قضايا واشكالات في الأحزاب السياسية

الشيخ فاضل الصفار

بالرغم من أهمية الوجود الحزبي في العمل السياسي إلاّ أن هناك مجموعة من الاستفهامات والإشكالات المهمة التي قد تثار حول الأحزاب السياسية، الأمر الذي أدى ببعض الناس لأن يرفضوا العمل الحزبي جملة وتفصيلاً؛ تجنباً لمضاره في قبال من يراه ضرورة من ضرورات الحياة السياسية التي لاغنى لأي مجتمع ودولة عنها، أو إذا لم يرفضوه لم يقبلوه أيضاً، حيث بقيت لديهم مجموعة من الأسئلة والاستفسارات حول الأحزاب السياسية ومايحيط بها من خسائر أوأرباح، ومن هنا نرى من اللازم علينا أن نطرح أهم هذه الانتقادات، ثم نحاول الإجابة عليها قدر الإمكان.

الأول: الحزب يمزق الأمة  

يقول البعض: إن وجود الحزب يوجب تمزق الأُمة الواحدة وتفرقها إلى اتجاهات وتكتلات متخالفة، ويظهر هذا التفرق بشكل واضح في الحكومات ذات الأحزاب المتعددة، وأما الحكومات ذات الحزب الواحد فهي أيضاً تفرق الشعب إلى اتجاهين هما الحزبي واللاحزبي، بينما الأُمة التي تخلو من الكيان الحزبي فيستمتع أفرادها برأي واحد واتجاه واحد كالأُسرة الواحدة، بينما الحزب يبعث على الانتماءات المختلفة المساعدة على التضارب والاختلاف، فعلى هذا يجب:

أولاً: أن نتجنب وجود الأحزاب في البلد أساساً، وذلك طرداً للديكتاتورية الناجمة عن الحزب الواحد، أو تفرق الأُمة وتشتتها الناتج عن تعدد الأحزاب.

وثانياً: أو على الأقل نقول بضرورة وجود الحزب الواحد في كل بلد، باعتبار أنه حل متوسط بين تعدد الكيان الحزبي وعدمه، وذلك لكيلا نعاني من وطأة التعدد الحزبي، وهو الذي تبنته الشيوعية والفاشية، حيث استدلت الشيوعية لذلك بأن اللازم قيادة الشعب نحو الاشتراكية اللاطبقية، وتعدد الأحزاب يستلزم تعدد الطبقات، فيكون حائلاً أمام تحقيق الاشتراكية أو تطبيقها، بينما الحزب الواحد يوحد طبقات الشعب ضمن طبقة واحدة هي طبقة العمال والكادحين.

واستدلت الفاشية بأن الأُمة واحدة، وقانون الجمع بين تحصيل مكاسب الحزب باعتبار أنه (مدرسة السياسة الوطنية) وبين مشكلات تعدد الأحزاب يقتضي أن يكون في البلد حزب واحد فقط.

وللإجابة عن هذا النقد نقول: إن أعمال الإنسان وأفعاله وتصرفاته يلازمها قانون النفع والضرر، الربح والخسارة، المصلحة والمفسدة، كما يلازم الصبح نور الشمس.

إذ مامن عمل أداه الإنسان إلاّ وعاد عليه بالفائدة في بعد أو أبعاد، كما أعاد عليه بالضرر من أبعاد أخرى، ولكن الدافع الذي يسيره ويبعثه نحو العمل وإنجازه هو مقايسة نسبة الفائدة التي نغتنمها من هذا العمل الذي أقدم عليه مع نسبة الضرر الناجمة عنه، فإذا كانت نسبة الفائدة أكبر وأكثر وأوسع من نسبة الضرر اقتحم العقبات، وأقدم على العمل، وكلما كانت نسبة الضرر أكثر أحجم عنه وتركه.

وبذلك قال بعض الفلاسفة الحكماء: إن الخير والشر الضرر والنفع أمران نسبيان؛ إذ مامن خير في بعد إلاّ ويلازمه شر في بعد آخر، وكذا العكس.

هذه حقيقة سارية مع كل موجود يأكل ويشرب وينام ويتحرك لايمكن إنكارها، فالبلابل الخليعة التي تزجي أغنياتها بين الحقول والمزارع خميصة طاوية لتضفي الطبيعة جمالاً وسحراً تعود وبالاً على بيادر الحنطة وأسراب الحشرات المتطايرة هنا وهناك.

كما أن الليل عندما يحتضن الوجود بجناحه الأسود ويعيد لأرجائه الطمأنينة والسكون بعد ضجيج النهار الصاخب يضحى طويلاً مملاً للسقيم الذي يتململ على فراش المرض.

فالأمر الذي لامفر منه هو أن الضرر والنفع يلازمان كل الكائنات والموجودات وأفعالها حركاتها وسكناتها بلا استثناء، فترتب الضرر على أفعال الإنسان وتحركاته أمر لابد منه، وحقيقة واقعية لايمكن الهروب منها ولاالتصرف فيها.

نعم، الشيء الذي يمكن التصرف فيه هو أن نختار الأفعال التي تكون أعود بالنفع في الجوانب التي نتصورها أمس بحاجاتنا فنتلهف من أجلها وإن سببت أضراراً وخسائر في جوانب أُخرى، كما نتجنب الأُخرى التي يكون ضررها أبلغ من نفعها لنا.

وقضية الأحزاب السياسية هي أيضاً من المسائل التي وإن سببت أو قد تسبب أضراراً كثيرة، ولكن معطياتها وفوائدها مقارنة بتلك الأضرار أكبر وأكثر وأعمق بلاشك وشبهة؛ ذلك لأن ضرر تفرق الأُمة وتشتتها الناشىء عن وجودها – الأحزاب – وفاعليتها على الساحة مما لايمكن الوقوف عنده، وإبطال حركة الحياة السياسية والاجتماعية للأُمة أو إخماد فاعليتها باعتبار أنه من اللابديات، لأن المنافع التي تحصلها الأُمة من الأحزاب أعظم من المضار التي تئن منها أيضاً، هذا أولاً.

وثانياً: أن التفرق والتشتت الاجتماعي يلازم كل فجر جديد ودعوة وحركة جديدة، سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، وحتى الدعوات الإصلاحية التي جاء بها الأنبياء والصالحون إلى البشرية؛ إذ ينقسم المجتمع تجاهها إلى قسمين أو أقسام: المؤمنون والكافرون، وفي غالب الأحيان تنشأ فئة انتهازية ثالثة هم المنافقون، فهل من الصحيح أن يترك الأنبياء رسالتهم جانباً لأنهم فرقوا الأُمة إلى مؤمن وكافر، مسالم ومحارب، عدو وصديق؟ أم يجب أن يواصلوا مسيرة الهداية والإرشاد وإن تفرقت الأُمة؟.

بالإضافة إلى أن التقسيم الاجتماعي والفئوي الناشىء عن وجود الكيانات الحزبية بين الجماهير تقسيم ضار أو ضار بدرجة يقتضي إلغاء الأحزاب السياسي وإقصائها عن الحياة لم يتفق عليه الكثير من السياسيين خاصة إذا عملنا بشرائط الأحزاب الشرعية.

تداعي الشيوعية

وأما الحجة التي ذكرها الشيوعيون لضرورة الحزب الواحد فهي ضعيفة لعدة أُمور:

1-أن ضرب الاستغلال الذي ادعاه الشيوعيون وتصفية الطبقية لاينحصر في وحدة الحزب؛ إذ قد تتعدد الأحزاب بين الطبقة الواحدة، كأن تكون عدة أحزاب للعمال أو الفلاحين أو ماشابه ذلك، فلماذا نحصرها بحزب واحد ؟.

2-أن تعدد الأحزاب ليس دائماً يوجب الاستغلال، خصوصاً إذا قلنا بوجود الحرية المسؤولة في المسرح السياسي في قبال الفوضى واللامسؤولية.

3-مضافاً إلى أن وحدة الحزب كذلك مدعاة إلى التفرق أيضاً؛ إذ إنها تشقق أبناء المجتمع إلى الحزبي واللاحزبي، فلماذا نختار الحزب الواحد على تعدد الأحزاب؟.

هذا مع أن الدمار والانهيار والتعسف الذي شهده العالم في البلدان ذات الحزب الواحد كان أكثر وأشد منه في البلدان المتعددة الأحزاب.

الثاني: الاستعباد الحزبي

إن الحزب يسبب انتشار الروح الاستبدادية ((من لم يكن معنا فهو ضدنا)) و ((نفذ ثم ناقش)) و ((الحزبيات الضيقة)) وتضييق الفكر، وتحديد الأفكار بإطار خاص وبعد خاص لأنه يستعبد الأعضاء في الالتزام بقيادة الحزب التي صنع منها صنماً يتبعها في كل شيء، والتي هي بدورها ستنعكس على مواقف الحزب تجاه الناس، وإلى أعضائه فيما بينهم، وبينهم وبين المجتمع، فيساعد على انتشار روح التبعية، وإسارة مواقف الحزب والقائد وإن خالفت موازين المجتمع وقيم الدين والأخلاق؛ إذ لايهم عند الحزبيين الحق أم الباطل، والصحيح أم الخطأ، بل المهم عندهم هو رأي الحزب مهما كان، وقائده هو القائد الأوحد الذي لاتجوز معارضته، والمثلة على ذلك كثيرة.

فقد ارتبطت الحركة الناصرية بعبد الناصر مباشرة، وصارت تعبده وتعبد كل حركة يتحركها، أو موقف يلتزمه، أو كلمة يتفوه بها حتى اعتبرت مضمونها العقيدي يتلخص في خطابات عبد الناصر ووضوحها الفكري في شرح هذه الخطابات وتلقينها كدروس تحفظ عن ظهر القلب.

