خرافة الخير في لغة السياسة

عباس عبود سالم

يميز خبراء وعلماء العلوم الاجتماعية، والسياسية في العالم بين السياسي.. والاعلامي.. والباحث العلمي.. بان الاول هو شخص جماهيري، هدفه التعبئة، واثارة الغرائز، وهو يمقت المنطق بقدر مايعشق الحصول على نتائج.. (لصالحه طبعا).

 اما الاعلامي فهو الباحث عن الاثارة بدرجة اعلى من سعيه للحقيقة..(انا اعلامي وهذا ليس رايي بالطبع)، بخلاف الباحث العلمي الذي يقوم عمله على البحث والتقصي من اجل الحقيقة (هم خبراء وباحثون وينحازون لصنفهم).

ولكي اثبت.. او انفي.. هذه المقولات، او الاسس المنهجية، علي ان اخضعها للقياس، مع ماحصل لدينا خلال الاسابيع الاخيرة من تطورات كبيرة، قد لاتحصل في اي بلد اخر بهذه السرعة، وهذا التتابع.

فبعد نجاح الانتخابات يوم 7 آذار بمشاركة واسعة، ودون وقوع خروقات امنية مهمة، لم نجد احد من السياسيين يحمد الله ويشكر الجهات الرسمية على ذلك، فلا مصلحة له من اطلاق مثل هكذا تصريحات، (اذا كانت الامور ماشية والحكومة جيدة.. فما لزومه هو.. وما الحاجة اليه!)....

ولمدة شهر تقريبا انشغلت البلاد بتصريحات، وادعاءات، وكلام سياسة.. وكلام جرايد.. الى يوم 2 نيسان حيث استشهد 25 مواطنا بينهم نساء في قرية عرب جبور نتيجة اعتداء غادر، وبعد ذلك بيومين حصول انفجارات قرب عدد من السفارات في مناطق محددة من بغداد، ثم تفجير عمارات سكنية في الشعلة ومناطق اخرى...

 وبدلا من التكاتف والتآزر على المحن، تتعالى الاصوات السياسية، والاعلامية، بانتقاد الحكومة على قصورها الامني، وضرورة استبدالها بحكومة اخرى؟؟ بل واتهامها احيانا، وهذا يفتح ملفات.. ويجر اقاويل، وتنظيرات واتهامات جزافية.. ونقاشات سوفسطائية.. لم يشهد لها العالم مثيلا؟؟ وسوف تغني علماء السياسة عشرات السنين كونها نظريات جديدة (بالباكيت) وستصنع لها قوالب، واقترابات مفاهيمية خاصة.

في 19 نيسان اي بعد اقل من ثلاثة اسابيع من التفجيرات الغادرة، يفجر رئيس الوزراء خبرا له وقع القنبلة.. عندما فك شفرة البغدادي والمهاجر بقتلهما معا، وهما اللذان طالما تبجحا، وتحديا، وقتلا، وعاثا في الارض فسادا.. وافسادا...ثم الاعلان عن قتل واعتقال عدد مهم من قادة القاعدة، والكشف عن اوكارها في تلال حمرين.. ولكن يبدو ان هناك صمم سياسي، فلا احد يصدر بيانا، ولا احد يطلق ثناء.. على رجال الجيش، والشرطة، والاستخبارات، والصحوة، ورئيس الحكومة المنتهية ولايتها؟؟؟

 فلا اشادة، او ارتياح، ولاتعليق، ولا اعجاب، بهذا الجهد الذي شكل نقلة نوعية هائلة، وكشف ان تنظيم القاعدة تحول من غول كان يرعب المنطقة والقوات الامريكية، الى جماعات وعصابات مخترقة من قبل اجهزة الدولة العراقية، (كيف يطلق سياسي تصريحات، او يصدر بيانات تحقق تعبئة جماهيرية لخصمه، او منافسه؟؟ انها مجازفة او حماقة منه ان فعل ذلك!!).

