قال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم
يتذكرون} (الزمر:27)
تعريف المثل:
لغةً: عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة
ليبين أحدهما الآخر ويصوره نحو الصيف ضيعت اللبن [2].
وجاء في لسان العرب (مادة مثل):" المَثَلُ: الشيء الذي يُضرَب لشيء
مثلاً فيجعل مِثْلَه، وفي الصحاح: ما يُضرَب به من الأَمْثال. قال
الجوهري: ومَثَلُ الشيء أَيضاً صفته".
والمثل في الأدب العربي: قول محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حكي
فيه بحال الذي قيل لأجله، أي يشبَّه مضربُه بموردِه، مثل ربّ رميةٍ من
غير رام.
واصطلاحاً: نظم من التنزيل يعرض نمطا واضحاً معروفاً من الكائنات أو
الحوادث الكونية أو التاريخية عرضاً لافتاً للأنظار، ليشبه أو يقارن به
سلوك بشري، أو فكرة مجردة، أو أي معنى من المعاني، بقصد التوضيح أو
الإقناع أو البرهان أو التأثير، أو لمجرد الإقتداء به، أو التنفير منه
والإبتعاد عنه أو بقصد بيان الفارق بين أمرين متناقضين للأخذ بأحدهما
والإبتعاد عن الآخر أو للبرهان على صحة أحدهما، وبطلان الآخر.
هل الأمثال من ضمن القصص القرآني،وهل هي حقيقية أم وهمية مفترضة؟
تحتل الأمثال مساحة واسعة من القرآن الكريم،بل إنها تعد واحداً من
المباحث القرآنية التي تبحث عادة في علوم القرآن نظراً إلى أهميتها،فهي
تعد من ضمن مظاهر الإعجاز القرآني التي تحدى بها القرآن الكريم العرب
بل البشرية في الإتيان بمثله،وقد ألفت حولها الكثير من الكتب والدراسات
المستقلة التي تناولت جوانبها المختلفة[3].
و لا مناص أمامنا من ان نعتبر هذه الأمثال نوعاً من القصص القرآني
باعتبارها مشتملة على أحداث(سواء كانت فرضية أن حقيقية)[4]وعلى اعتبار
أن بعضها يحتوي على الحوار الموجود في القصة وغير ذلك من العناصر التي
تجعل العلاقة بين(القصة)و(المثل)وثيقة إلى الدرجة التي يضطر معها
الباحث لأن يدرسهما معاً،وأن يفرد للأمثال بحثاً إن كان(القصص
القرآني)موضوع دراسته الرئيس.[5]
والملاحظ في الأمثال القرآنية أنها على نوعين:نوع حقيقي واقعي
لايُشَك في وقوعه فعلاً من الناحية التاريخية حاله في ذلك كحال القصص
القرآني،كقوله تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا
اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ
عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ *
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ
إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ
وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ}(التحريم/10-11).
فسياق هذه الأمثال والأسماء والمسميات التي جاءت فيها تشير بوضوح
إلى صدق هذه الأمثال وحقيقتها.
وأما النوع الثاني من الأمثال-وهو الذي يهمنا اكثر في هذا الفصل-
فهو الأمثال التي جاءت فيها الشخصيات نكرة تماماً مجردة من أي مواصفة
أو علاقة من شأنها أن تهدينا إلى هوية تلك الشخصيات والتحقق فيما إذا
كانت هذه الشخصيات واقعية أم مجرد فروض افترضها الخالق تعالى لتقريب
الأفكار القرآنية إلى الأذهان،تماماً كما نفعل نحن في الأمثلة
والفرضيات التي نفترضها لإيضاح موضوع ما.
ويبدو أن هذا البحث قد أثار عاصفة من الجدل والنقاش بين المفسرين
ماتزال قائمة إلى يومنا هذا،والتطرق إلى هذا الموضوع والخروج منه
بنتيجة معقولة تناسب روح النصوص القرآنية يهماننا كثيراً من حيث إنه
يتصل بسبب قريب بالاستنتاجات والأحكام التي سنطلقها حول دور الشخصية في
هذا النوع من القصص القرآني(أعني الأمثال).
وهناك –على العموم- ثلاثة آراء قدمت في هذا المجال:
1- القول بأن تلك الأمثال لا تمتلك المصداق الواقعي،وأنها مجرد
فروض،ويستند القائلون بهذا الرأي إلى الأمثلة التي نضربها نحن –عادة-
لإيضاح بعض الأفكار والموضوعات،وتكون فيها الشخصيات والأحداث
فرضية،وتأسيساً على هذا الرأي فإن الإنسان المسلم يجوز له أن يعتقد
بعدم واقعية تلك الأمثال وكونها مفترضة.
