسان أفطر قبل المغرب، أفطر مع الغروب، فإن صومه باطل.. وذلك أن (علاقته مع نفسه)، أيضاً رسم حدودها وشرائطها وموانعها، الله تعالى، الخالق للعباد والمشرع للأحكام والعبادات.

كذلك (الحج) فإنه إذا لم يطف طواف النساء، ثبوتاً زوجته تحرم عليه، وإن كان من الناحية الظاهرية له حكم آخر، ومن الواضح أن مرتبة الاقتضاء والإنشاء والفعلية ثابتة، لكن الكلام في مرتبة التنجيز وهل ترتفع العقوبة بالتزامه بمذهب آخر؟ إن ذلك يرتبط بكونه قاصراً أو مقصراً، ولهذا البحث مجال واسع يترك لمظانه من مباحث كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

وهكذا وهلمَّ جراً من الأمور.. فالزكاة، إذا لم يكن هناك ولي من قبل الله تسلّم له، فإن الزكاة سوف تذهب إلى جيوب الإرهابيين التي تنتج ماذا؟ تنتج هذه التفجيرات، وهذا التلويث لسمعة الإسلام، وسمعة المسلمين، هذا من الناحية الظاهرية، والشكلية، والقانونية.

ومن الناحية الواقعية، فإن الولاية - مع قطع النظر عن الشروط الشرعية - هي شرط القبول لكل الأعمال، فمثلاً الإنسان يُصلي وهو لا يعتقد برسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) هل صلاته مقبولة؟ كلا، وإذا لم يعتقد بالأئمة (عليهم السلام) أيضاً صلاته ليست مقبولة، هذا من الناحية الجوهرية.

(وما نودي أحد) ولهذا المقطع كلام مفصَّل ربما في وقت آخر نتطرق له إنشاء الله تعالى، وسنكتفي بقاعدة الميسور

ونتساءل لماذا (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)؟

الجواب:

أولاً: لان المراد بالولاية: (الولاية العظمى) وهي العمود والعماد والجوهر، لسائر العبادات وهي سر القبول للأعمال وملاك الصحة.

الولاية سرُّ السعادة في الدارين

ثانياً: أن هذه الولاية هي سرُّ سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، لاحظوا، الإنسان لابد له من مولى، وكل إنسان يحتاج إلى مولى، ولي، قيّم، رئيس، حاكم، سلطان، لكن هذا السلطان مَنْ هو؟

هل هو الشهوة؟ هل هو حب الرياسة؟ هل هو المال؟ أو سلطانه ووليه هو رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو سلطانه الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)؟

فالإنسان بذاته وتركيبته يحتاج إلى مولى وقائد[22]، وأن ذلك من وجوه ضرورة هذه الولاية (ما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)؟ ذلك أن هذه الولاية هي سرُّ السعادة في الدنيا والآخرة..

وأؤكد أن الإنسان يحتاج إلى وليٍّ، إلى قيّم، إلى مرشد، إلى سلطان بالمعنى اللُغوي، وإلى دليل ومرشد وهادي، فلو المرء كان عبداً لله، ولرسوله، والذين آمنوا، أي كان حقيقة عبداً لهم، لتحرر إذن من كل سلطان، من سلطان الأهواء والشهوات، وعندئذ ستجد أن الشهرة ليست مهمة عنده، والرياسة ليست مهمة عنده، والمال ليس مهماً عنده، وليست بذات قيمة لديه، ولا تشكل مقياساً عنده، وعندئذ يكون السعيد حقاً، وإن كان معدماً ذلك، أنه حر يستنشق عبير الحرية.. ويحلق في هوائها.. ويحبه ربه قبل ذلك أيضاً.

لا أدري هل أنتم لاحظتم أم لا؟ إن حياتكم هي سلسلة من التحديات المستمرة مع الشيطان، تصوروا إنساناً يمشي في الشارع فيقع بصره على امرأة أجنبية، فيغضَّ طرفه، فإنه بمجرد أن يغض طرفه، يُحِسُّ بلذة لا توصف وسيستشعر قيمته وقيمة إرادته وسموه، بل ويستشعر رضى الله تعالى عنه، وفي الرواية: (أن الله يخلق له في نفس اللحظة حورية تنتظره في الجنة)[23]، فإذا تعرض المرء مائة مرة في اليوم الواحد لهذا المأزق، وخرج منه بسلام فإن مائة حورية تنتظره في الجنة، وتزداد كل يوم وهكذا وهلمَّ جراً..

إن حياة الإنسان سلسلة من التحديات، إذ إنه يريد أن يكذب، فإذا أمسك نفسه، فإنه يحسُّ عندئذ بقيمة لنفسه، ويستشعر عندئذ أنه أصبح سيد نفسه، وعبداً حقيقة لربه ورسوله وإمامه، وإذا كذب فإنه يحسُّ بمهانة، وإن حاول أن يَدفن ضميره ويُسكت صوته المجلجل في داخله، لكن (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴿15﴾)[24].