وهكذا صنعت النازية مع هتلر، والفاشية مع موسوليني، والبعثية مع عفلق وصدام، والشيوعية مع ماركس حتى إن بعضهم قال:

آمنت بالبعث رباً لاشريك له                وبميشيل نبياً ماله ثاني

فهذه المواقف كلها مواقف خطرة تأتي بها الأحزاب السياسية لتحكم الباطل، وتجرف الأُمة إلى منحدرات الضياع وسحق القيم والاستهانة بالمبادىء الاجتماعية الصحيحة.

والجواب:

أولاً: أن هذه هي مأساة الحزبية المستوردة من أبواب الاستعمار– كالبعثية والشيوعية والقومية – وليست دائماً تصاحب الأحزاب الوطنية النزيهة.

ومن الخطأ الفاحش أن تفتح الطرق أمام الأحزاب العلمانية المرتبطة بالاستعمار والمعادية لمبادىء المجتمع وقيمه الحقيقية السامية، وهي قيم الاسلام السمحاء؛ إذ لاحرية لأعداء الحرية، كما لافضل لأعداء الفضيلة ودعاة الرذيلة، ولاحق لهم عندنا يطالبون به في المجتمع المسلم.

وأما الأحزاب الإسلامية التي انتهجت الإسلام طريقاً وغاية أو الوطنية المخلصة ففي كثير من الأحيان تكون ألسنة للحق والعدالة وإن أدى ببعضها القصور أو التقصير إلى عدم إدراك معانيه الخالدة، ومعايشة أسسه الصحيحة بتفهم عميق، والجري على تلك الأُسس – في واقعها الداخلي والخارجي – في الفكر والعمل والتجربة السياسية.

ولكن هذا لايستدعي القضاء عليها أو المنع من وجودها؛ لأن سلامة الفكر تكون مقدمة لسلامة العمل في أغلب الأحيان فيما إذا اقترن العمل بشرائط السلامة من الوعي والحرية والمنافسة المهذبة.

ثانياً: التعصب والولاء يصاحب كل انتماء لمذهب أو عقيدة أو قوم أو إقليم، فهل نتجنب التدين بمذهب أو عقيدة دينية لأنها تطوق الإنسان المعتقد بها وتحصره في نطاقها ؟ فما يقال هنا يقال في المذهب السياسي أو الاجتماعي أو الحزبي.

ومهما يكن الأمر فان العوائد الصالحة التي تأتي بها المؤسسات الحزبية على الساحة الاجتماعية مما لاتتمكن أن تمنعها المساوىء المذكورة.

الثالث: الأحزاب والحرية

إن الحزب يزاحم الحرية الفردية، فإن أهمية الفرد ووجوده يضمحل عند الانتماء إلى المؤسسة؛ إذ الإنسان قبل انتمائه إلى الحزب حر في آرائه وأعماله ومشاريعه، فإذا دخل في الحزب فقد حريته، وتقيد بآراء الجماعة التي انضم إليها، ومن دون ذلك فإن مصيره إما الانشقاق أو الانفصال أو الطرد.

ورده هو أن الحزب لاينافي الحرية، بل يعززها ويكرسها أكثر، ويعطي المجال الواسع للفرد لأن يمارس اختياراته بعزم واقتدار؛ لأن أكثر اجتهادات الأفراد في المسائل السياسية والاجتماعية المهمة مما لايمكن العمل عليها وإنزالها حيز التنفيذ إلاّ ضمن التكتل الجماعي الكبير، فمن دون ذلك يعجز الفرد عن اختيار مذهبه لاأقل على الصعيد العملي، فبانتمائه الى الحزب سيتمكن من تحقيق مااختاره ورام اليه هذا أولاً.

وثانياً: أن الفرد الحزبي يختار بنفسه الدخول في الحزب، ومن يختار شيئاً يختار التزاماته أيضاً، فهو مارس حريته في انتمائه، وسيمارس حريته في الالتزامات المطلوبة منه في الانتماء، وهذا ليس شيئاً منكراً أو قبيحاً، وإنما هو ضريبة يؤديها مقابل انتمائه، فهل يعتبر الموظف أو الطالب الذي دخل الجامعة أو الوظيفة مأسور القوانين والضوابط الملزم بها مع أنه اختار الدخول فيها باختياره؟.

ولو قبلنا ذلك هنا فنقول: إن التقيد بآراء الأكثرية وضوابطها وفقدان الرأي الشخصي – أحياناً  -تم بقبول نفس الفرد، وذلك عبر انتمائه وقبوله بهذا الانتماء، وهذا لاينافي الحرية، بل ربما وسع من دائرة حريته في الانتماء عندما يتمتع بحق خروجه من الحزب ورفضه للانتماء، خصوصاً في الأحزاب التي تسري فيها الروح الديمقراطية؛ إذ تتصف بحرية الاجتهاد لكل فرد فيها، وحرية الاستمرار أو الانقطاع عن العمل الحزبي.

بالإضافة إلى أن الانتماء ليس دائماً يحول دون ممارسة الحرية الشخصية للأفراد، بل في بعض الحالات التي يختلف فيها اجتهاده مع اجتهاد المجموع فقط؛ لأن في أغلب الأحيان يكون الرأي الشخصي للأعضاء متفقاً مع رأي المجموع؛ إذ الطبيعة الاجتماعية الفطرية في الإنسان تدعوه في كثير من الأوقات إلى انتخاب المسلك الذي انتخبته الأكثرية بلامخالفة وتعند، وعلى فرض اختلاف الاجتهاد في أوقات أُخرى فإن هذه الحالة ليست ثابتة، بل متغيرة، خاصة في الأحزاب الديمقراطية التي تمتاز بالتفتح واحترام الآراء والكفاءات، وقد يختلف فيكون رأي الأكثرية حاكماً عليه، وهذا قانون سار في جميع الأشياء؛ لأن الحياة أخذ وعطاء وليست أخذاً فقط ولاعطاء فقط.

الرابع: الأحزاب مطية الاستغلال  

إن الأحزاب السياسية تنطلق إلى الساحة الاجتماعية بعنوان كونها مؤسسات للديمقراطية تنهض بالشعب لتحصيل حريته، وتخلق الأجواء والطرق والأساليب التي ينفذ بها اختياراته المصيرية بنفسه، وواقع أمرها يكن العداء للديمقراطية والحرية؛ وذلك لأن الأحزاب تدعو الى مساواة الناس في الحقوق وإتاحة الفرص لجميع الأفراد في التقدم، والتمتع بكل مزايا القدرة من المال والإعلام والسلطة وغيرها، وعند وصولهم إلى القيادة الحزبية تنسى حتى قاعدتها الحزبية فضلاً عن مصالح الأُمة؛ إذ تصب كل همها وجدها واجتهادها من أجل حفظ المصالح التي اكتسبتها، أو لأجل اكتساب مصالح جديدة، ولذا نجد الحالة الطبقية حاكمة ليس بين الحزب القائد والمجتمع فقط، وإنما في خطوط الحزب نفسه، إذ الخط الأول – الكادر القيادي – يتنعم بأضعاف ماتحصله الخطوط التالية – القاعدة – ولو تفاقمت الحالة وظهرت بوادر النقمة والتذمر إلى الوجود قفز على أكتاف القاعدة قادة جدد يكررون نفس المنهج الذي سلكه المتقدمون لتعود المأساة من جديد، وبذلك يكون الحزب السياسي مطية للاستغلاليين والديكتاتوريين أعداء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وتتفاقم هوة الانحراف والسقوط الحزبي هذه  عندما يعجز القادة – في أكثر الأحيان – أو القاعدة – في أحيان أُخرى – عن تحصيل مكاسبهم بهذه الطريقة؛ إذ تضطرهم عقدة الاستجداء والاستئثار بالمنافع الشخصية إلى الوقوع في شراك المعادلات الدولية أو العمالة للحكومة المحلية أو الحكومات الخارجية؛ فلذا جميع الأحزاب الوطنية وقعت في شباك العمالة، وبذلك تصبح أداة طيعة في ماكنة الاستغلال والاستعمار والديكتاتورية.

وبذلك يتحول المشعل الذي أوقدته الأُمة لمحو الظلم والفساد إلى نار تلتهم أكلها وحقوقها وكل مبانيها.

وجوابه:

أولاً: أن هذه قضية لاتختص بالأحزاب فقط، بل تشمل حتى الحكومات أيضاً؛ إذ الحكومات في أغلب الأحيان وخاصة في البلدان التي نسجتها عناكب الديكتاتورية تدعي بادعاءات مغرية وبشعارات براقة، ثم عند القفز على السلطة واستلام الأُمور سرعان ماتنسى كل ماادعته ووعدت به سابقاً، فهل العلاج أن نلغي الحكومة ليبقى الشعب والدولة بلا حاكم وحكومة؟ أم الصحيح أن نعالج الحاكم والحكومة بالحد من تسلطهما أولاً، ثم جعل طرق العلاج – كما ستأتي-؟ وهكذا الأمر في الأحزاب السياسية بلا فرق بين القضيتين.

ثانياً: أن هذه الحالة الفاسدة متكرسة في الأحزاب التي قطنت الأجواء الديكتاتورية، بينما المناخ الحر الذي تجذرت فيه الرقابة الجماهيرية والمنافسة الحزبية لم تتح الفرصة لنمو هذه الحالات السلبية، فالعلاج المنطقي هو العمل على ايجاد الأجواء الحرة لاإلغاء دور الأحزاب. إن وجود الأحزاب باعتبار أنها تحدد من سلطات الحكومة وتجاوزاتها على حقوق الشعب يكفي مبرراً لضرورة وجودها وإن سببت في بعض الظروف إلى الاستغلال والطبقية؛ إذ مفاسد تجاوزات الحكومة بلا شك أكثر من تجاوزات نفس الحزب؛ لأن إطار الحكومة أكبر وأوسع، وسلطاتها أشمل من إطار الحزب وسلطاته.