2- الرأي القائل بأن هذه الأمثال قد تكون واقعية وقد تكون غير
واقعية مادام ليس هناك من سبيل إلى إبداء رأي حاسم في هذا
المجال،ومادام الله تعالى قد قصد أن تأتي شخصيات الأمثال وأحداثها
مجهولة ونكرة،فهي إذن من باب ما سكت عنه القرآن الكريم،ولم يقدم
بخصوصها دلائل وقرائن واضحة تفيدنا في إصدار الحكم في هذا المجال،وعلى
هذا فإن المسلم مخير –بشأن الأمثال- بين عقيدتين؛فإما أن يؤمن بأنها
حقيقية وأنها تمثل أحداثاً جرت فعلاً في الماضي –كما هو حال
القصص-،وإما أن يؤمن بأنها ليست إلا أمثالاً كبقية الأمثال التي نستعين
بها في بيان أفكارنا وآرائنا.
3-الرأي الذي يقف على النقيض من الرأي الأول،وهو الذي يقول
بالواقعية والصدق المطلق للأمثال القرآنية بجميع أنواعها[6]،كما هو
الحال بالنسبة إلى الأمور الأخرى التي وردت في القرآن من مثل المكي
والمدني والناسخ والمنسوخ وما إلى ذلك من موضوعات تبحث في علوم
القرآن،فيتعين عليناإذن-وفقاً لهذا الرأي- أن نؤمن ونسلم بواقعية ما
جاء فيها من شخصيات وأحداث تماماً كما نؤمن بواقعية الأخبار التي جاءت
في القرآن عن الأنبياء(ع) والأمم السابقة،ويستند القائلون بهذا الرأي
إلى حقيقة أن الأمثال تضرب عندما يعجز الإنسان عن الإحالة إلى الواقع ؛أي
عندما لا تسعفه ذاكرته وخبرته في العثور على نموذج مطابق تماماً للحالة
التي يتحدث عنها،فإن عثر عليها كان ضرب هذا المثل الواقعي هو الحالة
المثلى التي يتوخاها ضارب المثل لتوضيح فكرته ؛فمن المسلم به أن المثل
–إذا كان واقعياً-كان أكثر تأثيراً في النفوس وأدعي إلى تصديق الفكرة.
وبناء على ذلك فإن من باب الإستهانة بالقدرة الإلهية –وإن كانت هذه
الإستهانة غير متعمدة- ومن باب تطبيق المقاييس البشرية الصادرة عن
الضعف والعجز أن نقول إن الأمثال القرآنية هي مجرد فروض وتخيلات لا
مصداق لها في الواقع،لأن مثل هذا الرأي يستتبع أن الخالق -تعالى عن ذلك
علواً كبيراً- قد اضطر إلى أن يستعين بالأمثال الفرضية بعد أن (عجز)عن
العثور على المصاديق الواقعية !وهو الذي أحاط علمه بكل شيء وأنزل
القرآن الذي صرح بأنه تبيان لكل شيء وتفصيل له،أضف إلى ذلك أن الأمثال
قد جاءت في مقام الدعوة إلى الله تعالى وإثبات وحدانيته لأمم ضالة
تمادت في غيها وكفرها وعنادها ولجاجتها في الباطل،فليس من المعقول –والحال
هذه- أن يأتي القرآن الكريم بأمثال فرضية وهمية وإلا كانت ذريعة بيد
الكفرة والمشركين وثغرة ينفذون من خلالها للقدح بدعوات
الأنبياء،والإستمرار على عقائدهم الباطلة،وهم –كما يحدثنها عنهم القرآن-
يحاولون أن يستغلوا كل صغيرة وكبيرة في سبيل التملص من الإيمان بالله
تعالى والإعراض عن دعوته،كما يقول-عز من قائل- نفسه في هذا المجال:
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ
مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}(الروم/58)،وكما يقول في موضع آخر:{ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}(البقرة/26).
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ
مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}[الكهف: 54]
"وفي هذه الأمثال وأشابهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمةٌ جدّاً،
لا لبس في الحق معها، إلا أنها لا يَعقل معانيها إلا أهلُ العلم كما
قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا
يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت: 43]، ومِن حِكَم ضرب
المثل: أن يتذكر الناس، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر: 21).
وقد بين في مواضع أخر أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله
قوماً، ويضل بها قوماً آخرين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن
رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، ولا
شك أن الذين استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال،
وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق، وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين
لم يعقلوها، ولم يعرفوا ما أوضحه من الحقائق."
ثم إن المثل-إن كان واقعياً- كان أدعى الى الاقتناع بالفكرة،وأعمق
أثراً في النفوس،وأكثر إيجاداً لدواعي التصديق في الأذهان،ولو خُيرنا
بين أن نضرب مثلاً حقيقياً من صميم الواقع وبين أن نختلق هذا المثال من
خيالنا لإثبات فكرة ما ولإقناع الآخرين بها لبادرنا بالتأكيد إلى
اختيار المثل الأول،وإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذن يلجأ الخالق –تعالى
عن ذلك علواً كبيراً- إلى التخيلات والافتراضات وهو –بالطبع- يعلم حق
العلم أن الأمثلة الواقعية أكثر تأثيراً في النفوس،وبإمكانه سبحانه أن
يأتي بهذه الأمثلة؟!
