مهزلة العقل الميكافيلي

عباس عبود سالم-القاهرة

اشتهر عالم الاجتماع الراحل الدكتور علي الوردي بطروحاته الجرئية، في تحليل المجتمع العراقي، من خلال مؤلفاته التي تضاهي وتتفوق على ماتركه الفيلسوف الايطالي نيكولا دي ميكافيلي، من حيث الاهمية والمحتوى العلمي، لكن ذياع صيت (الميكافيلية)، وعدم ذياع (الوردية)، يرجع الى كون الاولى اختصت بتحليل تناقضات المجتمع العراقي الذي اهمله الجميع، والثانية اشتهرت بتحليل آلية السلطة  واسرار الوصول اليها وهو امر يطلبه ويبحث عنه الجميع.

ولاتخلوا مراكز البحث، ودواوين الحكام، ومكتبات الباحثين، من نسخ، او اقتباسات مختلفة، من امير ميكافيلي، الذي اصبحت سطوره خالدة خلود السياسة، ولكننا لانحفظ شيء من تراث الوردي الذي صب جام علمه على المواطن العراقي العادي، ولم يترك شاردة ولا واردة الا وفككها علميا ليعيد عرضها بلغة مفهومة، معززة بالادلة الدامغة، ليكشف عن ازدواجية الشخصية العراقية.

 لكنه بالطبع لم يكن يتوقع ان يأتي زمان على العراق يرزق بولادة مئات السياسيين، ذكور، واناث، يحملون جينات مطورة من الازدواجية، الى درجة ان لكل واحد منهم وجهان، وشخصيتان، وموقفان، ورايان.

ولا اريد الخوض في ذلك اكثر، لكني اتمنى ان نعثر على مفكر اجتماعي من وزن الدكتور الوردي، ليظهر على فضائية محايدة،  ويحلل حصاد كل يوم من تصريحات السياسيين من زاوية نظريته في الازدواجية، وليحصل مايحصل.. فالاهم ان يكتشف الناس ابعاد الطروحات، والافكار، والتوجهات السياسية الموسمية، التي تتكاثر في موسم، وتنكمش، او تتلاشى، او تنقلب على عقبيها في موسم آخر.. 

وافترض لو ان الوردي كان موجودا، لأصدر اجزاء جديدة من مهزلة العقل البشري، ووعاظ السلاطين، ولتحولت لمحاته الاجتماعية، الى وقفات سياسية، ولو ان ميكافيلي كان من ضمن متابعي مايجري في العراق عبر بعض الفضائيات، لاصدر طبعة جديدة منقحة ومزيدة وتحتوي على ملاحق من كتابه الذائع الصيت (الامير)، ولحوله الى اسم جديد هو (الامير العراقي) ليغطي مايحصل من تطورات، في ميول النزعات البشرية التي افترض ميكافيلي انها تتحرك بفعل المصلحة المادية والرغبة بالسلطة، ولكن ليس الى الحد الذي نراه اليوم، فقد حصلت تطورات في مباديء الميكافيلية التي كان العراقيون الى وقت قريب يعتبرونها سبة على رجل السياسة.

- من النظريات التي يطلقها البعض ان منصب رئيس الوزراء (المنصب التنفيذي الاهم في دولة تبحث عن الاستقرار) يجب ان يكون لشخص يحظى برضا جميع الكتل بغض النظر عن الموهبة، و الكفائة، وتراكم الخبرة، ونتائج الانتخابات، بل انطلاقا من مبدأ رضاء الكتل وهذه غاية لايدركها الا من كان عديم اللون والطعم والشخصية.

- منذ سقوط ديكتاتورية صدام وايران هي الشيطان الاكبر في نظر قوى سياسية حازت على اعجاب من يعتقد بشيطنة الجارة الشرقية للعراق، لكن ان يتحول الشيطان الى ملاك بين ليلة وضحاها فمفاده المثل القائل (سبحان مغير الاحوال).

 - وهناك من يطرح فكرة تقييد رئيس الوزراء للحيلولة دون تحوله الى (ديكتاتور)!! والقصد هنا ان لايبرز شخص قوي في العراق حتى وأن كانت قوته لخدمة الوطن،  والقدرة على انشاء دعائم الدولة، لان مصلحة القوى السياسية اهم من مصحلة الشعب.. حسب الميكافيلية العراقية.

 ونقول لو ان كلامهم منطقي بشان الخلط بين الديكتاتورية والقوة، لكانت الولايات المتحدة اهم ديكتاتورية في العالم المعاصر! كون رجل البيت الابيض يحظى بصلاحيات كبيرة تجعل منه رمزا وطنيا، وتسمو بشخصيته فوق الكونغرس، والشركاء الاخرين، حتى وان كان عبدا حبشيا!!

- هناك من السياسيين من دأب على الحديث باسم الشعب، ومصالح الشعب، وطلبات الشعب، ولكن بعد ظهور نتائج الانتخابات تبين انه لم يحظى من ثقة الشعب حتى بصوت زوجته واولاده، والاغرب ان اكثر من يتحدث على الفضائيات قبل وبعد الانتخابات هم الخاسرين اي الذين لم يصوت لهم الشعب الذي مازالوا يصرون بالتحدث نيابة عنه.

 - هناك من لاتفارق صورته الفضائيات وهو يتحدث عن نبذ المحاصصة والطائفية، وتقسيم السلطة، وما ان تنطفيء اضوية الكاميرات حتى ينقلب الكلام الى فعل آخر.. لايمت للكلام باي صلة.. انطلاقا من قاعدة كلام الليل يمحوه النهار!!!

   وهذا غيض من فيض، من اقوال وتقولات البعض، وتقلبات مواقفهم، وتصريحاتهم، بالشكل الذي يغادرون فيه مواقعهم من اقاصي اليسار واليمين الى المنطقة الوسطى، التي لاملامح لها، لكنها مضيئة ورطبة ويسهل من خلالها الحصول على كل المكاسب بعيدا عن مبدا قديم، او موقف سياسي قيل في لحظة انتخابية لاتعود الا بعد اربع اعوام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/نيسان/2010 - 29/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م