(الكيا).. منبر جوال ومنتدى مفتوح

عراقيون يجدون في حافلات النقل فرصة للتعبير عن آرائهم

عدسة وتحقيق: محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: لم يكد أبو عدنان يدير محرك حافلته حتى استهل الركاب الحديث وفتح باب النقاش وطرح وجهات النظر في بعض المواضيع والشؤون الحياتية المنوعة، وبسلاسة ملفته، تعاقب المتحدثون على الكلام.

ويرى أبو عدنان وهو سائق حافلة لنقل الركاب نوع (الكيا)، إن وسائل النقل باتت أكثر أماكن المتاحة للمواطن العراقي للتعبير عن الآراء في العراق فيقول، "باتت وسائل النقل العامة من ابرز الأماكن المفتوحة التي تشهد تداول وجهات النظر للمواطنين، نظرا للحرية المطلقة في إبداء الرأي، والنقد واو التعليق".

مضيفا، انه اعتاد على النقاشات والسجال الذي يدور بين الركاب في كل انطلاقه جديدة.

وعن طبيعة النقاشات التي يداولها الركاب يشير أبو عدنان لـ(شبكة النبأ المعلوماتية)، "غالبا ما تهتم آراء الركاب بالشؤون ذات الارتباط المباشر بالحياة اليومية، مثل الخدمات أو الأمن أو الاقتصاد أو السياسة بالإضافة إلى القضايا الاجتماعية البارزة".

أحاديث موسمية ونقاشات حادة

من جهته يرى حيدر محمد صالح وهو سائق لحافلة (كيا) أيضا، إن النقاشات تطرح بشكل عفوي في معظم الأحيان، سيما إن المجتمعون لا يعرف احدهم الآخر، فيقول، "دائما ما يسترسل الركاب في طرح وجهات نظرهم أو تعليقاتهم بشكل صريح ومباشر، للتعبير عن همومهم وما يشغل بالهم، عن طريق رصد الحالات السلبية التي تواجه المواطنين بشكل عام، مثل غلاء الأسعار أو الازدحامات المرورية، او أداء الحكومة والأوضاع السياسية".

ويضيف حيدر خلال حديثه مع (شبكة النبأ المعلوماتية)، "اعتقد ان الركاب يغتنمون فرصة تواجدهم مع بعض الغرباء كفسحة للتعبير والتنفيس، حيث تسترسل الأحاديث التي تدور في الاستشهاد والاعتبار بالروايات القديمة والعبر والأمثال، إلا إنها تتحول في بعض الأحيان إلى سجالات ونقاشات حادة، سيما إن تضاربت الآراء، فتتحول الرحلة مؤتمر للخطابات الحماسية يتعاقب على إلقاءها الركاب".

ويختتم حيدر مبتسما، "الجأ حينها إلى رفع صوت المسجل او الراديو لكبح جماح المتبارين، وإنهاء الجدل القائم، خصوصا إنني دائما أفضل عدم الولوج في النقاشات الدائرة تحسبا من الوقوع في المشاكل".

إلى ذلك يلفت السائق كريم عبد الحسن إلى هيمنة الأحداث الساخنة على أحاديث الركاب بشكل يكاد أن يكون موسمي، وحسب طبيعة الحدث السائد، فيقول، "دائما ما تستحوذ على اهتمامات الركاب ابرز الأحداث التي تقع في البلاد، وحسب أولية الحدث بالنسبة إلى المواطن وأهميته، فحاليا تدور اغلب النقاشات حول الانتخابات والقوائم المتنافسة على سبيل المثال، وطبيعة الحكومة التي سوف تتشكل".

ويضيف، "البعض يعبرون خلال حديثهم عن آمالهم وتطلعاتهم، وآخرون يبدون قلقهم وهواجسهم في الوقت ذاته، فيما يتداول البعض تصريحات السياسية بالتعليقات والنقد، أما البعض فيكتفون بالإنصات فقط".

ويشير، "بطبيعة الحال تتقدم الشؤون ذات المماس بالمباشر بحياة المواطن في الحديث، ليعقبها الولوج في تناول إلى القضايا الوطنية والمصيرية بالنقد تارة والسخرية تارة أخرى".

جدل يفضي إلى نزاع عشائري

إلى ذلك ينوه كريم إلى انزلاق بعض الركاب إلى الجدل في الكثير من الأحيان، خصوصا عندما يدور النقاش حول شأن سياسي فيستشهد قائلا، "في إحدى المرات اشتد الجدل بين اثنين من الركاب حول أداء احد الأحزاب السياسية المشتركة في السلطة، فتحول الجدل مشادة كلامية عنيفة كادت أن تكون شجار بالأيدي، لولا لجوئي إلى إحدى نقاط التفتيش العسكرية، حيث أرغمت القوات الامنية نزول احد المتخاصمين من الحافلة، وركوب حافلة أخرى".

ويسترسل كريم مستهزئ، "لكن الأمر لم ينتهي عند ذلك الحد، فبعد ثلاثة أيام حضر خمسة أشخاص لتبلغي ضرورة الحضور إلى مجلس عشائري للإدلاء بشهادتي بخصوص حقيقة الشجار الذي وقع، وهم يحذروني من مغبة عدم الحضور بـ (الكوامة)".

