إسرائيل تضع شعارات أوباما على المحك

مجاملة إسرائيل تُظهر انحياز أمريكا المنهجي لها

 

شبكة النبأ: في أقل من ثمان وأربعين ساعة، تحولت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل من روابط لا يمكن خرقها، وفقاً لتصريحات نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، إلى تلك المحفوفة بالمخاطر، حسبما نُسب إلى مسئول أمريكي رفيع المستوى لم يذكر اسمه.

وفي تحليل لهذا الوضع الجديد كتب روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن مقالاً قال فيه: هناك خطر بأن يؤدي هذا المزاج الحاد المتأرجح إلى حجب الإنجاز الكبير الذي حققته زيارة نائب الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط ألا وهو -- التأكيد للإسرائيليين (فضلاً عن العرب والإيرانيين الذين يتعقبون كلماته) بأن إدارة اوباما "عاقدة العزم على منع إيران من امتلاك أسلحة نووية".

السياق

كان الغرض الرئيسي من زيارة بايدن هو تتويج أشهر طويلة من "إعادة" العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى وضعها السابق في إطار عملية أكبر لـ «إعادة توجيه» السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

عندما استلمَتْ الإدارة الجديدة منصبها، كان الدافع وراء سياستها في الشرق الأوسط هو قيام ثلاثة مبادئ:

• أن عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية هي أولوية ملحة، وأن حدوث انفراجة يتوقف إلى حد كبير على قيام إسرائيل بإثبات حسن نيتها من خلال وقفها الكامل للنشاط الإستيطاني، بما في ذلك عمليات الإستيطان في القدس.

• أن إقناع إيران على تغيير مسارها بشأن برنامجها النووي يشكل أيضاً أولوية عالية، وستكون أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي إنهاء عزلة إيران عن طريق الحوار على مستوى رفيع مع القادة الإيرانيين.

• أن الموضوعين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بمعنى أن التقدم في عملية السلام من شأنه أن يزيد احتمالات نجاح الحوار مع إيران.

ويضيف ساتلوف، خلال الأشهر القليلة الأولى من إدارة أوباما وُجد خلل في كل مبدأ من هذه المبادئ: فحول ما يتعلق بعملية السلام، بالغت واشنطن في مطالبتها بوقف المستوطنات الإسرائيلية، وخلقت -- من دون قصد -- طريقها المسدود في الدبلوماسية الإسرائيلية الفلسطينية. ومن ناحية إيران، أكدت الرفوض المتكررة من جانب القيادة في طهران بأن المصدر الحقيقي للمشكلة هو طموحات إيران، وليس عزلة إيران. وفي إشارة إلى الربط [بين الإثنين]، رفض الزعماء العرب -- مثل ملك المملكة العربية السعودية -- جهود الولايات المتحدة الرامية إلى بناء بيئة أكثر ملاءمة لتحقيق السلام العربي الإسرائيلي، بينما حذر هؤلاء الزعماء واشنطن بأن عليها أن تكون أكثر حزماً ضد إيران، وبذلك عبروا برسالة واضحة عن أولوياتهم.

وفي الأشهر الأخيرة، كدحت الإدارة الأمريكية بجد من أجل إصلاح الأخطاء التي وقعت فيها في وقت سابق، باعتمادها على استراتيجية واقعية تضع القضية النووية الإيرانية كنقطة ارتكاز لسياستها في الشرق الأوسط. ويقوم جزء من هذا الجهد على عدول الإدارة عن موقفها المتطرف بشأن المستوطنات والمتمثل بـ "لا لبنة واحدة في القدس" وتحويل التركيز من الصدام بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول قضايا السلام إلى شراكة الولايات المتحدة وإسرائيل حول القضايا الإستراتيجية.

