الأنظمة الحزبية والأنظمة السياسية

الشيخ فاضل الصفار

إن للأحزاب السياسية ولأنظمة الأحزاب دوراً أساسياً في عمل الأنظمة السياسية الديمقراطية، فالأحزاب السياسية الحرة والتعددية الحزبية هي عماد الأنظمة السياسية، بل هي مرآة للمجتمع وللأجواء السياسية الحاكمة فيه.

فان مهمة الأحزاب السياسية في أي دولة ديمقراطية لاتقتصر على ممارسة السلطة، بل توفير مرآة صافية تعكس الواقع الاجتماعي للشعب.

وإذا أردنا أن نتعلم كل شيء عن سياسية شعب ما وحكومته في بلد ديمقراطي أو ديكتاتوري لابد أن نلاحظ النظام الحزبي فيه؛ لأن في مثل هذا النظام تكمن مرآة الشعب وحكومته.

إن تطور الأحزاب السياسية عدّل كثيراً من هيكلية الأنظمة السياسية، وظهرت آثاره على الطبيعة القانونية والسياسية للحكومات والدول.

فالأنظمة السياسية التي تشهد ساحاتها تعددية حزبية تختلف بها الحياة السياسية عن تلك التي لم تشهد سوى نظام الحزب الواحد، أو النظام السياسي الخالي عن الكيان الحزبي وإن كان يصعب في الحياة السياسية أن نتصور نظاماً سياسياً لاوجود فيه للأحزاب، أو لأي تنظيم داخلي؛ لأن النظام الحزبي يلازم كل نظام سياسي سوى أنه مرة يكون له كيان وتركيبة معروفة، ومرة يكون له واقعية ووجود خفي وساري في بنية الدولة ولكن بدون أن يكون له تركيبة خاصة، كما في حكومات الأسر والقبائل، وعلى أي حال فإن الأنظمة السياسية تنقسم بحسب النظام الحزبي إلى ثلاثة أقسام مهمة هي:

أولا: أنظمة الحزب الواحد

وهو نظام سياسي ظهر في بداية القرن العشرين مع الثورة الشيوعية والأنظمة الفاشية، ثم انتشر في العالم وبالأخص في أُوربا الشرقية، ومن ثم بعض دول العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرز السمات الأساسية التي يتميز بها نظام الحزب الواحد هي:

أ-أنه يتمثل بإقامة ديكتاتورية قوية تستند على آلة الحزب التي تسيطر على الشعب عن طريق فرض التنظيم الحزبي الحاكم وكل عقائده وأفكاره عليه، فهو يؤمن بوحدة الأيدلوجية وبأحادية السلطة.

ب-أنه يؤدي إلى هيمنة الحزب الواحد على مؤسسات الدولة لها، ويقيد الحريات السياسية، فلايسمح بقيام أحزاب وتنظيمات أُخرى إلى جانب الحزب الحاكم، كما لايسمح أيضاً حتى بوجود تيارات يشكلها أعضاء الحزب في داخل الحزب نفسه؛ إذ المطلوب من المواطن أن يعمل من أجل مبادىء الحزب لاغير.

ج-أنه يخضع القوات المسلحة (( جيش، بوليس، وشرطة سياسية كالأمن والمخابرات )) بشكل دائم لإرادة الحزب، وبالخصوص لإرادة قائد الحزب.

وتعتبر أنظمة الحزب الواحد أنظمة خطيرة تعرض الإنسان والحياة الإنسانية كلها إلى الدمار، وأبرز أضرارها هي:

1- ان حكومة الحزب الواحد تكون عرضة للسقوط السريع، وسقوطها يعرض الدولة والشعب الى الفوضى واختلال النظام مدة ليست قصيرة من الزمن؛ وذلك لأن السياسة الديكتاتورية التي تقيم عليها نظام الحكم يفقدها الأصدقاء والموالين فضلاً عن تقريب الأعداء أو تحييدهم، بل غالباً تمارس في حق أبنائها وأقرب الناس إليها سياسة إرهابية عنيفة، فتصفيهم سياسياً أو جسدياً حتى اشتهر عبرها مثل (( الثورة تأكل أبناءها )).

2- كما تعاني دول الحزب الواحد من التخلف والجهل والتأخر العلمي والصناعي، بل وفي المجالات كافة لتحطيمها الكفاءات.

3- اتباع الأساليب السياسية الكاذبة والدجل والنفاق والابتعاد عن الأخلاق والقيم الإنسانية، بل وتسخير القانون والدين وكل مايمكن أن تسخره في سبيل الحكم.

4- التصفيات الجسدية المستمرة وكثرة السجون والمعتقلات واتباع كافة أساليب التعذيب الجسدي والنفسي لغرض إخضاع المعارضة لآراء الدولة.

وقد مرّت بعض مساوىء الأنظمة الديكتاتورية في طيات الكتاب فلا نطيل.