الخامس: الأحزاب والسقوط الأخلاقي

إن الأحزاب السياسية مدرسة الانحراف والسقوط، الانحراف من فرض آرائها وعقائدها وأفكارها على المنتسبين والجماهير الذي يزيل قدرة التفكير والبصيرة والإرادة الحرة، والذي تزول معه القدرة على خلق القيم وتبلورها عند الأعضاء والمناصرين معاً.

ولايتوقف الانحراف عند هذا الحد، وإنما يستمر لينعكس في أساليبه وممارساته الكذب والنفاق والتزلف والحقارة واللامبدئية حالات يعيشها في كل خطواته وأعماله إلى آخر المطاف، مما يؤدي بالنتيجة إلى انفضاض الجماهير وتذمرها؛ وذلك لأن رؤساء المؤسسات الحزبية حيث يريدون الاستبداد بالرئاسة يلجؤون إلى الكذب والخداع والتضليل؛ إذ بدونها لاتساعدهم الظروف للبقاء أكثر من الفرصة السانحة. بل ولايقدرون على السيطرة الكاملة على الحزب، واظهار أنفسهم بمظهر العامل النشط الساعي لخير المجموع، الى غير ذلك من التصرفات التي تصاحب الطامعين بالسلطة والحكومة.

ومن المعلوم أن تصرفهم هذا يدب في نفوس القاعة أيضاً عندما تتقدم لتحصيل رغباتها وآمالها الخاصة، وبذلك يتكون جو مشحون بالتضليل والكذب والخداع.

السادس: الصراعات الهامشية

إن الأحزاب تنشغل بالصراعات الهامشية فيما بينها فيضرب بعضها بعضاً، ويمزق بعضها شعارات بعض، ويسحق بعضها مبادىء بعض دون أن تسعى وراء تحقيق الأهداف الجذرية التي تقدم الأُمة وتمنحها الرفاه، فما وجد من أجله الحزب أصبح متروكاً، وماجاءت لعلاجه الأحزاب وقعت فيه.

ولذا نرى أن كل حزب منها يزعم أنه السبيل الناجح لحل أزمات الواقع الفاسد ومشكلات الأُمة وباقي الحلول مصيرها الفشل؛ فلذا ينسفه منافسوه، ويتهمهم بقصر النظر وضعف القدرة، بل ربما وفي كثير من الحالات أكال إليهم الاتهامات والظنون والشبهات، وتتمزق الأُمة بين الدعاوى الفارغة التي يدعيها كل حزب.

ومن الأمثلة على ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي إذ جاء على لسان منظريه المقولة التالية: وحدها أيدلوجية البعث العربي الاشتراكي قد استطاعت اكتشاف جدل الصراع في الوطن العربي، وهي الأيدلوجية الوحيدة التي استطاعت استيعاب كل تناقضات الواقع العربي في مرحلته التأريخية الراهنة.

وقال أحد مفكري الحركة الناصرية: إن الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية كان موزعاً بين أركان الاستعمار، مشتتاً في قوالب التجزئة في الوقت الذي كان فيه الشعب العربي يتطلع نحو بطل قومي، نحو ثورة جذرية، نحو تغيير شامل؛ ليعيد بناء الحياة من جديد على أرضه طبقاً لإرادته الحرة.

وعلى الرغم من نشوء أحزاب وحركات سياسية في مختلف الأقطار العربية تدعو إلى التحرير والوحدة، فإن قدرة هذه الحركات والأحزاب بقيت محدودة عاجزة عن استيعاب القاعدة العريضة للجماهير العربية. إن الجماهير عندما تحدد موقفها من أي حزب أو حركة سياسية فإن معيار حكمها يتحدد بمقدار قربه أو بعده عن الثورة الناصرية.

ويتجاوز بعض الأحزاب حدود الصداقات والتحالفات والتآلفات فتحارب الفئات التي تشاركها في المنطلقات والأهداف أيضاً بسبب التعارك الحاد للوصول إلى الحكم أو المكاسب الحزبية الضيقة، وربما كان التلويح باستعمال السلاح وسيلة إعلامية لإضرام الصراع أكثر إن لم يستعمل حقيقة في التصفيات الجسدية فيما بينها.

وتتوضح هذه الحقيقة بألسنة مفكري الأحزاب السياسية، فهذا أحدهم يقول: لقد كانت حركة القوميين العرب تلعب دوراً كبيراً في مناهضة حزب البعث؛ وذلك عندما كانت على وفاق مع الناصرية، فقد كانت تجهد في التشويش على البعث، وجمع المعلومات عن البعثيين، وتعقب تحركاتهم، وهكذا انحرفت حركة القوميين العرب عن خطها، وراحت تشن حرباً ضد حركة أخرى قد تشاركها في الأهداف والآمال.

وكذلك رد الحزب الشيوعي السوفياتي قيادة بكين بقوله: وهكذا فان النظرية اللينينية حول تحالف الطبقة العاملة مع الجماهير غير البروليتارية وبالدرجة الأُولى مع الفلاحين لها في أيامنا أهمية كبرى بالنسبة للأحزاب الشيوعية والعمالية في العالم بأسره. إن كل محاولة لتشويهها ولإعطائها تفسيراً مبتذلاً يمكن أن تكون له عواقب سيئة، وهذا مايثبته مثال الاكتشافات النظرية الواهية لقيادة بكين.

كما ذكرت المجلة العسكرية السوفياتية هجوماً إعلامياً آخر على بكين، فقد ورد فيها النص التالي: وتتعرض بلدان العالم الثالث لتضليل متعمد فيما يتعلق بتسوية العلاقات الأميركية. إن دعاة الحرب الباردة وخصوم تخفيف حدة التوتر الدولي لايتورعون عن الترويج لأية أكاذيب أو افتراءات تحقيقاً لأهدافهم في هذا الشأن، وفي طليعتهم أبواق دعاية بكين، فانطلاقاً من نظرية ماو التي تزعم أن هناك تشابهاً بين سياسة الاتحاد السوفيتي وسياسة الولايات المتحدة الأميركية يحاولون الحط من سياسة بلاد السوفيات واتهامها بخيانة مصالح البلدان والشعوب الأُخرى، والسعي إلى اقتسام العالم بأسره مع – الدولة الأعظم – الأُخرى.

ولم تستثن الأحزاب الدينية من هذا المأزق إذ تستعر بينها الحروب الإعلامية والدعائية، فلم تتورع عن اتهام بعضها البعض بالعمالة أو الخروج عن الشرعية الدينية أو الوطنية في الوقت الذي عصفت بمجتمعها المسلم رياح الفساد والعلمانية.

والخلاصة: أن التجارب الفاشلة التي أوجدتها الأحزاب السياسية في مسيرتها الحزبية يكفي دليلاً ساطعاً على مساوىء النظام الحزبي وفشل نظرية الاعتماد عليه في مواجهة أزمات الحياة السياسية والاجتماعية.

السابع: الأحزاب تسحق أهدافها

إن قانون الغايات تبرر الوسائل لم يجد مصداقه العملي بكل وضوح إلاّ عند الأحزاب السياسية؛ إذ تعاقدوا على أن يسحقوا كلما يعترض طريقهم أو يحول دون مراميهم وغاياتهم مهما كان مقدساً ونبيلاً.

وربما قبل تفشي سطوتهم على الأُمور ادعوا بادعاءات براقة وشفافة سرعان ماحطموها بحراب قد أشرعوها سابقاً ضد خصومهم وأعدائهم، فهاهم الماركسيون أقاموا العالم ولم يقعدوه بشعارات السلام والعدالة الاجتماعية وإلغاء الاستغلال والفساد الاجتماعي، ولكن عندما أمسكوا بزمام الحكم قال ستالين: لماذا نتفاخر بسلطتنا الطاغية ؟ ولماذا نتفاخر بإجراءات القمع الصارمة التي نلجأ إليها ؟ ولماذا نتفاخر بسلطتنا المطلقة ؟

الجواب: هو أننا نتفاخر بها لأنها سبيلنا الى النصر والنجاح، ولن نفلح في تدعيم النظام الشيوعي إلاّ إذا اتصفنا بالصرامة والقسوة والطغيان والاستبداد، كل ذلك ريثما تتحقق الثورة الشيوعية العالمية.

وقال أيضاً: يجب على المناضل الشيوعي أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل، فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية، ويجب أن يكون مفهوماً أن الشيوعية غاية نبيلة، وأن تحقيق الغاية النبيلة يتطلب في كثير من الأحيان استخدام وسائل غير نبيلة؛ ولهذا فإن الشيوعية تبارك شتى الوسائل المناهضة للأخلاق مادامت هذه الوسائل تساعد على تحقيق أهدافنا الشيوعية(1).

وهذه ليست شيمة الشيوعية فحسب، بل هو أُسلوب جميع الأحزاب التي عاصرناها وكان لها وجود على المسرح السياسي؛ إذ قد هتفت بعض الأحزاب بالحرية والوحدة والاستقلال، وقاومت الحكومات على هذا الأساس، ولكن سرعان ماتناست هذه المبادىء عندما حصلت على دور القيادة، فازدهر الطغيان والاستبداد والقسوة في عصرها، ليس مع الخصوم فقط، بل حتى مع الأصدقاء، وحمامات الدم بين آن وآخر كانت تشهد تدفق دماء الرفاق قبل أن ترتوي الأرض من دماء الخصوم.

وهذه طريقة مشت عليها جميع الأحزاب السياسية الوطنية والدينية معاً، وربما ذهبت بعض الأحزاب الإسلامية إلى أشد من هذا، حيث اجتهدت باجتهادات لاتنسجم مع روح الإسلام ومبادئه السامية؛ تحقيقاً لبعض الرغبات والميول الحزبية، فكانت مبرراً للانحراف الديني قبل السياسي وسبب الاساءة لقيم الدين الحنيف.