ويتابع ساتلوف، مع ذلك، وفي ضمن هذا الإطار، فلا يزال من المهم أن تقوم الإدارة الأمريكية بخلق دبلوماسية قادرة على أداء مهامها بين الإسرائيليين والفلسطينيين -- ليس لأن مراقبين رصينين يعتقدون بأن انفراجاً يلوح في الأفق على المدى القريب، بل لأن قيام دبلوماسية نشطة ومستمرة تحرم كل من النقاد والرافضين فرصة إفساد [محاولات الوصول إلى تسوية]. وعلاوة على ذلك، تساعد هذه الدبلوماسية على تفرغ الإدارة الأمريكية لكي تقوم بتصعيد وتيرة الإلحاح الدولي حول قضية إيران. وفي الواقع، يجادل البعض بأن حجة الربط قد انقلبت الآن رأساً على عقب، بمعنى أن النجاح الحقيقي في عملية السلام قد يكون ممكناً فقط عندما يُحرَز نجاح في القضية الإيرانية. وثمة من يقول، بأنه عندما تثبت إدارة أوباما شجاعتها وحماستها في منع مسيرة إيران نحو تفوقها الإقليمي، فعندئذ فقط سيكون الإسرائيليون والفلسطينيون على استعداد للمراهنة على واشنطن وتحمل المخاطر الضرورية لتحقيق انفراج حقيقي في مفاوضات السلام.

ويبين ساتلوف، في هذا الصدد أظهر فريق الدبلوماسية الأمريكية برئاسة المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأمريكية لشؤون السلام في الشرق الأوسط جورج ميتشيل، استمراراً ملحوظاً في محاولاته لإقناع السلطة الفلسطينية على استئناف محادثات السلام مع إسرائيل -- وهو مسعى كان ينبغي أن يتطلب أقل من جهود جبارة لنجاحه. وفي النهاية، من شأن المرء أن يتصور أن الفلسطينيين، الذين يتوقون لإقامة دولة فلسطينية، سيريدون إجراء محادثات تحت أي ظرف من الظروف تقريباً. ولكن في عالم "ألِيسْ في بلاد العجائب"* في الشرق الأوسط، العكس هو الصحيح. ففي حين وجدت واشنطن طريقة للتراجع عن موقفها حول إصرارها على تجميد عمليات الإستيطان بالكامل كشرط لإجراء محادثات سلام، وجد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مجرى العملية غير مريحاً، ولا سيما نظراً لتغيير موقفه كلياً، تحت الضغوط، حول رد الفعل الفلسطيني على تقرير غولدستون حول "جرائم حرب" مزعومة في قطاع غزة. وبطبيعة الحال، ففي نهاية الأمر يحتاج عباس إلى المفاوضات أكثر من احتياج إسرائيل لها؛ فالدبلوماسية هي "بطاقة الهوية" التي يستعملها، والتي بدونها بإمكان الفلسطينيين اللجوء إلى زعيم آخر، أو أسوأ من ذلك، إلى الخيار العسكري التي تنتهجه حركة «حماس». ومع ذلك، تمكن عباس من إقناع واشنطن بالعمل بجد لتحقيق ما هو واضح بأن من مصلحته أن يتم عمله -- وهو التباحث مع إسرائيل، حتى لو كان ذلك من خلال البيت الكائن في منتصف الطريق الذي "يأوي" المفاوضات غير المباشرة.

ويتابع ساتلوف، في الوقت نفسه من الصحيح أيضاً القول بأن ثورة هادئة تحدث داخل إسرائيل فيما يتعلق بموضوع السلام. إن الشئ الذي قد ضاع -- وسط التمثيل المسرحي حول رخَص البناء في القدس وعادة إسرائيل على تقديم تنازلات إلى واشنطن بعد أسابيع من طلب إدارة أوباما -- هو أن بنيامين نتنياهو قد قاد الحكومة برئاسة حزب "الليكود" في مياه مجهولة تماماً. ففي خطابه في جامعة "بار إيلان"، أصبح نتنياهو رئيس الوزراء "التصحيحي" الثالث على التوالي الذي يتبنى نموذج الـ "دولتين لشعبين"، مما يودع دعاة إسرائيل الكبرى ويضعهم على هامش السياسة الإسرائيلية، حيث ليس لديهم هناك بطل وطني يتولى رئاسة معسكرهم. وعلاوة على ذلك، فبقراره وقف الإستيطان في الضفة الغربية، التزم نتنياهو بسياسة لم يتخذها أي رئيس حكومة إسرائيلي -- رابين، شارون، بيريز، أو باراك -- منذ اتفاقية أوسلو، وبذلك تراجع عن السياسة الإسرائيلية التي دامت أربعين عاماً والتي رفضت الفكرة القائلة بأن المستوطنات تشكل عقبة أمام عملية السلام. إن النتيجة المترتبة عن ذلك هي أن النقاش الذي يدور في صفوف تيار الوسط الإسرائيلي حول عملية السلام يتركز الآن على: قدرة السلطة الفلسطينية على الدخول شريكة في المفاوضات، ومدى المطالب الإقليمية الإسرائيلية من أراضي الضفة الغربية -- 2 في المائة؟ 4 في المائة؟ 6 في المائة؟ -- وليس على السؤال الأكثر أساسية حول إعادة تقسيم فلسطين الذي من شأنه أن يترك الجانب الآخر مع الغالبية العظمى من أراضي الضفة الغربية في دولة مستقلة، تكون ذات سيادة إلى درجة غير محددة. وبمرور الوقت، سوف يُعترف بهذه التطورات كزلزالية.