ثانيا: أنظمة الثنائية الحزبية

وتعني وجود حزبين رئيسين يتنافسان على كسب أصوات الناخبين من أجل الوصول إلى السلطة(1)، ويتميز هذا النوع من الأنظمة بأنه:

1-يرتكز على أكثرية نيابية حزبية مستقرة مما يؤدي إلى استقرار سياسي وحكومي في البلد، وحياة ديمقراطية حرة.

2-الصراع السياسي في هذا النظام هو صراع معتدل خال من التطرف والعنف والقمع السلطوي، حيث يطمح كل حزب إلى ضم أكثرية آراء الرأي العام الشعبي إلى صوته للفوز بالانتخابات؛ ولهذا فإن التجربة السياسية لهذه الأنظمة السياسية برهنت على تمسكها ببمارسة سياسة معتدلة قائمة على آلة حزبية معتدلة أيضاً ولو نسبياً، وتعرف الدولة التي تتمتع بوجود الثنائية الحزبية من خلال توفر عدة شروط هي:

أ-أن لايكون لأكثر من حزبين في أي وقت أمل بالوصول للسلطة أو استلام الحكم.

ب-يجب أن يتمكن أحد هذين الحزبين من كسب الأكثرية اللازمة من آراء الجماهير، ويبقى في الحكم من دون أن يعتمد في ذلك على مساعدة حزب ثالث.

ج-يجب أن يتناوب هذان الحزبان على الحكم خلال عدد من العقود.

وأفضل النتائج التي تترتب على هذا النوع من النظام هو أنه يضمن لأبناء الشعب حياة برلمانية يسودها القانون والتنافس الحر على السلطة كما يوفر مجالات واسعة لنمو الكفاءات والتقدم العلمي والتكنولوجي إذا كانت الثنائية واقعية وحرة في نفس الوقت.

ثالثا: أنظمة التعددية الحزبية (2) 

وتعني وجود عدد من الأحزاب السياسية – ثلاثة فما فوق – متقاربة في القوى والقدرات والتأثير على الرأي العام تحول دون حصول أحدها على أكثرية برلمانية دائمة ومطلقة تخوله الاستئثار بالسلطة؛ ولذلك تقيم تحالفاً سياسياً يحفظ التوازن في توزيع القدرة بين الأحزاب، فكل حزب يحظى بمقاعده بقدر ماله سلطة وتأثير في الشعب غالباًً، والنتائج المترتبة عليها تقارب نتائج أنظمة الثنائية الحزبية أو نفسها، وفي بعض الأحيان أحسن.

وعلى أي حال فإن من طبيعة السياسة أن تكون غارقة باستمرار أو في غالب الأحيان في المباراة والصراع الإيجابي الدائم أو الغالب بين القوى السياسية والاجتماعية المتنافسة في الدولة.

وهذا النزاع مما لابد منه في كل مجتمع بشري بعد أن ثبت عدم إمكان توحيد آراء الناس أو مواقفهم في نمط واحد لايقبل التعدد أو التغيير؛ إذ غالباً مايختلف الناس في الوسائل والأساليب والكيفية التي يرونها صحيحة لتطبيق المبادىء والأفكار حتى لو كانت أهدافهم واحدة، ومن هنا تنشأ مهمة الدولة، حيث تنشأ لكبح الصراع الحاد وتهذيب شذوذه والسعي لإيجاد حلول سلمية ومعادلة منصفة تعمل على إقناع كل الأطراف، وإيجاد صيغة مشتركة للتفاهم بينها، وإعطاء كل طرف دوراً أساسياً ملموساً في صنع القرار السياسي من خلال رؤيته وطريقته الخاصة في العمل بعيداً عن الاستبداد والتفرد واحتكار طرف واحد لحق الرأي والقرار، أي وظيفة الدولة تتلخص في تنظيم النزاع وتوجيهه ليحقق الأهداف العليا للشعب بدلاً من أن يكون آلة لقمعه ونشر الفوضى والفساد فيه.

فوجود التوتر والنزاع حالة طبيعية ملازمة لجميع البشر إلاّ ماندر؛ نظراً لسعي كل إنسان لأن يستبد بالآخرين، ويستنفذ كل طاقاته وإمكاناته من أجل تسخير الأشياء لخدمته وخدمة مصالحه بدافع من الطمع والحرص والأنانية، وفي الحديث: (( من ملك استأثر )) (3) والنظام السياسي ينشأ لإزالة هذا التوتر الدائم القائم بين السياسة والدولة وسائر القوى والأطراف العاملة في الساحة.