الثامن: التخلف الفكري

لقد اتسمت الأحزاب السياسية بعدم نضوج الفكرة التي يدعون إليها، وعدم وضعهم لها في صور وبرامج مشروحة ومحددة مما يتسبب عنه الكثير من الخلافات والانشقاقات الداخلية عند التفسير أو التطبيق، والذي يرتد بصورة سلبية على المجتمع لعدم وضوح النظرة النهائية لقضاياه التي تلقاها غالباً من الأحزاب السياسية.

التاسع: الأحزاب والأيادي الخفية

إن الحزب بمبادئه وأهدافه وتطلعاته يتعرض للسرقة والاحتواء من أصحاب المصالح والأغراض السياسية، فكثيراً مانجد أن الزعيم الحقيقي للحزب ليس ذلك الشخص المنتصب على رأس الهرم التنظيمي للحزب، وإنما هم مسيرون وموجهون حقيقيون تخفوا عن النظار وعاشوا بين الناس كأفراد عاديين أو أعضاء عاديين وفي الواقع هم يديرون الحزب من وراء الستار كأصحاب الصناعات الكبيرة ومدراء المؤسسات والمقاولات.

وتكثر هذه الحالة في الأحزاب السياسية لأُوربا وأميركا إذ يقوم الرأسماليون الكبار بتوظيف رساميلهم على الأحزاب السياسية من أجل أن يحصلوا على طرق تمكنهم من التمتع بإمكانات رسمية أو مالية من قبل الحكومة القادمة أو الحالية، أو الفوز في مناقصة، أو تغيير بعض القوانين، أو تعديل بعض المواقف التي تعود عليهم بالنفع بلامشاركة شخصية لهم في الأحزاب السياسية؛ إذ يبذلون جهوداً كبيرة في مواسم الانتخابات العامة، ويصرفون مبالغ ضخمة لدعاية الحزب وقادته دون أن يتدخلوا بأنفسهم في شؤون الحزب بصورة مباشرة.

وربما وقعت بعض الأحزاب ضحية العمالة والتجسس لصالح الأعداء من حيث لاتشعر بهذا الأُسلوب، وهكذا تصبح الأحزاب أدوات تحركها أياد خفية تطمع في مصالح وغايات منحطة لاتتوصل إليها إلاّ عن طريق سرقة الأحزاب وتحريف مبادئها ومواقفها الوطنية.

حقائق وأضواء

ولعل – بعد الإغضاء عن طائفة أُخرى من الأجوبة التي تختص ببعض الانتقادات – الإجابة التامة الوافية عن كل هذه الأسئلة المتقدمة تتم بتسليط الضوء على مجموعة حقائق:

الأولى: قانون الأهم والمهم

إن الذي يحدد أعمال الإنسان وتصرفاته الأهمية واللاأهمية بالنسبة لتحقيق أغراضه وحاجاته وأمانيه، وكلما كان العمل أكثر أهمية بالنسبة إليه سعى وراءه أكثر من دون اعتناء بأهمية العمال الأُخرى؛ لأن المهم يذهب ضحية الأهم دائماً.

بل حتى العمل الذي يجر إلى الإنسان الخسارة والضرر أحياناً لم يعبأ الانسان بضرره وخسارته إذا كان النفع الذي يحصله منه أكثر من ذلك الضرر عند الموازنة والمقايسة.

فإن معادلة الربح والخسارة تتوقف على أكثرية وأشدية وأهمية كل منهما في تحقيق مطامح الإنسان ومطامعه وتطلعاته.

وهذا قانون عقلي يتحكم في سيرة جميع أبناء البشر في كافة مجالات الحياة المختلفة، فمثلاً: لو تعرض الإنسان لخطر الموت وخطر الخسارة المالية الضخمة معاً فإنه يضحي بماله في سبيل درء الموت عنه؛ لأن حفظ الحياة بالنسبة إليه أهم من حفظ المال وإن كان حفظ الثروة بالنسبة إليه شيئاً لازماً.

وأيضاً لو تعرض الإنسان لمرض لايزول إلاّ بعملية جراحية ربما تودي به إلى الموت أو فقدان بعض حواسه أو جوارحه نراه يقدم على إجراء تلك العملية بكل عزم وإقدام، ولم يبال بالأضرار التي قد تنجم عن تلكم العملية؛ لأن النفع الذي يغتنمه من جراء الصحة والسلامة البدنية أهم وأكبر في معادلة التقييم بالنسبة إليه.

ومن المعلوم أن هذا القانون يعم جميع أفعال الإنسان السياسية والاجتماعية، الفردية والجماعية، المؤسساتية الشخصية بما فيها المؤسسات الحزبية؛ إذ بمقايسة المنافع الاجتماعية والسياسية الناجمة عن وجود الأحزاب السياسية بالمشكلات التي تلازمها وتترتب عليها تتغلب المنافع على المشاكل والأضرار، وذلك لأن حفظ واسترداد حق الحرية والقدرة وإلغاء دور الاستبداد والديكتاتورية من أهم معطيات الأحزاب السياسية، بل ومن أهم معطياتها الأُخرى أيضاً سد الفراغات والاحتياجات الاجتماعية التي حصرها فقهاء الاجتماع السياسي في:

1-سد الاحتياج الذاتي للأُمة؛ لأن الأُمة تحتاج إلى القدرة والوسائل التي تمارس بها القدرة وتحفظها وتنميها وتظهرها في مجالات الحياة والعمل السياسي، وهذا فراغ مهم لايشغله إلاّ فاعلية الكيان الحزبي.

2-سد الاحتياجات الاجتماعية لوجود العنصر المفكر والكادر السياسي والمؤسسات الثقافية والجماعات التوجيهية والمراكز التنموية وغيرها التي تساعد عليها الأحزاب وجوداً وحثاً وتشويقاً.

3-الضغط الاجتماعي على الدولة لإدخال أو تعديل أو تغيير بعض القوانين التي توافق مصالح الشعب وتطلعاته، وقد مر تفصيلها في الفصول السابقة.

ولكن السؤال المطروح هو هل من المنطق أن تهمل كل هذه المعطيات الجزيلة الواسعة التي تمنحها الأحزاب السياسية فقط، ونتركها جانباً لتفاقم حالة التعصب الحزبي واختلاف المذاهب والميول والاتجاهات لكل منها ؟ الأمر الذي لم يحسب له العاملون في الحقول السياسية والاجتماعية حساباً أكثر من أنه طبيعي ينشأ في كل مجتمع وأُمة وحضارة. هذا إن سلموا بأنه سيئة يجب الالتفات لها.

الثانية: الخطايا والاشتباهات

إن ارتكاب الخطايا والاشتباهات من ملازمات البشرية؛ إذ ليس البشر معصوماً عن الخطأ أو الاشتباه، وعلى هذا فبعض التعثرات الموجودة تكون أمراً طبيعياً ملازماً لجميع البشر أفراداً كانوا أم جماعات، مؤسسات حزبية كانت أو غير حزبية، فبعض الأخطاء مشتركة بين الجميع، فهل يصح أن نقول: يجب أن نلغي جميع المؤسسات والتجمعات، بل وحتى نقمع سلوك الأفراد دفعاً للأخطاء؟ أم نقول نلغي الأحزاب فقط بلادليل أو داع واضح ؟

نعم، هذا لايستدعي أن نقبل بكل خطأ، ونغفر كل عثرة؛ لأن بعض الذنوب قد لاتغفر ولاتمحى كاشتباهات الديكتاتورية والاستبداد الحزبي، أو مصادرة حقوق الناس بلا مبرر شرعي، أو العمالة، ولكن من الإنصاف أيضاً أن نفصل بين خطأ النظرة وخطأ الناظر، بين خطأ النظرية وخطأ تطبيقها، بين خطأ الفكر والمنهج وبين خطأ القيمين عليه.

صحيح أن بعض الأحزاب الوطنية التي التزمت بالمبادىء الوضعية والعلمانية تكون أخطاؤها في أغلب الأحيان في المنهج الفكري والنظري أيضاً مضافاً إلى أخطاء العاملين عليها، باعتبار أن المنهج الأرضي منهج لم يستوعب كل أفعال البشر وحاجاتهم ومشاكلهم.

ولكن الأحزاب الدينية والإسلامية منها بصورة خاصة فان خطاياها تكون من قبيل الخطايا العملية والإدارية الناشئة من الجهل بالأساليب الصحيحة لتطبيق الفكرة والنظرية في أكثر الأوقات؛ وذلك لسلامة الفكر الإسلامي وسموه وشموله المستوعب لكل مجالات الحياة، فاشتباه بعض الأحزاب السياسية العملي يجب أن لايجر الى نفس نظرية الأحزاب ومنهجها وضرورة وجودها.

فهل تأخر المسلمين اليوم وسوء فهمهم لمبادىء الإسلام وتطبيقها السيء والمشوه يكشف عن نقصان الاسلام وفشل مبادئه كما فشلت المبادىء الأرضية أم نحتج بهذا البون الشاسع بين الاسلام والمسلمين العقيدة والمعتقد ؟.

لا للتطرف

إن الحرية الواسعة التي كان يمتاز بها الحكام والكنيسة في العصور الوسطى التي أودى تشددها الأعمى بحياة الكثير من العلماء والمفكرين وأبادت آلاف الكتب والمدارس مما سببا ردة فعل متطرفة في الاتجاه المعاكس سيقود العالم الى السقوط في آخر المطاف، حيث تظهر بوادر الانهيار في العالم اليوم في عدة أطراف:

فتحكم النظام الطبقي الذي منحته الحرية الإفراطية لبعض الفئات دون بعض وبخس الأقوياء لحقوق الضعفاء كان السبب المباشر في ولادة نظرية التساوي الافراطي بين البشر حتى بين الرجل والمرأة المختلفين في أبعاد عدة من جوانب السلوك. هذا التساوي الذي قصم شخصية الإنسان وعقله وروحه، وأمات حس الرجولة لدى الرجال كما محا الطبيعة النثوية عند النساء.

