جلسة للمناقشة..

على جمال الدين ناصف

أعلن لى من قبل مجموعة من الزملاء الاعزاء فى مدينة بورسعيد بأن هناك اتجاه لمجموعة من الاشخاص المهتمين بإحياء التراث البورسعيدى الى تكوين جمعية من الاشخاص من ذوى الرأى - هدفها إحياء التراث البورسعيدى وانهم يقترحوا بأن أكون معهم منضما لهذه الجمعية، فقبلت على الفور وقد تحدد لقاء بالاعضاء المؤسسين لوضع الاطار الفكرى والقانونى لتأسيس الجمعية وكان ذلك فى يوم 16 يناير 2010 الساعة الخامسة مساءا وذلك لقراءة المشروع ومناقشته لتخرج لائحته القانونية للجمعية وأنه فى هذا الشأن قد عهد لخمس من المؤسسين من ذوى الخبرة العالية لوضع لائحة الجمعية، وفى الزمان والمكان المحدد دعونا للاجتماع.

 ولا أطيل عليك عزيزى القارئ، فقد توجهنا الى مكان الانعقاد فى الزمان والمكان وقبل الموعد بحوالى ربع ساعة، وعند الساعة الخامسة لم يحضر سوى واحد من الاشخاص الخمس الذين سوف يتولوا وضع اللائحة الخاصة بالجمعية لاجراء مناقشة حولها وكان قد تأخر عن الحضور حوالى عشرة دقائق، وقد خيل اليه أنه أخطأ اليوم، أو أخطأ الساعة، أو أخطأ المكان، ولكن أعاد قراءة الدعوة فتأكد أن كل شئ من الزمان والمكان صحيح، وبعد ربع ساعة حضر آخر، فتبادلا العجب من عدم حضور الاعضاء فى الموعد المحدد.

 ثم أخذ من تأخر يفتح الحديث ويلقى محاضرة قيمة فى المحافظة على الوقت، وكيف يكون الحال عند الانجليز والالمان والفرنسيين وغيرهم من الشعوب المتقدمة، وأعطى أمثال لما جرى له من أحداث فى هذ الباب وقتما كان فى أوربا، وحاجة المصريين إلى معرفة قيمة الوقت، وقد استغرقت محاضرته القيمة ربع ساعة كان قد حضر خلالها عضوان آخران فاشتركوا جميعا فى الحديث فى هذا الموضوع، وكل يروى نادرة فيه طريقه وقصة ممتعة، وتختتم النادرة أو القصة بضحكات عالية يدوى بها المكان، وتتخلل الضحكات تعليقات على ما يروى. فقد إكتمل عدد الحضور من اللجنة أربعة أشخاص وإعتذر الخامس بسبب زيارة صديق له عند خروجه وكانت الساعة قد اصبحت السادسة والنصف، وقد بدأ النقاش بهل يختار رئيسا للجلسة حتى يتم العمل فى إطار من القانون؟ حيث إنحاز الى هذ الرأى فريق، وأكد بأنه لا بد لكل جلسة من رئيس يدير المناقشة ويأخذ الاصوات، وعارض فريق أخر بحجة أننا يجب أن نكون ديموقراطيين لا رئيس ولا مرؤوس، فكلنا سواسية فى الرأى، ويكفى أن يكون للجلسة (سكرتير) يدون الاراء ويأخذ الاصوات.

 ولا أطيل عليكم أعزائى القراء فقد وافت الساعة السادسة والنصف والجدل على أشده فى الموضوع الخطير..!! وعند تمام الساعة السابعة قد أنتصر الفريق الاول فكان لا بد من رئيس للجلسة. ولكن فقد عرضت مشكلة أخطر من الاولى: هل يختار الرئيس بالسن أو بالاقتراع السرى؟ قال فريق بهذا، وقال فريق بذاك. وكاد يحتدم الجدل على نمط المسألة الاولى لولا أن احد الحاضرين وكان على مقربة منى قال: يختار فلانا ليدير هذه الجلسة، فخجل الاخرون أن يطعنوا فى هذا الاختيار، فسكتوا وكفى الله المؤمنين شر القتال.

 هذا وقد طلب من المقرر أن يقرأ المادة الاولى فى اللائحة المزمع إصدارها فقرأها ونصها " أنشئ بمدينة بورسعيد جمعية تحت إسم جمعية إحياء التراث البورسعيدى.

 فقال (أ): هل يقال " أنشئت " أو"تنشأ " ؟ أظن الاصح أن يقال "تنشأ " لأن الجمعية لم تتكون بعد، فكيف يعبر عن الماضى فيقال " أنشئت ".

 فقال (ب): هذا رأى فى محلة، لأن إنشاء الجمعية مستقبل، والذى وضع للدلالة على المستقبل هو الفعل المضارع والأمر لا الفعل الماضى. فإذا قلنا أنشئت دل على أنها تكونت فى الزمن الماضى، وليس ذلك بصحيح.

 فقال (ج): الفرض فى القانون أن يوضع فى شكل يدل على أن الجمعية أقرته، فواضع مواد اللائحة فرض أن الجمعية إجتمعت وأقرت والبسته ثوبه النهائى ولذلك يوضع فى صيغة الماضى.

 فقال (د): فعلا وأمثال ذلك كثير، فكاتب العقود يقول: فى التاريخ اعلاه قد باع فلان لفلان كذا ثم يمضى البائع والمشترى العقد، وقبل الامضاء كان البيع مستقبلا، ومع ذلك عبر عنه بالماضى.