ولكن وفي المقابل فإن مَنْ يُريد أن يغتاب مثلاً، فإذا أوشك على الغيبة، أو التهمة، أو النميمة، أو الحسد، أو الكبر، أو العجب، ولكن أمسك نفسه، يُحسُّ بارتفاع رصيد معنوياته، وبأنه حقيقة صار ذا قيمة، ذلك أن قيمة الإنسان كل القيمة بأن يكون معناً حرفياً بالنسبة للعبودية..

ولأمثّل لكم مثالين من وحي المناسبة في اتجاهين متعاكسين:

معاوية وعشرة آلاف عصفور!

المثال الأول عن معاوية: يروى أن أحد الأشخاص نزل ضيفاً عنده، يقول: أتوا بسفرة ما أفخمها، وأعظمها، وأشملها لصنوف الطعام، وكان من جُملتها طعام لذيذ جداً، لم أرَ ولم أسمع بمثله، فسأل معاوية: ما هو هذا الطعام؟

فقال: هذا الطعام مادته الأساسية هي مخ العصافير، ويمزج بـ(عسل) و(سَمن) وكذا وكذا.. وأضاف معاوية: إن لنا صيادين شأنهم صيد العصافير وهم يصيدون عشرة آلاف عصفور لكل وجبة واحدة من هذا الطعام!! (مسكينة هذه العصافير!! يصيدها ليأخذ مخها فقط، لاحظوا مخ العصفور كم حجمه؟ كم يبلغ وزنه؟عشرة آلاف عصفور يصيدونها، يذبحونها، ويأخذون مخها ليطبخوه مع العسل وغيره، حتى هذا الرجل يتمتع بوجبة لذيذة تنتهي في دقائق، ويبقى عليه وزرها، ووزر من ساهم فيها، حيث أتلف أموال المسلمين بهذه الصورة الفاحشة).

صدق ربنا حيث يقول: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[25]

إن معاوية وأشباهه، هم حقاً ممن يصدق عليهم (عبيد أذلاء بل حقراء للبطن)، كما هم عبيد أذلاء للشهرة والمال وأعراض الدنيا الزائلة: ولقد تأخَّر ذات مرة على الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم)، الرسول كان قد بعث يطلبه، لكنه كان مشغولاً بالأكل، المرة الثانية، المرة الثالثة، الرسول قال: لا أشبعه الله[26]، هذا عبد ذليل حقير للبطن.. فهل أنا قيمتي أن أكون عبداً للبطن، أو للفرج، أو للرياسة، أو للشهرة، أو ما أشبه ذلك؟

إن سعادة الإنسان هي بأن يكون ولياً لله، ورسوله، والإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) طائعاً لهم، مهتدياً بهديهم، سائراً على دربهم..

فإذا استشعر الإنسان هذا المعنى، وأن وَليَّه حقاً وصدقاً كما هو كذلك هو الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، فإن معادلة الحياة كلها سوف تختلف، وسيكون كما قال تعالى (عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون)[27] و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)[28].. ولذلك قال الإمام الباقر  (عليه السلام): (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية)..

الموازنة بين (الولاية) وبين (الدنيا بحذافيرها)

المثال الثاني: وأختم به الحديث، وبرواية لها أبلغ الدلالة حقيقة، عن يونس بن عبد الرحمن الذي قرأنا بعض رواياته في فرائد الأصول للشيخ الأنصاري، كما توجد في كتب الحديث كوسائل الشيعة وغيره (يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه ما أحتاج إليه من معالم ديني..)[29] هذا العظيم، يونس بن عبد الرحمن، قال للإمام الصادق  (عليه السلام) (لولائي لكم وما عرَّفني الله من حقكم، أحبُّ إليَّ من الدنيا بحذافيرها)[30].

يقول لأبي عبد الله  (عليه السلام): (لولايتي لكم)، يعني ولائي لكم وكونى مولاً، تابعاً، عبداً لكم (وما عرفني الله من حقكم)، وهو بذلك يرجع الفضل لرب الأرباب فكما أنه الرازق للعلم والعقل والسمع والبصر، كذلك هو الرازق (لمعرفة حق أهل البيت  (عليهم السلام))، (أحبُّ إليَّ من الدنيا بحذافيرها).

لاحظوا هذا المعنى السامي والرفيع والدقيق، ولنتأمل في أنفسنا، فهل هذا المعنى متوفر فينا؟ (الدنيا بحذافيرها)، أم ولاية أمير المؤمنين  (عليه السلام)، أيهما الأحبُّ إلينا؟

إن هذا في (القول) وفي عالم (الشعارات) سهل، ولكن في مقام العمل تجدونه في غاية الصعوبة..