كما سبب التشدد الديني المتطرف لدى الكنيسة رد فعل حاد وعنيف لدى المجتمعات الأُوربية يدعو الى التحلل من الدين والفضيلة أقصى غاية في التحلل والانفلات، كما كان تفشي الإلحاد والرذيلة بشكل يهدد مستقبل البشرية كنتيجة أُخرى لذلك.

وسبب أيضاً نشوء التعصب القومي واللغوي إلى حد العبادة حتى صارت القومية من أسمى قيم الحياة الإنسانية، والتي نشأت على أثرها المذاهب السياسية الباطلة كالنازية والفاشية التي أغرقت العالم ببحار الدماء والدموع في حربين عالميتين مدمرتين.

وباختصار: إن هذه الحرية اللامسؤولة التي كانت سلطة الكنيسة فيها مطلوقة العنان هي التي كانت وراء الكثير من المشاكل والأزمات التي يرتطم فيها الغرب اليوم، وسيتحطم بها في الغد.

هذه مأساة الحرية في أُوربا، فهل من المنطق أن نتطرف في النظرة كرد فعل معاكس إلى درجة نحكم على الحرية التي هي حاجة غريزية وفطرية لكل إنسان بالموت، فنحيي تراث القمع لنكبل المجتمعات بالاستبداد، ونقيد رقابها بالديكتاتورية ؟ أم الصحيح أن نبادر لتعديل التطرف وتهذيب سوءاته مع قبول الأصل ؟ فبدل الحرية الطائشة اللامسؤولة نمنح الحرية المسؤولة التي تزيح الديكتاتورية ومساوئها مع تحديدها لكيلا تسبب لنا ديكتاتورية من نوع آخر.

كما نحترم القوم والأرض واللغة واللون في إطار موازين الأخلاق والفضائل والكفاءة لاالاحترام المطلق على حساب سحق القيم والفضائل وارتكاب الرذائل.

وهكذا نقبل برأس المال الذي منعه الشيوعيون، ونحدد تطرفه في إطار العقل والشرع في مجالاته الخاصة؛ إذ لابد للإنسان من أن يملك ويستغني ويتصرف في ماله بصورة منطقية ومعقولة لا أن نقمعه في رأس ماله وندعي بالاشتراكية، ونلغي حتى مايتطلبه الإنسان بغريزته وفطرته وطبيعته.

وهكذا قضية الأحزاب السياسية، فإن الأخطاء التي ارتكبتها بشأن الأُمة والوطن أوالمبادىء يجب أن لاتنعكس بصورة متطرفة حتى تأتي على كل صحيح وفاسد، أخضر ويابس، فتحرقه وتلغيه وتزيله عن الساحة بلا حد فاصل يميز الخبيث من الطيب، الحسن من السيء، الجميل من القبيح، وبذلك يبقى الشعب شتاتاً لاجامع له.

وإنما يجب أن تبقى النظرية صحيحة، والوجود الحزبي ضرورياً، ودوره مطلوباً، ولكن نشحذ الهمم بالتقويم والتوعية والتحاور لتهذيب مسيرتها، وتقليل أخطائها، وتعديل مواقفها، وصبها بالأُسلوب السليم في خدمة الأُمة وأهدافها العليا.

الثالثة: الحلول الجذرية

إن حكمة الجمع بين فوائد الأحزاب ودفع أضرارها تقتضي أن نقول: بدل إلغاء الدور الحزبي والقضاء على وجوده في المسرح السياسي نتيجة للأخطاء والأضرار الناجمة عن المسيرة السياسية يجب أن نسعى لإيجاد الحلول الجذرية المدروسة لهذه الأخطاء وإيجاد الموانع التي تحول دون وقوع الخطأ أو تقليله على الأقل، ومن الحلول الجذرية:

أولاً: إيجاد الفكر السلمي التجميعي بدل المفاهيم التنازعية التفريقية في منهجية الحركات السياسية، ووضع التفاهم والحوار مكان العنف والشدة، والأقلام بدل السلاح، والكلمات مواضع الرصاص.

إن الثقافة السلمية يجب ان لاتكون ناشئة عن الاحتياج والمصلحة بين الأطراف، وإنما يجب أن يكون الدافع هو حب الإنسان واحترام حقوقه وقيمته، وإلاّ افتقد الفضيلة والوداعة والصدق، بل اتصف بعدم الدوام والاستمرار؛ لأن مايتكون على أساس المصلحة والحاجة ينهدم بنفاد المصلحة أو إشباع تلك الحاجة، ومهما كان الأمر فان الأفكار والمواقف السلمية بين الجماعات على ثلاثة أنواع:

1-أن يكون الموقف سلمياً لعدم التصادم في المصالح، ويتصف هذا بأن أطرافه منعزلون كل في مجاله بلااحتكاك أو تفاعل، وأنه خال من الصراع والمنافسة.

2-أن يكون الاحتياج والترابط في المصالح، ويتصف بأنه ليس بسلم جذري ودائم وعميق اقتضته الحاجة والنقص في ماكنة الحياة الإنسانية؛ ولذا أطلق عليه علماء الاجتماع اسم الوحدة الميكانيكية.

3-أن يكون لأجل احترام الإنسانية وتقدير الفضيلة، ويتسم بأنه جذري وعميق ودائم يقتضيه حس السمو والفضيلة والتكامل عند الإنسان؛ ولذلك يطلق عليه اسم الوحدة الحيوية.

وتحقيق الانسجام والتسالم بين الجماعات يحتاج إلى أُمور:

1-كثرة المؤتمرات واللقاءات وحوارات التفاهم وتبادل الآراء، فان التجمع الأُسري عند علماء الاجتماع أكثر انسجاماً وتفاهماً وتعاوناً من باقي المؤسسات لطول مدة الصحبة والالتقاء.

2-ولكي يزداد التفاهم والحوار متانة وقوة ونزاهة يجب أن يسرح بأجواء الحرية والانطلاق، فإن الحرية تساعد على إذابة نقاط الاختلاف إو إقلالها على الأقل، بينما استحكام الأجواء الديكتاتورية تؤدي إلى الشتات والفرقة والانحلال والتباغض دائماً.

3-كما يجب أن نقلل أسباب النزاع والتخاصم بين الأطراف من:

أ-إيجاد ملكة احترام الرأي والاجتهاد.

ب-احترام الأطراف.

ج-حصر الخلافات في الخلافات الجذرية دون السطحية الهامشية؛ لأن الاختلاف الحقيقي هو الاختلاف المبدئي، ومادونه فليس باختلاف، وإنما هو اصطناع الخلاف والتصادم نشأ من الجهل أو الظروف الخارجية أو هما معاً.

لأن تحديد نقاط الخلاف وتقليلها يستدعي القرب أكثر إلى الحل والانسجام والتوافق، وبعكس ذلك لو كانت نقاط الخلاف مشتتة ومبعثرة فإن ذلك يعطي هالة كاذبة عن الخلاف وعدم القدرة على التفاهم أو إمكان ذلك، وهكذا.

د-تحديد نقاط الاشتراك والاتفاق وإثارتها ونشرها بين الأطراف مما من شأنه أن يقلل من الخصام والتباعد والتضارب.

4-التنضيج الفكري للأفراد والأعضاء الحزبيين، والنضج الفكري كلما دب في جسم الكيان الحزبي كان الحزب راسخاً في ضمير الشعب وأقرب إلى الواقعية والاعتدال؛ لأن أغلب النزاعات والمساوىء المترتبة في الساحة تنشأ إما من سوء الفهم وعدم استيضاح مايريده ويعمل عليه الطرف المقابل وإما من بخس الحقوق والتغطية على فضائل الغير وإثارة مساوئهم طلباً للتسلط والسيطرة وحصد الثمار، وكلاهما مسببان عن عدم النضج الفكري وفقدان الوعي الثقافي والحياتي.

فإذا رفضنا أزمة التخلف الفكري ارتفعت أو تقلصت المشكلات وتحددت أحجامها، كما حل الأمن والسلام في أُوربا بحلول الوعي والمنطق والعقل بينها بعد حروب طويلة طاحنة أفقدتها الكثير، وحطمت منها الكثير، بينما تكرست الحروب والخلافات الأهلية والقومية أكثر في العالم الثالث لرسوخ جذور الجهل والتخلف في قلوب أبنائه.

فالصحيح أن تكون البرامج الإصلاحية باعثاً على إيجاد الموانع والحصانات القوية لتهذيب المسيرة الحزبية وحل مشكلاتها ورفع سلبياتها وتجاوز أضرارها لتضمن المصالح المرجوة منها، وليس من العقل أن نسدل الستار، ونلغيها من الوجود، وبذلك نلغي حريتنا واستقلالنا ووجودنا السياسي.

ثانياً: توعية الشعب وتوجيهه نحو الفكر التوعوي الحر والثقافة التجميعية وتأسيس مؤسسات المراقبة الإعلامية ليضغط على الأطراف في إيجاد حالة التسالم في العمل وإحلال التنافس بدل الصراع والواقعية بدل الزيف والإخلاص مقام الخداع.

كما أن تعدد الوجود الحزبي في أجواء الحرية يساعد على نمو حالة التنافس والتسابق إلى الخير والتقدم والعطاء وطمس حالات الصراع والتدافع والخلاف.

كما نجحت الديمقراطية الحديثة في رفع بعض الأخطاء الناجمة عن الوجود الحزبي وأضراره تحت مظلة الحرية، والأشياء تعرف بأمثالها كما تعرف الأشياء بأضدادها.

فاللازم السعي وراء إيجاد الأساليب التي تقلل من أخطاء وأضرار الأحزاب، وليس من المنطق والحكمة أن ندعي إلغاء وجودها وإقصاءها عن الطريق السياسي بالكامل.