وكانت تهدف زيارة نائب الرئيس الأمريكي لإسرائيل إلى "إعادة" تأكيد الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط ألا وهي: الإقرار علناً عن الشراكة الإستراتيجية القوية القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؛ إدخال الدفء و"اللمسة الإنسانية" في علاقة تبدو باردة وبعيدة على المستويات العالية؛ الإعلان من على تربة الشرق الأوسط عن التزام إدارة أوباما بمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية (وبالتالي إسكات المهرجين الذين يعتقدون بأن ما يدور في أروقة الحكومة [الأمريكية] هو إنزلاق نحو سياسة "الإحتواء")؛ ومباركة الإعداد المحرج لمحادثات "القرب" غير المباشرة [للسلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية] التي يؤمل أن تكون مؤقتة والتي قام بإعدادها المبعوث الأمريكي جورج ميتشل. لقد كان بايدن الشخص المثالي للقيام بهذه المهمة: فلديه عقود من الصداقة القديمة مع إسرائيل والتي لم تمنعه، في بعض الأحيان، من إعطاء الإسرائيليين بعض النصائح الصريحة جداً.

ويبين ساتلوف، من لحظة وصوله إلى إسرائيل، قام بايدن بدوره على أحسن وجه كسياسي خبير كما معروف عنه، بذكره كافة الملاحظات المناسبة، وإدلائه بكل التصريحات الملائمة، وإلقائه الخطب التي وضعت الأمور في نصابها الصحيح. ثم جاء بيان وزارة الداخلية التي تسيطر عليها حركة "شاس" حول مخطط البناء في القدس. وعلى الرغم من أن ذلك الإعلان لم يشكل انتهاكاً لقرار وقف البناء في الضفة الغربية ولا ينذر عن بدء أي بناء جديد في المستقبل القريب، كان لغضب واشنطن ما يبرره بسبب توقيت الإعلان عن خطط البناء، والتي يبدو أنه لم يكن لها أي هدف سوى إحراج نائب الرئيس الأمريكي. وعلى الرغم من أن رد فعل الولايات المتحدة -- "إدانة" الأعمال الإسرائيلية باعتبارها مخالفة لروح عملية السلام -- باستخدامها لغة هي أكثر ملاءمة لمذبحة من بيان بيروقراطي، من الواضح أنها عكست الشعور بالغضب العميق في صفوف الوفد الأمريكي. (وعلى النقيض من ذلك، من المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا البيان كان أكثر حزماً إلى حد بعيد مما قاله الرئيس أوباما -- "ما يمكننا القيام به هو شاهداً" -- رداً على الكبح العنيف التي قامت به إيران لقمع المتظاهرين العزل في شوارع البلاد بسبب تظاهرهم ضد الحكومة الإيرانية في حزيران/ يونيو الماضي).

