شكرا للاحتلال الديمقراطي في العراق

محمد الوادي

الفرق بين تعريف الاحتلال وتعريف الوطنية له وطئة كبيرة في بلادنا العربية على وجه الخصوص، ولكن على ضوء الحالة المتردية للمواطن العربي من الناحية الاجتماعية والاقتصادية وحتى تردي وضعه القانوني والدستوري في بلده فان الكثير من المفاهيم وكثير من المفردات بحاجة الى اعادة تعريف ووضع الامور في نصابها الواقعي.

 ومايحدث في العراق مقارنة مع الدول العربية هي المقارنة الامثل لهذا التخبط في الافكار والمفردات والمصطلحات العربية خاصة المفخخة منها مثل الشعارات الوطنية والقومية بل وحتى الاسلامية. فاذا كانت الوطنية كما يدعي بها معظم الشعب العربي تعني ان يكون الحاكم مزمن لايفصله عن كرسي الحكم الا الموت حتى لو بقي اربعة عقود متتالية !!

 فماذا سيقول المواطن العربي امام الحالة العراقية التي تعيش تحت ظلال " الاحتلال " وقد اصبح خلال خمسة سنوات فقط عندنا اثنين يحملون صفة الرئيس السابق وثلاثة رئيس الوزراء الاسبق ؟ مع ضمان ان اي من هولاء لايستطيع في العراق الجديد ان يعد او يجهز الاجواء لتوريث احد ابنائه لحكم العراق ؟ وهذا الجانب بالذات اصبحت تتنافس به " الجمهوريات العربية " التي من المفروض انها أنظمة في احسن وصف لها لاتورث الحكم.

وفي هذا الجانب الجوهري بالذات ممكن تفهم العداء العربي السافر للتجربة العراقية والقلق منها ومحاربتها خاصة اذا اخدنا بنظر الاعتبار ان العراقيين في كل محطة تاريخية من تأسيس تجربتهم الديمقراطية يسجلون وبملايين الاصوات تدافع غير مسبوق بين كل الشعوب الاخرى، وهنا يمكن تفهم الصحفي الدنماركي غاسمون وهو يطل من قناة الفيحاء الفضائية في وسط بغداد ومن تحت نصب الامة ليصرح نصا وفي ذروة يوم الانتخابات "انظر باعجاب واحترام كبيرين للشعب العراقي الذي يخرج بالملايين للتصويت هذا اليوم رغم ان الصواريخ والقذائف تتساقط هنا وهناك منذ الصباح، ولو حدث ذلك في بلدي الدنمارك وفي صباح يوم الانتخابات لما خرج احد لينتخب رغم ان تجربتنا الديمقراطية عمرها 150 عام ".

 هذا هو صوت المنطق الانساني المحايد يقابله صوت عربي قلق ومرتجف ومتحسر على سقوط صنم وقد تكون مقالة الصفدي في جريدة القدس العربي والتي نقلتها ايلاف مثال حي على حجم الكارثة والانحراف الانساني التي تمر به الامة حيث يخرج قاريء المقالة بنتيجة بشعة تقول " ان 12 مليون ناخب عراقي واكثر من ستة الالاف مرشح هم عملاء للاحتلال!!" مع الاحتفاظ بحق الرد من خلال تذكير الصفدي بانه تجنس بجنسية احد رموز الاحتلال ومقر صحيفته في عاصمة هذا الاحتلال المزعوم لندن وهو نفسه البلد الذي منح بلد الصفدي الى الاسرائيليين وهو بلد وعد بلفور الشهير، مع العلم والتذكير ان قوات التحالف في العراق ليس قوات احتلال استيطاني كما هو الحال في فلسطين فلم يفكر بوش الابن ان يضم مدينة الحلة العراقية الى نيويورك او بغداد الى واشنطن كما هو الحال في القدس ورام الله وغزة مع تل أبيب ويافا وحيفا !!

ان الشعب العراقي هو اكثر الشعوب العربية تحسس من الاحتلال ومن القوات الاجنبية وهذا ليس تعصب بل انها حقيقة تاريخية لذلك الاحتلال الانكليزي لم يعمر في العراق في العشرينات من الالفية الثانية سوى ثلاث سنوات بينما نفس الاحتلال ومعه الفرنسي جلس في بلدان عربية اخرى عشرات العقود واكثر من مائة عام، كما ان الاحتلال العثماني للعراق الذي دام حوالي 400 عام لم يستطيع ان يرضح الشعب العراقي لتقاليده او حتى للغته التركية مع الاشارة الى نجاحه في ترسيخ حكم الاقلية لعقود طويلة ونفس الشيء ينطبق على الاحتلال الصفوي والذي كان متقطع ولم يتجاوز 15 عام وسجل فشل ذريع بان يرضخ الشعب العراقي لاجندته الخاصة.

ويخطيء كثيرا من يتصور بان امريكا لاتعرف هذه الحقائق التاريخية عن الشعب العراقي، فاذا كانت مصالح الشعب العراقي التقت مع مصالح الامريكان في لحظة تاريخية نادرة لاسقاط حكم الصنم فان قوات التحالف وحسب الاتفاقية الستراتجية الامنية مع الحكومة العراقية المنتخبة ستغادر البلد حسب الجدول الزمني الذي يشارف على الانتهاء.

ولكن وفي ظل الحقائق الاقليمية والعربية المحيطة بالعراق فان قوات التحالف زرعت اخطر بذرة في تاريخ المنطقة من خلال ترسيخ العملية الدستورية والديمقراطية في العراق والتي شجعت الشعب العراقي بان ياخذ زمام المبادرة ويصنع الموانع الدستورية والقانونية لمنع تكرار تجربة الصنم الساقط وهذه هي راس الحربة التي تتقدم كل يوم باتجاه التغير الشامل في المنطقة حتى ولو بعد حين.و ستغادر قوات التحالف العراق خلال اشهر معدودة ومنظورة وسيبقى العراق والعراقيون ومعهم تجربة فريدة في المنطقة وسيبقى صوت المواطن العراقي عالي لايخاف او يخشى من حاكم بل لاول مرة في التاريخ العراقي يتوسل الحاكم بالمواطن لاجل انتخابه وهذا هو سر الفوز العراقي، واذا كانت الوطنية المزعومة تعني عودة صنم جديد الى العراق فلا بارك الله بهكذا وطنية مشوهه وبنفس الوقت اذا كان لابد من اختيار بين ديكتاتورية صنمية او احتلال ديمقراطي زائل لامحال، فشكرا للاحتلال الديمقراطي الذي ورثتنا صناديق التصويت والانتخاب الحر بينما كان نظام الصنم الوطني والقومي المزعوم يعد العدة ليورث العراق كله الى ابناء حلا ورغد وقصي وعدي.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 27/آذار/2010 - 10/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م