الرابعة: الاستبداد... والأزمات الحزبية

إن أكثر المشاكل التي تطفح على الساحة السياسية يغزلها كف الاستبداد المتسلط على رقاب الجماهير؛ لأن المجتمع الذي عصفت في أرجائه الديكتاتورية يشكو من نزيف الاختلافات والانشقاقات المستمرة؛ لأن الديكتاتورية حيث تريد الاستبداد بالحكم وتخلية المسرح السياسي من أي وجود آخر يمنع من تفردها بالسلطة تسعى لتأجيج نيران الحروب الأهلية وتصعيد النزاعات بواسطة أياديها الخفية المتسللة إلى قلب المؤسسات الحزبية بشكل مباشر أو غير مباشر.

ذلك لأن تحكم الإرهاب والكبت السياسي للأحزاب يقضي على تطلعات الأحزاب للأهداف العليا والمبادىء السامية فيشغلها مع بعضها بخلافات هامشية طاحنة؛ لأن الفراغ يولد حالة التمرد والانهزامية وعدم التنافس البنّاء، ولذلك نرى أن صداع التفرقة والضياع يتفاقم في البلدان الديكتاتورية، بينما البلاد الحرة تقل فيها الصراعات السلبية أو تنعدم، ولذا نحن ندعو إلى إيجاد الحرية أولاً، ثم بعدها كل شيء يوجد؛ لأن بحلول الحرية يحل السلام والوئام والتفاهم والسعي إلى البناء والتقدم.

بالإضافة إلى أن الأجواء الحرة تبدل حالة الصراع إلى حالة منافسة؛ لأنها تنمي الوعي والنضج الفكري والسياسي، مما يصرف الأحزاب والمؤسسات السياسية إلى الأهداف السامية دون الهامشيات والمراقبة اللاهادفة لتوفر الفرص للجميع، خاصة وأنها توجد حس المراقبة الاجتماعي الذي يفرز الغث من السمين، والصحيح من السقيم، ثم يطلق كلمته، ويعلن موقفه تجاه الأحداث بكل صراحة واختيار.

كل هذا من شأنه أن يقضي على مشكلات الأحزاب السياسية والأزمات الناجمة عنها.

شمولية العمل الحزبي

وعلى أي حال فإن لم نقبل بوجود العمل الحزبي بل ولابديته فمعناه آمنّا بالعمل الفردي –وهو اللاحزبي – أو البطالة واللاعمل؛ إذ لاخيار آخر لنا؛ لأن الانسان إما لايعمل في البعد السياسي والاجتماعي وأن يحصر نفسه في بوتقة الانعزال والانغلاق والوحدة، أو يواكب مسيرة العمل داخل المجتمع مرة منفرداً ومرة منضماً إلى جماعته وتكتله الخاص.

هذا مع أن وفي أحيان كثيرة يكون الخلاف بين القائلين بضرورة تواجد الأحزاب على المسرح السياسي وبين المخالفين في ذلك لفظياً لا واقعياً؛ لأن العمل الفردي لابد وأن ينتهي بدوره الى العمل الكتلي والجماعي بشكل قهري؛ لأن تعدد الحاجات والمشكلات والأزمات السياسية تحتاج إلى تعدد في الوظائف والأدوار، وهذه تستلزم وجود إمكانات وطاقات وجهود متنوعة لايمتلكها نفس الفرد مهما أوتي من قدرة ونبوغ، فيضطر إلى الاعتماد على جهاز كتلي لأداء هذه الأدوار، وهذا بحد ذاته عمل حزبي وإن لم يسم نفسه حزباً.

والمهم في بحثنا عن الأحزاب هو تحصيل فوائدها ومنافعها لااسمها وشكلها وصورتها، فإذا كانت الجماعة تقوم بوظائف وأدوار الأحزاب كانت حزباً وإن سمت نفسها هيئة أو جماعة، والحسناء تعرف من فتنتها وسحرها وإن وصفتها ضرائرها بالدمامة والقبح؛ لأن الأُمور تعرف بواقعها وحقيقتها لابعنوانها واسمها، وعلى هذا تعود نفس الأسئلة التي نقدت بها الأحزاب السياسية على الأعمال الفردية أيضاً، فلماذا نقدم هذا على ذلك ؟

نواقص العمل الفردي

هذا مضافاً إلى أن الأعمال الفردية لاتوصل إلى النتائج المطلوبة، ولاتحقق الآمال والتوقعات، وذلك لأنها:

1-أعمال ارتجالية ليست منهجية ومخططة في الغالب وإن قادها عبقري منظم فإنها لاتعدو كونها أعمالاً انفعالية تستقي وقودها من نشاط الفرد وأفكاره وخبراته المحدودة التي لاتسمح له بالتصدي لقيادة المجتمع.

2-أنها أعمال كيفية متغيرة وليست بثابتة؛ لأنها ناتجة من أفكار ذلك الفرد المتصدي، وأفكار الأفراد تتغير من حين لآخر وظرف وآخر تبعاً لعجز الفرد ومحدوديته في تشخيص الأوضاع والأزمات بشكل واضح ودقيق حتى تلجئه الظروف في كثير من الأحيان إلى انتهاج الطرق غير المشروعة للوصول الى مآربه مهما كان ورعاً وتقياً.

3-أنها تكون متطرفة ومحصورة؛ لأن تفكير الحركة متى فقد شموله وارتكز على جانب واحد وغربت عنه الجوانب الأُخرى يصبح ضيقاً لايستطيع فحص الحقائق إلاّ من زاوية حادة، وبهذا قد يولي الفرد القائد عنايته لنقاط في الهامش بينما يغفل الحقائق الضرورية والرئيسية أو يغالي في قضايا تصورها مهمة حتى يتجه إلى التطرف الجائر وبالعكس، وبهذا تصبح الحقائق الواقعية في غياب طويل في الأعمال الفردية أحياناً.

4-أنها تسبب التجزؤ والتفرق والانشقاق غالباً؛ لأن كثرة الأعمال الفردية تؤدي إلى تقسيم التجاذب الاجتماعي وتوزيعه فيما بينها؛ لأن كل حركة تهتم لجذب أبناء المجتمع نحو نفسها، وبهذا تنبت بذرة الانشقاق وتنمو حتى تنعكس في المجتمع فصائل وأوصالاً.

5-أن الأعمال الفردية تنتهي إلى الديكتاتورية والاستبداد وعبادة الفرد القائد في كل إنجازاته وتصرفاته في بعض الأحيان؛ لأن تحكيم الفكر الشخصي وميوله وفرض تطلعات فرد واحد على شرائح المجتمع تكريس للاستبداد، بل هو استبداد أسوأ من استبداد الأحزاب؛ لأن هذا استبداد لفرد واحد وشخص واحد بينما ذلك استبداد لجماعة وخط وتيار.

6-أنها تكون وقتية ومحدودة لاتحمل عناصر البقاء ومؤهلات الخلود؛ لأن المسيرة التي تنطلق من آراء وتصورات فرد تعيش مادامت تلك التصورات حية نابضة، وتتلاشى فور مايخبو الفرد أو تنهار تصوراته وتتبدل آراؤه.

الحل المفقود

وبهذا يغيب الحل عن أُطروحة العمل الفردي لنفس الإشكالات التي قيمت ونقدت بها نظرية الأحزاب السياسية، بل وأسوأ.

كما أن العمل اللاحزبي ليس بشيء جديد غير العمل التنظيمي الحزبي، أو العمل الفردي، ولايخلو الجميع من كونه مغالطة لفظية، أو تشوشاً في التصور والمفهوم عند النظرة الواقعية والتأمل الدقيق؛ لأن الجماعة على أي حال لابد لها من النظم والهندسة والمنهجية، سواء كان قائدها جماعة فكانت مؤسسة سياسية تسمى بالحزب السياسي، أو قادها فرد موهوب فذ فتكون أحزاباً فردية وإن لم يسمها أصحابها حزباً.

بناء على هذا فإن نقاط الضعف التي قومت بها الحركة الحزبية لاتنهض دليلاً قوياً على نكرانها ووجوب إلغائها والاستغناء عنها في مقابل دعم الأعمال الفردية وإسنادها إن لم نقل بقيامها دليلاً لها لاعليها.

وبذلك يكون من المنطقي جداً أن تصبح مسألة الأحزاب السياسية مسألة سياسية واجتماعية يجب أن نعيشها في العالم الثالث، وحالة ضرورية وحيوية لايستغني عنها شعب ولامجتمع ولاأُمة؛ لما يترتب عليها من ثمار ومعطيات استراتيجية في الواقع الحضاري، خاصة وأن كل الأسئلة المضادة المثارة حولها وعنها لم تتمكن من أن تقف طويلاً بلا حل يدعو إلى تحاشيها وإبعادها عن الشارع السياسي.

لماذا فشلت الأحزاب السياسية ؟

ويبقى هنا سؤال واحد يقول: ماهو السبب الذي دعا كثيراً من الناس الى تحاشي الأحزاب وتجنب العمل فيها، حيث ظلت قضية الأحزاب السياسية في العالم الثالث قضية جديدة في أذهان الناس، وتدور عنها الكثير من الأسئلة الحائرة والاستفهامات عند بعض الأطراف، وربما عادت قضية فاشلة سببت وتسبب الكثير من المشكلات والأزمات في تصور البعض الآخر ؟.

ولعل الجواب عن ذلك يعود لأمرين:

الأول: الذكريات المرة والتجارب الفاشلة التي خلفتها الأحزاب السياسية في العالم الثالث، وخصوصاً الأحزاب التي أوجدتها أصابع الاستعمار في بلادنا سبب ردة فعل عنيفة وانطباعات متطرفة ضدها.

الثاني: التخلف الثقافي والجهل السياسي الجاثم على صدر العالم الثالث الذي يعزى اليه جهل المجتمع بالقضايا السياسية والاجتماعية التي تمسه وتمس حياته ومصيره، كمل نسبت إليه الإفرازات السيئة والنتائج السلبية التي أوجدتها الأحزاب السياسية في الساحة الاجتماعية؛ لأن القائمين على الأحزاب هم أبناء مجتمع متخلف، ونتاج بيئة مريضة وهزيلة، ومن الواضح أن يسري فيهم نفس المرض والهزال كما أصاب مجتمعهم.