ويضيف كريم لـ(شبكة النبأ المعلوماتية)، "اضطررت إلى المثول في المجلس العشائري(الكعدة) والإدلاء بشهادتي خشية من تداعيات التغيب عن جلسة الفصل".

مشاركة الآخرين أفكارهم وقضاء الوقت 

من جانبه يرى باسم خلف الذي يعمل طبيبا في إحدى مستشفيات العاصمة بغداد في تجاذب أطراف الحديث بين الركاب فوائد كثيرة وبعض المضار أحيانا، فيقول، "النقاشات شيء ايجابي يعكس الطبيعة الاجتماعية للفرد العراقي بصورة عامة، فضلا عن صفته المجاملة والمنفتحة، وهو أمر يحض على الحوار والاشتراك مع الآخرين في رؤاهم وتقبل وجهات النظر المتباينة".

ويضيف لـ(شبكة النبأ المعلوماتية)، "غالبا ما تستغرق فترة النقاشات بين الركاب الفترة الزمنية للوصول إلى الأماكن التي يبتغونها، وهو جزء من ممارسة استهلاك وقت الفراغ الذي يعيشه المسافر أثناء تواجده في الحافلة".

أما احمد مصطفى وهو موظف في وزارة الكهرباء فيحبذ إن يكون الحديث بين الركاب محدودا جدا، وان لا ينساق المسافر في حديثه مع الغرباء، سيما انه قد تعرض لموقف سابق لا يحسد عليه، فيقول، "في إحدى المرات وثناء عودتي من العاصمة العراقية بغداد، فتح احد الركاب النقاش حول الفساد الإداري والمشاكل المترتبة من ذلك، وعند مشاركتي الحديث استشهدت ببعض تلك الحالات في منطقتي، قبل أن انتقد احد المسئولين الحكوميين عن قصور أدائه، فإذا بأحد الركاب ينظر إلي شزرا، ويطالبني بإثبات الدلائل القانونية على صحة ما أقول، حيث تبين إن المسئول الحكومي احد أقاربه، مهددا إياي برفع دعوى قضائية والشكوى عند اقرب نقطة تفتيش، مما اضطرني إلى سحب كلامي والاعتذار لذلك الشخص مصحوبا بشفاعة بقية الركاب لي". وينهي احمد حديثه قائلا، "كانت حادثة محرجة، وعبرة لي لا أتمنى إن يقع فيها غيري".

منتديات متجولة

من جهته يعزو الباحث الاجتماعي والروائي محي الاشيقر في انتشار تلك الظاهرة إلى رغبة المواطن في التعبير عن رأيه، مستغلا ابسط الوسائل المتاحة، كوسائط النقل على سبيل المثال، سيما إن عجز عن إيصال صوته إلى الجهات المعنية".

ويشير الاشيقر لـ(شبكة النبأ المعلوماتية)، "وسائل الإعلام باتت متاحة ومتوفرة، إن كانت عن طريق الإعلام المرئي او المكتوب، إلا إنها في اغلب الأحيان وبحسب الرأي العام لا تعود بالنتيجة المباشرة على هموم المواطن، لذا نلحظ ان المواطن رجلا كان او امرأة دائما ما يكررون مطالبهم شفويا ".

ويعرب الاشيقر عن سعادة معتبرا تلك الظاهرة ضرورة في المجتمعات الديمقراطية، "يعتبر ذلك مظهر يدل على عافية المجتمع، سيما إن النقد او إبداء الرأي المخالف لأداء السلطة كان حتى وقت قريب محرم على المواطن في الأماكن العامة او حتى المغلقة، وهي ممارسة ضرورية ترسخ بين أفراد المجتمع شجاعة النقد والاعتراض والمبادئ الديمقراطية، فضلا عن ثقافة الحوار والقبول بالرأي الآخر".

ويلفت الاشيقر، "أرجو أن  لا أكون في معرض تقديم الدعاية لحافلات (الكيا) الكورية إلا إنها باتت كما يبدو منبر من لا منبر له".

في السياق ذاته يعتبر الأستاذ احمد جويد الباحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث، إن سلوكيات إفراد المجتمع تنسجم مع طبيعة الأجواء والنظام السياسي في البلاد، حيث يقول، "يتمتع العراق بأجواء ديمقراطية ونظام سياسي، تكفل مختلف الحريات العامة والخاصة، فأصبحت حتى وسائل النقل منتديات تبيح لجميع أعضائه دون استثناء المشاركة وطرح وجهات النظر والمناقشة دون أدنى اعترض من احد، أو ترتب عليها مسؤولية قانونية، على عكس ما كان إبان العهد السابق".

ويسترسل جويد في وجهته، " اللافت في الأمر إن ما يحدث في وسائط النقل أشبه بعقد منتديات متجولة، ولكنها تعقد دون موعد أو عنوان مسبق، ويكاد مجمل أعضاءه غرباء عن بعضهم، وحصيلة نقاشاته واتفاقات الرأي النهائية لا تتعدى فترة تفرق المجتمعون، واللطيف أيضا، معظم تلك المنتديات تضم مختلف شرائح المجتمع ذكورا ونساء، وأطفالا أيضا، وبكافة المستويات، وهو شيء يندر تنظيمه في العراق".

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 27/آذار/2010 - 10/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م