لاحظوا: أن الإنسان إذا خسر مبلغاً من المال، أو أهانه شخص في المجلس، تصوروا الآن أنكم إذا دخلتم إلى مجلس، وأحدهم حقيقة، أهانكم، كم تتألمون؟ وربما لا تنامون الليل، وقد يقعدكم ذلك عن العمل لأيام، أو تتخذون مواقف تمتد آثارها لأشهر وسنين، وفي المقابل: أما نسمع في الإذاعات والفضائيات؟ وألا نرى في الكتب والجرائد، هضماً وبخساً عجيبين لحق أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه صلوات المصلين فهل نتألم بتلك الدرجة؟

إذا شخص أهاننا وطعن فينا كم نتألم؟ لكن أمير المؤمنين  (عليه السلام) لا يزال حقَّه مجهولاً على مستوى العالم.. ولا نتألم ذلك التألم! ولا نُحرك ساكناً، هذه الكلمة جداً عظيمة (لولايتي لكم وما عرفني الله من حقكم أحب إلي من الدنيا بحذافيرها)[31] يعني بشهرتها، بمالها، برياستها، بكل شيء فيها، بحذافيرها، وكان يونس صادقاً..

فهل نحن صادقون؟! هل أحدنا يضحي كل يوم بساعة من نومه لنصرة الدين والذب عن حياض عترة رسول رب العالمين؟ للكتابة عنهم، أو لهداية مخالفيهم، أو شبه ذلك.

وهل يضحي بنصف ثروته لذلك؟! وتعبيرنا بـ(يضحي) من ضيق التعبير وإلا فإن من يدفع واحداً ليربح المليار ليس بمضحي بل هو أكبر تاجر، إذ يربح الواحد منا بكل دقيقة جهاد في سبيل الله ورسوله وأهل بيته  (عليهم السلام)، المليارات بل وأكثر.. بل المضحي حقيقة هو من لا يفعل ذلك!!

وهناك رواية أعظم، وأشد وقعاً، يقول مولانا الإمام الصادق  (عليه السلام)، كلمة يجب أن تكتب بالنور على صفحات القلوب والصدور: (ولايتي لعلي بن أبي طالب  (عليه السلام) أحب إليَّ من ولادتي منه، لأن ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض، وولادتي فضل..).[32]

ونحن لكي نصل إلى المرتبة التي كان قد وصل إليها يونس بن عبد الرحمن، لعلنا نحتاج إلى مليون سنة ضوئية من السعي الحثيث المتواصل! والله العالم.

عتاب الإمام ليونس لأنه فضّل ولايتهم على الدنيا!

والغريب مع ذلك كله نجد أن الإمام  (عليه السلام) غضب من قوله هذا لأنه بمستوى جداً رفيع، فالإمام لا يغضب عليَّ لأنني مَنْ أنا؟ ما قيمتي وكم هو مدى إدراكي وشعوري؟ أما يونس فله قيمة سامية، رفيعة جداً، والإمام يعرفه، فينبهه إلى خلط كلامه وخطأه، وإنه عيب عليك أن تقول هذا الكلام أصلاً!!ـ يقول يونس فتبينتُ الغضب فيه، وقال  (عليه السلام): (يونس! قستنا بغير قياس..).

ولم يستخدم معه كُنية، وما أشبه، فهناك علاقة محبة، وأخوة كانت له، وكان جليلاً جداً، شأن يونس بن عبد الرحمن هو هذا، قال له: (يونس! قستنا بغير قياس، وما الدنيا وما فيها حتى تقاس بمحبتنا؟)

مثل واحد يقيس الذرة بالمجرة! أو يقيس بعلي  (عليه السلام) معاوية.. بل هل تقاس البعرة بالمجرة؟! بل الفاصل بين علي ومعاوية أبعد... فأبعد... فأبعد... ما هذا القياس؟ (يونس قستنا بغير قياس وما الدنيا وما فيها، وهل هي إلا سد فورة)، مثل فورة الجوع، الواحد يسدها، يأكل قليلاً فيشبع، يأكل خبزاً، أو يأكل دجاجاً، ما هو الفرق؟ المعدة تمتلئ بطعام قليل مهما كان، ثم هو الحساب والعقاب، أو الجزاء الأوفى والثواب.. فلماذا هذا التكالب على حطام الحياة الدنيا؟ (وهل هي إلا سد فورة، أو ستر عورة، وإن لك بمحبتنا الحياة الباقية).

ماذا تقول يا يونس؟ توازن بين الدنيا بحذافيرها، وبين معرفة حقنا، والولاية لنا، وتقول هذا أحب إليك من ذاك؟، وكم هي قيمة الدنيا؟ مثل أحدهم يقول: المليار أحب إلي من الدرهم، أو رضوان الله والجنة أحب إلي من قطعة من الحامض حلو!! لا يوجد قياس بين الأمرين.. بل إنه قد يعد نوعاً من التفكير الطفولي.