ولو عملت الأحزاب السياسية بالشرائط الصحيحة للعمل الحزبي والكفاح السياسي لنالت موقعها المطلوب في الواقع الوطني.

إن الموقف الحكيم الذي يجب أن تتخذه الأحزاب السياسية تجاه الآراء والمفاهيم السلبية عنها هو أن تراعي شرائط النجاح والتقدم من خلال إثبات ومتابعة أسس التصاعد والسمو؛ لأن التعسف والتثبت على المواقف القديمة التي طبعها بطابع النكوص والفشل وعدم الاكتراث بالنتائج سيؤدي بها في نتيجة الأمر الى التحطم والانهيار لما سيصيبها شيئاً فشيئاً من التمرد وكره الذات والسأم والملل والهروب من الواقع.

كما سيحجم من انتشارها في الوسط الاجتماعي، وبالتالي يسد نوافذ الانتساب والكسب، والأشد منه أن عدم الاهتمام بردود الأفعال المضادة يشرنقها في دوامات الأزمات الداخلية والنزف التنظيمي المستمر، وهذا موت حقيقي في المنطق السياسي.

وأبرز شرائط النجاح التي يجب أن توفرها الأحزاب السياسية في نفسها أُمور أولاها أن نتجنب أسباب التحطم والفشل، وأهمها:

1-المشكلات الداخلية، وذلك:

أ-لأن الأحزاب التي تمتلك مقومات النجاح هي التي تنطلق من نظرية صحيحة يتبعها تطبيق سليم، بينما تفشل تلك التي امتلكت نظرية صحيحة ولم تجرها على جدول الواقع بأُسلوب صحيح ومعتدل، كما تصيبها نفس العاقبة فيما إذا سارت على العكس.

بينما الأحزاب التي ابتليت بالفلسفة السقيمة تتردى هي أيضاً لتردي فلسفتها؛ لأن الحزب الذي انطلق عن فلسفة قومية أو إقليمية أو ديكتاتورية مثلاً قد وقع في منزلق الأنانية وحب الذات لاغير، وهذا يعني أنه قد خبت فيه حرارة الإنسانية، ونضبت فيه قيم الإنسان، وماتت فيه الفضائل ومبادىء الحق والعدالة كما تموت الوردة الغانية في قسوة الجليد.

ذلك أن الحزب الذي يحترم قومه ويقدسهم ويرجحهم على غيرهم من الأقوام أوتوا أو امتلكوا من المزايا والصفات سيتدرج من ترجيح القوم إلى ترجيح الفئة الخاصة من أتباعه، ثم ترجيح الفئة الأخص، ثم ترجيح القائد فقط دون غيره، وبهذا سيكون خليقاً بأن يتحطم وتقع بين أعضائه الحروب والمنازعات، وأخيراً ينجر إلى الزوال.

ب-إذا تفيأ العمل الحزبي بظلال الحرية حصل على ركيزة التقدم والنجاح؛ لأن الاستبداد والديكتاتورية تخمد الأنفاس، وتخنق الأصوات، وتميت الكفاءات، وتبدد أوصال الحزب داخلاً وخارجاً؛ إذ أثبتت التجربة لجميع الاحزاب أن طبيعة الاستبداد من أهم العوامل التي تساعد على تنمية الانشقاقات والتمزقات الداخلية، كما تنمي التعصب والطاعة العمياء والانتهازية والتزلف التي تفقد الحزب أصالته ومبدئيته ورسوخه.

ج-الحفاظ على القانونية والمنهجية الصحيحة في العمل وعدم تجاوز المقررات والبنود والأُصول المعينة لكل عضو وفرد ومسؤول؛ لأن تجاوز الاتفاقات سيفرط مسبحة التنظيم، ويخلط حابلها بنابلها، وبالتالي الانهيار والسقوط.

د-المسيرة المعتدلة في تطبيق البرامج والأهداف لكيلا تصاب بصدمة عند الفشل، أو انشقاق عن المجتمع لردود الأفعال المضادة.

هـ-الأخلاق الاجتماعية والمسايسة أيضاً من أهم شرائط نجاح العمل السياسي وأي عمل آخر؛ لأن التعاون والاخلاص واللين والوئام يزيد الحركة انتشاراً وارتباطاً ووثاقة وجداً ومثابرة، بينما التفرق والنفاق والعنف والتباغض لايزيدها إلاّ تحطماً وتمزقاً وانفراطاً.

والسقوط الداخلي يكون أكثر هدماً للمؤسسات والهيئات والتجمعات؛ لأن فساد الأعضاء ينتقل من عضو الى عضو آخر حتى يفسد كل الحركة، وبذلك لايمكن إعادتها مرة أُخرى لما يصيبها من مضاعفات وترديات لاتساعدها على النهوض ثانية.

2-المشكلات الخارجية النابعة من الاستعمار والأنظمة الحاكمة والتخلف الاجتماعي والسياسي، ولكن هذا التحطيم يمكن مقاومته فيما إذا كانت عوامل القوة والسمو والتصاعد الداخلية متجذرة وراسخة في أعماق الكيان الحزبي.

لابديل عن التعددية

وأخيراً ومهما كانت الإشكالات والمناقشات التي قد تطرح حول الأحزاب السياسية فترفضها كلاً أو ترفض بعضها وتقبل بعضها الآخر، فإن الموقف المتعقل والمنطق الصحيح يلزمنا دائماً لدى قبولنا بأي فكرة أو مشروع أن نتجنب التطرف والحدية فيه، ثم نتأمل في إيجابياته وسلبياته، وبعد ذلك نتخذ رأينا الأخير فيه.

كما أن نفس المنطق الحكيم هذا يلزمنا دائماً إذا أردنا رفض فكرة معينة أن ناتي بالبديل عنها؛ لأن الإنسان إذا فكر في البديل فكثيراً مايكون أكثر اعتدالاً في رأيه من السابق، ولهذا فإنه قد يعود إلى نفس الرأي الذي رفضه أولاً بعد أن يكتشف أنه الحل الأفضل.

والآن وبعد أن توضحت الضمانات الأساسية التي بواسطتها يمكن أن نحمي الحرية ونصونها من المصادرة نتساءل ماهو البديل للديمقراطية والحرية السياسية ؟ لاشك أنه الديكتاتورية البغيضة.

وماهو البديل لوجود المعارضة والأحزاب؟ ليس إلاّ الفردية والاستبداد، وهل لأحد أن يدعي أن الديكتاتورية بديل صحيح للديمقراطية؟ أو الفردية والاستبداد أفضل من التعددية الحزبية ؟

ولهذا وبعد المناقشات والأجوبة التي قدمناها حول هذه الضمانات الأربع وخاصة الأحزاب السياسية سواء كانت مقنعة أو غير مقنعة سنتغاضى عن أكثر ما قد يقال في فشلها وبطلانها، ونقول: إننا إذا أردنا حكماً إسلامياً عادلاً تسوده الشورى والديمقراطية والتنافس النزيه على السلطة فلابد من وضع كل الوسائل والامكانيات التي تساعدنا على ضمان ذلك؛ لأن السلطة المطلقة وخصوصاً إذا كانت سلطة دينية تتخذ من الدين وسيلة للحكم تحتاج الى الحد والتقييد.

ونحن نؤكد على السلطة الدينية لأنها بطبيعتها تدفع حتى أكثر الحكام عبادة والتزاماً بالدين إلى الانحراف والاستبداد بقصد منه أو دون قصد، خاصة وأن الانحراف عن الدين في أغلب الأحيان يبدأ تدريجياً وبهدوء، بحيث لايحس صاحبه إلاّ وقد ارتكب أفظع الجرائم والمنكرات؛ ولذلك فإن الحاكم الديني ربما يستبد ويعتدي على الناس ويخرج عن مبادىء الدين وهو لايدري أنه قد استبد، أو ظلم، خاصة وأن التلاعب بالأحكام الشرعية وتحليل الحرام وتحريم الحلال تعتبر من أخطر المبررات التي تذلل له كل العقبات التي قد تقف في طريق طغيانه؛ إذ من السهولة بمكان أن يحكم على معارضيه السياسيين بالفسق والخروج عن الدين أو الفساد في الأرض ليرتب عليه أحكامها، فيقصيهم من الساحة، وهكذا.

وقد أثبتت التجارب السياسية في التأريخ أن الديكتاتورية الدينية في بعض الأحيان كانت أسوأ أنواع الديكتاتوريات التي قد تحكم الشعوب؛ لأنها تسخر الدين وأحكامه لخدمة أغراضها ومصالحها، فتمارس كل منكر في حق الشعب بعد تحريف مبدأ من مبادىء الدين وإدخالها تحت أحكامه بحجة أنه من الدين وهكذا، وبذلك تكون أخطر على الدنيا والدين معاً.

أما الديكتاتورية الوضعية فهي خطر على الدنيا فقط في أغلب الأحيان، وستمر عليك بعض الأحداث والمشاهد في الجزء القادم تعكس لك صحة هذه الحقيقة بوضوح، وعلى أي حال فإن الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها جميعاً هي أن الحكام بشر كسائر الناس يخطئون ويصيبون حتى الدينيون منهم.

وربما تدفعهم المصالح أو الأخطاء الى قمع خصومهم ومصادرة حرياتهم بحجة أنهم يشكلون ضرراً على الإسلام؛ ليكون من واجبهم لحماية الدين والحفاظ على أمن الشعب والدولة والقضاء عليهم بأي وسيلة ممكنة، وربما فسر بعض الحكام الكثير من الآيات والروايات والنصوص الشرعية تفسيراً يخدم أغراضه لكي يجد لانحرافه مخلصاً مقبولاً.

والمصيبة الأعظم أن يستشهد المعارضون كذلك بآيات وروايات أُخرى يستدلون فيها على أن بقاء الحاكم فتنة خطيرة، ومن الواجب القضاء عليه، والعجيب انهم قد يستدلون بنفس الآيات التي يستدل بها الحاكم نفسه على موقفه، وهكذا.