 فقال (هـ): والذى بدى على وجهه سمات التدين وخلقه الكريم بقولته: ومع هذا فلم تذهبون بعيدا ؟ والماضى يستعمل فى المستقبل كما قال تعالى: " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " فأمر الله هو يوم القيامة وهو لم يأت بعد، وأنما عبر عنه بالماضى للإذان بأنه أمر محقق، أو للتنبيه على قرب مجيئه، وعلى هدى من ذلك، ولما كان تكوين الجمعية محققا إن شاء الله أو قريب الوقوع يعبر عنه بالماضى على سبيل المجاز.

 فقال (و): الأمر أبسط من هذا كله يا سادة، فإذا قلنا "انشئت " أو"تنشأ " لا يترتب على ذلك ضرر، ولا يقدم الجمعية أو يؤخرها، إنما ينهض بالجمعية عملها فى تحقيق غرضها، حققته لا يضرها أنشئت أو تنشأ، وإذا لم تحققه لا ينفعها أنشئت أو تنشأ.

 هنا صاح (أ) محتدا: ولكننا نجتمع هنا بغرض إحياء التراث البورسعيدى ولتأكيد الانتماء لبورسعيد وشعبها ولمصر الغالية، ولا تنسوا أن بورسعيد مدينة الابطال خاضت المعارك ضد الغزاة ورفعت شأن الامة فى حرب عام 1956، وصمدت وهجرت فى عام 1967 وتحملت النكسة، وكانت أول من دفعت بالنصر فى أكتوبر 1973، فأقل ما يجب علينا أن تكون عبارتنا صحيحة لفظا ومعنى، نحوا وبلاغة، وإلا أعطينا مثلا سيئا لإحياء التراث والانتماء للشعب البورسعيدى الباسل.

 الرئيس: أعتقد الأمر أصبح أكثر وضوحا، ولنا أخذ الآراء على " أنشئت " أو" تنشأ ".

 صاح (و): يا ريس حلا للموقف أطرح كلمة بديلة " تكونت " خيرا من " أنشئت " لأن الإنشاء فى اللغة هو الخلق، والخلق يكون من العدم، وليس أفراد وأشخاص الجمعية معدومين حتى يقال فيها أنشئت، إنما هى موجودة مفرقة، فهى تتجمع وتتكون لا تنشأ.

 قال (أ): ومن قال أن التكوين لا يكون من العدم ؟ ففى كتب المتكلمين " أن التكوين إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود.. وفى التوراة سفر أسمه سفر التكوين وفيه حكاية خلق العالم، والعالم قد خلقه الله من العدم.

 حاول (ز): أن يرد عليه فقال معه الرئيس وأخذ منه الكلمة.

 الرئيس وقد بدى عليه حاله من الضجر: أرى أن نكتفى بهذه المناقشة فى هذا الموضوع، وتأخذ الاصوات على ما يأتى: هل نقول أنشئت او تنشأ، أو تكونت أوتتكون ؟

 قال ( أ) رافعا يديه لأعلى وفى إنفعال: لا يا ريس الحق أن نأخذ الرأى:

 أولا: على أن تصاغ الكلمة فى مادة الانشاء أومن مادة التكوين، ثم بعد ذلك نأخذ الرأى: هل نعبر بالماضى أو المضارع.

 الرئيس: وهو كذلك.

 (أخذت الاراء أولا فكان الاغلبية فى جانب مادة الانشاء، ثم أخذت ثانيا فجاءت الاغلبية فى جانب الماضى لتصير الكلمة " أنشئت ".

 الرئيس: إذا ننتقل إلى المادة الثانية.

 صاح أخونا ( أ): لا يا ريس لا تزال هناك مسألة متعلقة فى المادة الاولى على جانب كبير جدا من الاهمية ,

 الرئيس: وما هى ؟

 قال ( أ): إن التعبير " بإحياء التراث " هذا التعبير لا أقبله، وأحتج عليه بكل قوتى، فإنه يدل على أن التراث ميت ونحن نريد إحياءه، فهل كان التراث البورسعيدى ميتا ؟ إنه حى، وكان حيا فى الماضى وسوف يبقى حيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأن الجمعية يتعين عليها تنظيمه وتمنيته ونشره، وأما لفظ الاحياء فلا، وأنا من هنا اسجل حال إذا أصررتم على لفظ احياء فأنني انسحب من الجمعية.

 وهنا قد ساد المجلس صمت رهيب والبعض قد تناول التعليقات الجانبية بصوت غير مسموع.

 حتى تشجع (ج) وقال: فى الوقع أن المسألة لا تحتاج الى كل هذا، فلفظ الاحياء لا يدل على سبق الموت، الا ترى يا استاذ (أ) أن الشيخ الغزالى رحمة الله سمى كتابة الكبير " إحياء علوم الدين " فهل كانت علوم الدين قبله ميته ؟ كلا وألف كلا - إنما أصابها نوع من الركود والجمود، فأراد الغزالى أن يزيل عنها ركودها وجمودها، وأن يعرضها عرضا جيدا يتفق مع ذوق عصره.

 تدخل على الفور(د) مؤيدا ما قال به (ج) ومؤكدا على صحة حجيته.

 الرئيس: نأخذ التصويت على بقاء كلمة إحياء التراث البورسعيدى أو تغييرها.

 أ، هـ، ى ( فى نفس واحد ): لا لا..!!! المناقشة لم تستوف بعد.

 الرئيس: الساعة الان العاشرة والنصف فلنؤجل المناقشة إلى الجلسة القادمة.

 إقترب منى من بجوارى وسألنى ومتى تنتهى مناقشة اللائحة الخاصة بالجمعية؟

 قلت له: فى المشمش...!!!

* بورسعيد - مصر

alynassef@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 21/آذار/2010 - 4/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م