إذن نستنتج من كل ماسبق أن العقل والمنطق،وأن روح النص القرآني
واتجاهه العام،كل ذلك يدعونا بقوة إلى أن نؤمن بواقعية الأمثلة
والأمثال القرآنية وصدقها،وكونها تمثل وقائع وأحداث جرت بالفعل في
الماضي،إلا أن قسماً من الأمثلة القرآنية صرحت بأسماء الشخصيات،وقدمت
معلومات صريحة حول هوية هذه الشخصيات ومواصفاتها،وأن هناك أمثالاً أخرى
جاءت فيها الشخصيات مجهولة تماماً لانتفاء الحكمة والفائدة من ذكر
أسمائها.
والذي يهمنا من كل ذلك – بعد أن علمنا أن الشخصيات في الأمثال
القرآنية واقعية وأنها ليست إفتراضية- هو أن هذه الشخصيات ليست هي محور
القصص القرآني ومحط اهتمامها،ولو كان الأمر كذلك لاستغل القرآن أية
مناسبة أو فرصة في سبيل أن يبرز دور الشخصية ويضخمه على حساب الحدث
والمضمون كما تفعل القصص التاريخية،رغم كون القصص المذكور في القرآن
يمثل في حقيقته قصصاً تاريخية من حيث إنها حدثت في أزمنة مضت.
والظاهرة الثانية التي تهمنا في الأمثال القرآنية هي أنها –أي
الأمثال- تقدم لنا شخصيات ونماذج إنسانية خالدة من حيث دلالاتها
والرموز التي تنطوي عليها والعبر والدروس التي يمكن أن تقدَم إلينا من
خلالها،والتي تمثل –في أغلبها- قوانين وسنناً ثابتة لاتتغير بمرور
الزمان واختلاف المكان.
Saadi-omran@live.com
.................................................
المصادر
- الخطيب،عبد الكريم،القصص القرآني في منطوقه
ومفهومه،دار المعرفة،بيروت، بلا تاريخ نشر.
- الراغب الأصفهاني،ابو القاسم الحسين بن محمد
المعروف بالراغب الأصفهاني،تحقيق وضبط:محمد سيد كيلاني،دار
المعرفة،بيروت،بلا تا.
.....................................
[1] يجب أن نفرق هنا بين الأمثال والتمثيلات ؛فلقد
جاءت بعض التمثيلات (التشبيهات) بلفظ المثل والأمثال في القرآن
الكريم،من مثل قوله تعالى:{ (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى
جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (21) الحشر)، فإشارة القرآن الى هذا التشبيه والتمثيل
بلفظ الأمثال لايعني أنه من باب الأمثال التي هي موضوع بحثنا في هذه
الدراسة،بل إننا نقصد الأمثال الواردة على سبيل القصص والحكاية،وتشتمل
على بعض عناصر القصة كما سنرى.
[2] المفردات في غريب القرآن الصفحة 464.
[3] منها على سبيل المثال:
- الأمثال في القرآن الكريم لمحمد بن ابي بكر الزرعي
- الأمثال الكامنة في القرآن لأبي محمد الحسن بن عبد
الرحمن بن إسحاق القضاعي
- سلسلة الأمثال في القرآن الكريم للشيخ عبد العظيم
البدوي،
-. الاَمثال القرآنية" للاِمام أبي الحسن على بن
محمد بن حبيب الماوردي الشافعي (المتوفّـى سنة 450هـ)
- امثال القرآن" للشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن
قيم الجوزية (المتوفّـى سنة 754هـ). وقد طبعت موَخّراً.
- الامثال القرآنية" لعبد الرحمن حسن حنبكة
الميداني.
- امثال القرآن" للمولى أحمد بن عبد الله الكوزكناني
التبريزي (المتوفّـى عام 1327 هـ ). المطبوعة على الحجر في تبريز عام
1324 هـ.
-. أمثال القرآن" للدكتور محمود بن الشريف.
.- الاَمثال في القرآن الكريم" للدكتور محمد جابر
الفياضي. وقد طبعت موَخّراً.
- الصورة الفنية في المثل القرآني" للدكتور محمد
حسين علي الصغير. وقد طبعت موَخّراً..
وغيرها.
[4] نرجح الرأي القائل بأنها حقيقية كما سنرى في آخر
هذه الدراسة.
[5] راجع:القصص القرآني في منطوقه ومفهومه،ص76.
[6] ومن القائلين بهذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية
في كتاب"درء تعارض العقل والنقل 1/27-28." |