وفي مثل هذا التناقض والالتباس الصريح يأتي دور الرد المنطقي لهؤلاء الذين يرفضون الأحزاب السياسية، وينكرون فضلها في حماية الحريات السياسية للشعب.

إذ من سيكون الحكم الفاصل بين موقف الحكومة وموقف المعارضة؟

ومن هو الذي يحكم بشرعية هذا وبطلان ذاك؟

ومن يقول لهذا أخطأت ولابد أن نقومك، أو معك الحق ونحن معك؟

ومن يحل مثل هذه الخلافات المصيرية بطريق ديمقراطي سليم غير طريق العنف وسفك الدماء؟ وغيرها وغيرها.

والجواب باختصار: أن الذي يفعل ذلك كله وجود أجهزة حزبية معارضة وأُخرى مؤيدة معترف بها، ومع توفر الشرائط الخاصة ووجود مجلس نيابي ممثل عن الشعب يمثل المحكمة العليا الأخيرة التي يمكن اللجوء إليها لدى نشوء مثل هذه النزاعات.

وهكذا نرى أن الطريق الأسلم لضمان الحريات السياسية للشعب هو طريق الأحزاب والتعددية الحزبية.

واقع التنظيم الحزبي

طبعاً نحن عندما ندعو إلى ضرورة التنظيم الحزبي وجعل النظام السياسي الحاكم خاضعاً للمنافسة الحزبية لانعني من ذلك بالضرورة أن ننقل الصورة الحزبية الموجودة في الغرب وندخلها إلى بلادنا كما هي دون تغيير أو تعديل لنكون قد قلدنا الغرب، أو طبقنا الحلول التي يراها الآخرون مناسبة لظروفهم وأوضاعهم وثقافتهم الخاصة، وارتضيناها على علاتها بتعبد مطلق، بل ندعو إلى إيجاد الحلول الصحيحة التي تنسجم مع ظروفنا وحاجاتنا نحن، وتتفق مع أفكارنا وثقافتنا الخاصة؛ إذ من الممكن أن يعمد علماؤنا ومفكرونا إلى دراسة الأزمة العاصفة بالعالم الإسلامي بكل جذورها وتفاصيلها، ثم الخروج بصيغة منطقية معقولة مشتقة من روح الإسلام ومبادئه السامية يمكنها أن تحل محل الطريقة الحزبية التي أوجدها الغرب لنفسه كحل وحيد لأزماته السياسية.

فمن الممكن بشيء من الاهتمام والجدية والتنسيق والمشورة أن نستنبط طريقة خاصة متفقة مع مانؤمن به من آراء وعقائد، ونلتزم به من أخلاق وتقاليد وأعراف نقيم عليها الهيئات والجماعات والتشكيلات السياسية الإسلامية والوطنية في بلادنا، لكي نضمن سير العدالة والحرية والديمقراطية في ظل الإسلام.

والإسلام كمنهج للدين والحياة يحمل في طياته من المرونة والحكمة والواقعية مايجعله قادراً على إيجاد الحلول السليمة لكل المشاكل والأزمات، وخاصة أزمة الحكم والسلطة والحرية السياسية.

من هنا يعتبر الإسلام الأحزاب السياسية في الدولة ضرورة من ضرورات الحياة في كل مجتمع وأُمة لايمكن التخلي عنها أبداً؛ لأن التجارب الاجتماعية لجميع الأُمم والشعوب أثبتت أن كل مبدأ في الدنيا والإسلام منها أيضاً لايحظى بوحدة تامة أو اتفاق مطبق عند التطبيق، بل دائماً ينقسم أصحابه إلى ثلاث فرق:

-فرقة متشددة

-وفرقة متساهلة

-وأُخرى معتدلة

وهذا التقسيم أمر طبيعي في البشر تفرضه أوضاعهم النفسية الخاصة، ولايملي عليهم من الخارج دائماً بالقهر والإكراه حتى لو كان المبدأ واحداً من دون أن يثير هذا التقسيم التنازع والخصام؛ وذلك لأن الخلاف لم ينشأ من الأصول الأولية للمبدأ، بل ينشأ من الوسائل والتطبيق، وخاصة في الأُمم المتقدمة الواعية، وهذا الاختلاف في التطبيق هو الدافع الحقيقي الذي يقف وراء تكوين الأحزاب وتعدد اتجاهاتها؛ إذ كل جهة تسعى لجمع أنصارها ومؤيديها في كتلة جمعية واحدة للعمل من أجل الدعوة إلى أفكارها وإيجاد السبل الكفيلة لتطبيقها في الخارج.

ومن الممكن أيضاً أن توجد في ظل الحكم الإسلامي تجاه تطبيق الاسلام – كما هو موجود بالفعل في اختلاف الآراء الفقهية للفقهاء والمجتهدين – اتجاهات متشددة، وأُخرى تميل إلى اليسر والتساهل، وثالثة إلى المحافظة والاعتدال، وليس هذا بالأمر الجديد على الإسلام، فقد كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُناس متشددون وآخرون متساهلون ومعتدلون تجاه أكثر القضايا والمسائل الاجتماعية والسياسية التي تطرأ على المسلمين، وكان الإسلام يجمعهم جميعاً تحت لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهكذا في حكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

فماذا يمنع إذاً من أن تكون أحزاب إسلامية تضم هذه الاتجاهات في ظل الإسلام والحكومة الإسلامية.

طبعاً ليس القصد من إيجاد الأحزاب هنا أن نسمح مثلاً بوجود حزب شيوعي أو علماني أو حزب يمثل نوعاً من العنصرية، أويفاضل بين الناس على أساس قومي أو طبقي؛ لأن ذلك مما حظره الإسلام وقضى عليه.

ولكن المقصود بالأحزاب هنا هو تكوين الجماعات السياسية الدينية والوطنية المنظمة التي تعمل من أجل صيانة الحاكم المسلم من الانحراف، وحسن توجيهه ومراقبته من أجل التأمين على حقوق المسلمين وصيانة سمعة الإسلام مهما كان اسمها.

وإذا كان في المسلمين من يخاف أو يتردد من كلمة ((حزب)) في ظل الإسلام فلامانع من أن نسميها ((مؤسسة)) أو ((جمعية)) أو ((منظمة)) أو أي شيء آخر؛ لأن المهم في هذا الباب هو أصل الوجود لاوصفه حسب تعبير الفلاسفة إن صح هذا الاستخدام.

وهذا الشيخ عبد الرحمن الكواكبي المتوفي سنة (1902 م) يلخص لنا فكرة الدعوة إلى جمعيات سياسية في الإسلام في كتابه ((أُم القرى)) فيقول فيه:

إن التخلص من الاستبداد السياسي لايأتي إلاّ عن طريق يقظة لعقلية الأُمة عن طريق الدين، ولكن تلك اليقظة لاتأتي إلاّ بعد مضي مدة من الزمن قد تكون أطول من عمر الإنسان الواحد؛ لذلك يجب ربط جهاد الآباء بالأبناء في الجهاد السياسي عن طريق الجمعيات السياسية (2).

ثم يقول: إن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمراً طويلاً حتى يتحقق، وهذا سر ماورد في الأثر من أن ((يد الله مع الجماعة)) وهو سر كون الجمعيات تقوم بالعظائم وتأتي بالعجائب(3).

والسيد الإمام الشيرازي (رحمه الله)  في كتابه القيم (السبيل إلى إنهاض المسلمين) لدى تناوله الأُسس الرئيسية التي تقوم عليها الحكومة الإسلامية بعد التنظيم الحزبي الأساس الثاني الذي تبنى عليه حكومة الإسلام، واصطلح عليه اسم ((التنظيم)) بدلاً عن ((الحزب)) واعتبره من الواجبات الشرعية والحيوية حث قال (رحمه الله): إن التنظيم واجب شرعي وسنة كونية وضرورة حيوية ملحة بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، فالتنظيم أولاً: واجب شرعي، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ونظم أمركم)) (4) والتنظيم هو – ثانياً – سنة كونية، فقد خلق الله سبحانه الكون كله منظماً، وقال تعالى في ذلك: (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْزُونٍ)(5)، وعلى الإنسان أن لايشذ عن القوانين التي تحكم الكون، لأنه عندئذ سيصاب بالانهيار والدمار، والتنظيم هو – ثالثاً – ضرورة حيوية وقوة، وقد قال الله سبحانه: (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ)(6).

أما إذا لم ننظم أنفسنا في تنظيم واسع كبير فسيعترينا الضعف، ويتغلب علينا الأعداء، وإن واقعنا المعاصر خير دليل على ذلك.

فإن المسلمين يبلغ عددهم حالياً ألف مليون مسلم ولكن بلادهم واقعة تحت السيطرة الاستعمارية، فقطعة من بلادهم بيد الشيوعية العالمية، وقطعة أُخرى بيد الرأسمالية العالمية، وقطعة ثالثة بيد الصهيونية، وسائر بلادهم خاضعة لألوان مختلفة من الاستعمار المعلن أو المبطن، وإننا بدون التنظيم لن نستطيع من مواجهة التحديات المعاصرة، ولن نتمكن من الوقوف أمام الشرق والغرب وعملائهما... (7).

وبذلك تظهر ضرورة النظام الحزبي ودوره المهم في صيانة حقوق الشعب وحرياته في مقابل الديكتاتورية والاستبداد السياسي.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

............................................

(1)  انظر حركات ومذاهب في ميزان الإسلام، وإفلاس الأحزاب العلمانية.

(2) راجع كتاب الحرية السياسية في الاسلام: ص 252.

(3) المصدر نفسه: ص 252.

(4)  نهج البلاغة: ج3، ص76، من وصية له عليه السلام للحسن والحسين عليهما السلام.

(5)  الحجر: 19.

(6)  الانفال: 60.

(7)  السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص 38 -39.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12/نيسان/2010 - 26/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م