مقياس الديمقراطية

وبالرغم من أن الأنظمة السياسية القائمة لحل هذا التوتر متعددة إلاّ أن المعيار الذي يمكن أن نتخذه مقياساً لمعرفة النظام السياسي الأفضل هو مدى قدرة النظام على حل هذا التوتر أو الحد منه، والمسألة هنا تصبح مشكلة بنفسها ومشكلة معقدة وصعبة؛ لأن النظام الذي لايتمكن من إيجاد الصيغة المعقولة لرفع الخصام والقضاء عليه يصبح هو في نفسه مشكلة أكبر وأزمة خطيرة أخطر من أصل النزاع؛ لأنه سوف يحول الدول وأجهزتها الحكومية إلى وسيلة لإثارة النزاع وتوسيع دائرته وتنويعه، كالأنظمة السياسية المستبدة فانها وإن جاءت في أصل وجودها تحمل هدفاً سلمياً يطمح لفرض الأمن والقضاء على الأزمة إلاّ أن طبيعة الاستبداد والأساليب التي يتبعها في الحكم هي في نفسها تشكل أزمة أكبر من أزمة الصراع السابق؛ لأنه صراع أكبر وأشمل على المجالات والأصعدة السياسية للشعب كافة.

فلم يبق امامنا إلاّ أن القبول بالحل الديمقراطي الذي يبتني على مجموعة من الأُسس والمقومات التي قد لاتساعد على فرض كل الحل، ولكن بلاشك تمكننا من تحديده أو تجميد أكبره، وعدم مقدرتها على إيجاد معادلة كاملة للسلم بين السلطة والشعب ناشئ من اهتمامها ببعد واحد من أبعاد الإنسان، وهو المظهر الخارجي، حيث وضعت القانون وحمته بالبرلمان وفصل السلطات والتعددية الحزبية، ولم تلتفت في مكافحتها للأزمة الى البعد الداخلي للإنسان، وهو الضمير والوجدان والتهذيب الخلقي؛ ولذلك غالباً ماتتعرض إلى الشطحات الكبيرة وخلق الحروب والنزاعات الدائمة.

وبذلك يبقى الحل الذي وضعه الإسلام لإيجاد العلاقة النزيهة بين السلطة السياسية والشعب هو الحل الصحيح البعيد عن التطرف أو النقص؛ لأنه لايكتفي بتهذيب جوارح الحاكم وأجهزته الحكومية بالقانون والتعددية الحزبية، بل يسري في ذلك ليربّي ضميره ووجدانه، ويدفع في نفسه حب الخير والمحبة والرحمة بالآخرين، وقد تقدم بحث ذلك مفصلاً في الأجزاء السابقة، مع ذلك فإننا سنذكر جملة من أبرز الخصائص الجوهرية المميزة للحكم الديمقراطي لتكون بأيدينا معياراً سليماً يمكننا أن نحكم على أي نظام سياسي أنه ديمقراطي أولاً، وهي:

1-يجب أن يتمتع أبناء الشعب في النظام الديمقراطي بالسلطة المطلقة بواسطة حقوق الانتخاب الحر.

2-يجب أن يكون هناك حزبان سياسيان كبيران على أقل تقدير لإعطاء فرصة للشعب في اختيار المرشحين في انتخابات نزيهة بعيدة عن الفرض والأجواء الضاغطة، وتجري في مواعيد تفصل بينها مدة معقولة.

3-يجب أن يضمن المجتمع الحريات المدنية لكل عضو فيه، وهي تشمل:

حرية القول والصحافة والنشر والتجمع والسفر وتشكيل الأحزاب والمؤسسات بالإضافة إلى الحماية ضد الاعتقال والسجن دون محاكمة عادلة.

4-يجب أن توجه السياسة العامة للدولة نحو المصلحة العامة، وأن تسعى من أجل رفاه الشعب اجتماعياً واقتصادياً وتوفير الحماية والأمن له.

5-يجب على الدولة أن تقيم توازناً منصفاً في السلطة السياسية، فتوزع القدرات ومراكز القرار على جميع الأطراف الموجودة في البلد، وتحتم على الحكام أن يواجهوا دائماً معارضيهم في الهيئة التشريعية (( البرلمان أو المجلس النيابي أو القضاء )).

كما يجب أن يتمكن جميع المواطنين من اللجوء إلى قضاء مستقل عن تأثير السلطة الحاكمة لدى أي نزاع ينشأ بين الحكومة والمواطنين.

6-يجب أن يكون من الممكن إجراء أي تغيير يطلبه الشعب في أي جزء من نظام الحكم حتى عزل الرئيس أو سحب الثقة منه بالأساليب السلمية وبواسطة إجراءات دستورية متفق عليها.

هذه أهم مميزات الأنظمة الديمقراطية، وبدونها لايمكن أن نسمي النظام ديمقراطياً حتى لو تظاهر ببعض ذلك.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

.............................................

(1)  مثالهما اليوم في أمريكا (الحزب الجمهوري والديمقراطي) وفي بريطانيا (حزب العمال والمحافظين).

(2)  يوجد هذا النوع من النظام في سويسرا والدول الاسكندنافية اليوم.

(3)  نهج البلاغة: ج4، ص41، الحكمة 160.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 3/نيسان/2010 - 17/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م