بعد يومين او ثلاثة تنطلق عاصفة اعلامية كبيرة بخصوص السجون السرية، ولا ندري هل ان توقيتها مدروس بعناية (مثل عاصفة صابرين الجنابي التي توافقت مع انطلاق عمليات بغداد) او ان الامر حصل من قبيل المصادفة، ومع اننا لانرضى باهانة الانسان، وندعو الى احترام كرامته، ونتمنى لدولتنا ان تكون انموذجا لذلك، لكننا نؤمن بأن التحقيقات والقضاء هو الذي يحل مثل هكذا مشاكل، لا التصريحات التلفزيونية، والشحن النفسي، واثارة مشاعر الكراهية لدى المواطنين ضد حكومتهم لانه منزلق بالغ الخطورة في تنشئة الناس.

 في الجمعة 23 نيسان حصلت انفجارات الحسينيات، والجوامع لقتل الابرياء الآمنين في المناطق السكنية، وتصاعدت موجات النقد لا للمجرمين، والارهابيين وسافكي الدماء.. بل لاجهزة الدولة الامنية، وانفتحت قريحة بعض السياسيين الباحثين عن اثارة غرائز ومشاعر جمهورهم، بهدف الحصول على نتائج باهرة تعزز رصيدهم الشخصي، ومكانة احزابهم جماهيريا، (مثل هكذا مناسبات تعد التوقيت الملائم لمخاطبة الجماهير والحصول على ثقتها وكسب التاييد).

وتسارعت خطوات بعض وسائل الاعلام التي قطعت برامجها، وخصصت ساعات اضافية من وقتها، لا لبث الروح الوطنية، ومواساة الشعب، واسر الضحايا الذين نكبوا بأبنائهم، بل لشن حملات تحريض ضد الجنود، والضباط،والاجهزة الحكومية، ورئيس الحكومة.

 ولا اريد ان ادافع عن احد او الوم احد بشخصه، فالشعب نهر يجري، والدولة نهر يتغير، والاشخاص يتبدلون، والاجيال تتعاقب، لكن الثوابت والمشتركات الوطنية، والقوانين، والقيم الاخلاقية، والانسانية ثابتة لاتتغير، لكنها تتطلب رجال شجعان يرسخونها ويتمسكون بها، ويتحلون بها.

 الشجعان يمكن ان يخلقوا وطنا ثابت الاركان، لايقبل بتسييس قضاياه العليا من قبل هذا.. وذاك، وبخلاف ذلك ينتشر المصلحيون، والانتهازيون، الذين لايتركوا فرصة الا وتلقفوها تلقف الكرة للايقاع بالخصوم، وتسجيل هدف في مرماهم، (ولتذهب القيم والمشتركات الوطنية الى حيث ماتذهب).

هؤلاء ينسون او يتناسون ان معالجة الخطأ، والخلل.. لها وسائلها، وطرقها، لاننا بانانيتنا (نسن سنة سيئة) وعلينا ان ندرك ان هذه السنة سوف تستمر، وان تغيير رؤساء البلاد لايغير ماجبلنا عليه من تصرفات، وممارسات وبالتالي فأنها ستطال من يأتي لشغل المراكز السيادية مهما كان، وسنكون حينها وسط دوامة لاتخدم احدا سوى جيش الانتهازيين، الانانيين، المصلحيين الذي سيتكون ويتكاثر لاننا خلقنا له البيئة.

ومثل هؤلاء لايعرف من السياسة سوى الاستفادة من الازمات، والكوارث لا بالتعلم منها، اوالعمل على عدم تكرارها.. بل للايقاع بخصومه، وتصويرهم على انهم (الشر الدائم) والتعظيم من نفسه، ومن معه وتصويرهم على انهم (الخير الدائم)، علما انه لايوجد خير او شر دائم في عالم السياسة، بل توجد مصلحة دائمة.

 فهل صدق الخبراء الاجتماعيون في قولهم الذي اشرنا اليه في البداية؟؟ ام انهم يجافون الحقيقة؟؟ الجواب بالطبع متروك للقاريء الذي تجشم قراءة هذا العمود بتواصل، وبموضوعية، وبدون انفعال، وكان الله في عونه على ذلك.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27/نيسان/2010 - 12/جمادى الأولى/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م