ملكية الأرض بين الحق التاريخي والقانون الوضعي

زهير الخويلدي

إن الأرض إنما هي ملك أولئك الذين وحدوا بين قواهم للذود عنها

 

احتفل العرب بذكرى يوم الأرض وتعرض البعض من المحللين إلى النكبة وما حل بنا من تفريط وتضييع بفعل الاستعمار والاستيطان والأطماع الخارجية وتذكروا المناطق والأقاليم العربية التي مازالت منهوبة ومستعمرة من دول الجوار في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، وكشفوا عن النتائج الكارثية التي سببها مثل هذا التغافل عن الحقوق التاريخية والثوابت القيمية وأبانوا عن لوحة سوداوية تجاه المستقبل حيث تعم التجزئة ويغيب عن الوعي أي توجه نحو التوحد ويتفرق العرب إلى طوائف وملل.

غير أن الأمر المهمل في كل هذا هو التساؤل عن سبب التقاعس عن الدفاع عن الأرض وعن علة العزوف عن التمسك بالسيادة على الموطن، وهو نقيصة لا يمكن للعقول الباحثة عن الإصلاح والتغيير أن تسقطها من حسابها والطامحة إلى الاستعادة والانتفاض.

من هذا المنطلق حري بنا أن نطرح بأنفسنا مثل هذا المشكل وأن ننقله من دائرة الاستعصاء إلى دائرة الاستمعان ومن وضع الإمهال إلى حال الاستحضار. وقد تسلحنا بالفقرة 19 للفيلسوف المستنير اسبينوزا مقتطعة من الفصل السابع من كتاب السياسة حيث نجد مقارنة لعلاقة الإنسان بالأرض بين حالة الطبيعة والحالة المدنية والتي يستخلص منها ما يلي:لا شيء يمكن امتلاكه والدفاع عنه في الحالة الطبيعية أقل من الأرض ، والمقصود هو أن الإنسان في الحالة الطبيعية يتصرف بكل طواعية في جل ما توفر له الأرض ولا يجد مانعا أمامه يصده وهو قادر على إشباع حاجياته وبالتالي هناك نوع من المشاعية والوفرة والاكتفاء وذلك لغياب مفهوم الملكية نفسه.

على خلاف ذلك ترتفع قيمة الأرض مع الانتقال إلى الحالة الحضرية وتكون المدن ويزيد حب امتلاكها والرغبة في الاستحواذ عليها سواء من أجل الاستقرار فوق مسطحها أو للاستفادة من الخيرات المدفونة في باطنها أو المستفلحة على آديمها. وفي هذا الأمر يقول اسبينوزا: إن الأرض وكل ما يتبعها في الظروف التي ذكرت إنما هي ملك للمدينة ويشير أيضا إلى أن شخص واحد يمكن أن يحتكر ملكيتها إما بالغلبة أو إذا ما فوض له الجميع القدرة على ذلك. ويؤكد على أن المدينة إذا ما تغلبت على هذا الاحتكار الأناني للأرض وشرعت للملكية المشتركة لها فأنها تجني فوائد عظيمة ويعم الخير على الجميع وتنتفي الانقسامات وتزول الرذائل مثل الطمع والسرقة والاستحواذ.

ما يهم من هذه الفقرة وما يمكن الاستفادة منه في تحليل علاقة العرب بأرضهم هو التالي:

- احتباس العرب في المرحلة الإقطاعية وتشتت الملكية وهيمنة فئة قليلة من السماسرة وتجار الألم على الأراضي الصالحة للزراعة والتي تحتوى على ثروات هامة.

- التعامل الرعواني والتقليدي مع الأرض وتعثر التنمية والعصرنة بما يوحي بالبقاء في مرحلة حالة الطبيعة وعدم إدراك مرحلة التمدن اكتساح الحزام القصديري والبناء العمراني في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية للمناطق الخضراء.

- غياب الإجماع والاشتراك في التعهد بصيانة الأرض وحمايتها وهو ما يسهل عملية نقلها وإخفاء هوية المالكين الشرعيين لها.

رأس الأمر أن العرب أضاعوا أرضهم لأنهم:

- لم يوحدوا صفوفهم للدفاع عنها ولم ينظروا إلى تراب أوطانهم على أنه حق مشترك يجب الذود عليه.

- أثبتوا للعالم أنهم لم يعودا في حاجة للاستقرار عليها وباتوا يحلمون بالهجرة.

- تخلوا عن مبدأ السيادة في مقابل توفير لقمة العيش من طرف المستثمر الأجنبي.

الخطأ الكبير الذي اقترفه العرب في حق الأرض أنهم باتوا يتعاملون معها من زاوية ما يمنحه القانون الوضعي وانصرفوا عن اعتبارها حق تاريخي مقدس غير قابل للتفريط مهما كان المقابل ومهما كانت الظروف. ما يبينه اسبينوزا أن أصل الداء في غياب الديمقراطية وعدم تمكين السكان من التمتع والاستفادة من خيرات الأرض التي يسكنون عليها ومساعدتهم على تدبيرها وتعميرها وفلحها وأنسنتها ونراه في ذلك يقول:يجب أن تكتسب الأرض وما يتعلق بها في نظر المواطنين قيمة تقاس بمدى حاجتهم إلى الاستقرار بها والذود عن حقهم المشترك أي عن حريتهم.

إن ملكية الأرض ليست مسالة شخصية أو عشائرية ولا تتوقف على القانون والعرف بل هي مسالة جماعية مشتركة وذات رمزية محفورة في الذاكرة والمخيال ومرتبطة بالثقافة والعقيدة وتصل إلى حد القداسة ولا يجوز التفاوض بشأنها بسهولة والتعاطي معها دون مسؤولية.

لكن كيف نطالب الناس بالدفاع عن أرض لا يشعرون فيها أنهم أحرار ولا يمتلكون في مدنها قيمة المواطنة؟ أليس الإجماع الديمقراطي في تسيير الشأن العام هو المدخل الأساسي من أجل التمسك بمطلب السيادة على الأرض؟ فمتى يفهم العرب أن الدفاع عن الأرض العزيزة والمطالبة باستعادة ماهو مفتك منها يمر لامحالة عبر توفير شروط الحياة الحرة والكريمة فوقها؟

* كاتب فلسفي

.............................

المرجع:

اسبينوزا ، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس. 1999

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 4/نيسان/2010 - 18/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م