ونحن الآن الكثير منا، في المرتبة الأولى والأدنى، وقلتُ: لعلنا نحتاج إلى مليون سنة ضوئية من السعي ومن الركض ليصل إليها! فكيف المرتبة الثانية، والحديث عنها طويل.. (يونس قستنا بغير قياس وما الدنيا وما فيها، وهل هي إلا سد فورة أو ستر عورة). الدنيا ليست أكثر من هذا، سواء الغني، أو الفقير فبالنتيجة الكل يعيشون، ويأكلون ويموتون وانتهى الأمر..

ولكن؛ (وإن لك بمحبتنا الحياة الباقية)، مليارات من السنين، ترليونات من السنين، بل أكثر من ذلك لنا بسبب محبتهم، هكذا يريدنا الإمام  (عليه السلام): أن نفهم، وأن نكون، وأن نسمو.. ونسمو.. ونسمو.. ويدل على ذلك إضافة لكلام الإمام  (عليه السلام) وهو حجة الله على الأنام، القرآن الكريم أيضاً، قال تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)[33]

فأجر الرسالة ما هو؟ محبة رسول الله، وعلي، والأئمة إلى المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) ومن الواضح أن لا يوجد في الكون أعظم من (الرسالة) فلابد أن يكون (أجرها) متناسباً معها، كماً وكيفاً وجهة، وما الدنيا بحذافيرها في مقابل الرسالة؟! وهل يعقل وزن الرسالة، بالدنيا؟ إنما الأجر الذي يوازن الرسالة هو محبة حملتها آل البيت الأطهار  (عليهم السلام).. فهل من موازنة بين محبتهم وبين الدنيا بحذافيرها.. كلا.. وألف كلا..

ولاحظوا ماذا يقول القرآن الكريم: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)،ولكن في آية أخرى، يقول ربنا سبحانه: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[34]، أنا لا احتاجكم، هذا الأجر لكم، (فهو لكم)، وأنت (لك بمحبتنا الحياة الباقية)، لذلك نعرف بعض السر في قوله  (عليه السلام): (وما نودي أحد بشيء كما نودي بالولاية).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيدنا وإياكم من ولاية محمد وأهل بيته  (عليهم السلام)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

..................................................

* فصل من كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

للإطلاع على باقي فصول الكتاب:

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

................................................

[1] (المائدة:55)

 [2] الكافي للكليني:ج2، ص18، باب دعائم الإسلام، ح1.

[3] الكافي للكليني:ج2، ص18، باب دعائم الإسلام، ح3.

[4] (الأعراف:50)

 [5] (هود:42)

 [6] (الأنبياء:87)

 [7] (الأنبياء:88).

 [8] بحار الأنوار: ج23، ص128، ب7، ح59.

 [9] علل الشرائع للصدوق:ج1 ص127..

 [10] الكتاب المقدس ص50..

 [11] تصحيح الاعتقاد للمفيد:ص61 وفيه (وإنما أبواه..)

 [12] الكافي/ الشيخ الكليني/ ج3/ باب دعائم الإسلام/ ح1 ، 3، ورد بهذا اللفظ: ولم يناد نبي كما نودي بالولاية.

 [13] أعيان الشيعة للسيد الأمين:ج4 ص216..

 [14] (الشمس:10)

 [15] (مريم:31)

 [16] الأنفال: 41.

 [17] راجع زيارات الإمام الحسين  (عليه السلام)، في كتب الدعاء والزيارة..

 [18] الكافي للكليني:ج2 ص43..

 [19] البحار للمجلسي:ج82ص279..

 [20] بحار الأنوار: ج77، ص147، ب12، ح1، عن أمالي الصدوق ص130.

 [21] صحيح البخاري: ج1: ص113.

 [22] قال أمير المؤمنين  (عليه السلام): (لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر)، نهج البلاغة: ج1، ص91، ح40.

 [23] وسائل الشيعة: ج20، ص193، ح9، وفيه (من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره لم يرتد إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين).

 [24] (القيامة: 15)

 [25] المؤمنون: ١٠٠

 [26] صحيح مسلم: ج8، ص27 وسير أعلام النبلاء للذهبي: ج3، ص123 ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج1، ص140.

 [27] بحار الأنوار: ج102، هامش ص164.

 [28] الكافي: ج2، ص68، باب الخوف والرجاء، ح3.

 [29] وسائل الشيعة: ج18، ص107، ح33.

 [30] بحار الأنوار: ج75، ص265، ح177.

 [31] المصدر.

 [32] البحار للشيخ المجلسي:ج33 ص299..

 [33] (الشورى:23)

 [34] (سبأ:47)

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 28/نيسان/2010 - 13/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م