وبعد ذلك بيومين، ألقى نائب الرئيس الأمريكي خطاباً رئيسياً في جامعة تل أبيب كان يهدف إلى التحدث مباشرة إلى الشعب الإسرائيلي. وفي كلمته، كان بايدن يقصد إصلاح التصور القائم لدى العديد من الإسرائيليين -- بغض النظر إذا كان ذلك ما يبرره أم لا -- بأن قرار أوباما زيارة القاهرة والرياض وأنقرة، واستثنائه القدس خلال السنة الأولى من رئاسته، كان قائماً على حسابات بأنه لا يمكن أن يرتبط بعلاقات طيبة مع المسلمين ويقوم في الوقت نفسه بتعزيز علاقات بلاده مع الإسرائيليين. وقد قدم بايدن أداءاً ممتازاً. فقد ألقى كلمة أعادت إلى الذكر [خطابات] بيل كلينتون، حيث أعرب عن تعاطفه مع آلام إسرائيل وأفراحها؛ وذكَّر جمهوره بأن والده قد علّمه بأن الأغيار يمكن أن يكونوا صهاينة (وهي كلمة -- حتى العديد من الناشطين المؤيدين لإسرائيل بدأوا ينؤون بنفسهم عنها هذه الأيام)، واستشهد مراراً وتكراراً بصلة الشعب اليهودي التاريخية بأرض إسرائيل، وبالتالي تصحيح الإنطباع المؤسف الذي تركه خطاب أوباما في القاهرة وهو أن الصهيونية لم تبدأ إلا مع المحرقة.

ويوضح ساتلوف، حول جوهر السياسة تفاخر بايدن بأن إدارة أوباما قد "وسعت -- لم تحافظ، بل وسعت" التعاون في مجال التدريبات المشتركة والدفاع الصاروخي، وكرر التزام الولايات المتحدة بتفوق إسرائيل العسكري النوعي. واتفق مع ما جاء في أطروحة جون ميرشايمر وستيفن والت**، عندما قال أن "الدعم الأمريكي لإسرائيل لا يعني فقط قيام علاقات صداقة، وإنما يعبر عن وجود علاقات تتمثل بقيام مصلحة ذاتية وطنية أساسية من جانب الولايات المتحدة".

وقد تم إقرار ذلك الإحساس حول قيام مصلحة مشتركة بين البلدين من خلال الجزء المهم من الخطاب المتعلق بإيران. فلم يقتصر بايدن على تأكيد إدراك واشنطن بأن إسرائيل "تواجه أكبر تهديد استراتيجي وجودي" يتمثل بامتلاك إيران لسلاح نووي، ولكنه شدد على أن امتلاك "أسلحة نووية من قبل إيران يشكل أيضاً تهديداً لأمن الولايات المتحدة الأمريكية، على المدى القصير والمتوسط والبعيد"، وبذلك صحح بصورة فعالة بيان على عكس ذلك كانت قد أدلت به وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في الشهر الماضي في قطر. وأضاف أن الإستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة للتصدي لهذا التهديد تتمثل باتباع سياسة المنع -- "أن الولايات المتحدة مصممة على منع إيران من امتلاك أسلحة نووية. جملة تامة" -- وبالتالي رفض نائب الرئيس الأمريكي النصيحة التي تأتي من بعض الأصوات "الواقعية" المنادية لاتباع سياسة إحتواء أكثر "معقولية".

ولم يتجنب بايدن عملية السلام، بل على العكس من ذلك، فقد كرس جزءاً كبيراً من كلمته على هذا الموضوع. وعلى الأكثر، كان خطابه قوياً أكد فيه الشراكة القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وكانت النقطة الرئيسية في خطاب نائب الرئيس الأمريكي هي العبارة التي أكد فيها، وسط تصفيق قوي من جانب الحضور، بأنه "من خلال تجربتي، [استطيع القول] بأن أحد الشروط المسبقة الضرورية لتحقيق تقدم هي أن بقية [دول] العالم تعلم... بأنه ليست هناك أي مسافة بين الولايات المتحدة وإسرائيل عندما يتعلق الأمر بالأمن، لا شيء".

بايدن وكلينتون حول نتنياهو

وحول الأزمة المتعلقة بمخطط البناء في القدس، أوضح بايدن بأن حكومة الولايات المتحدة اعتبرت الإعلان عنه بمثابة "تقويض الثقة المطلوبة لقيام مفاوضات مثمرة"، وأوضح أن الرئيس أوباما نفسه قد طلب منه "إدانة هذا العمل فوراً وبشكل لا لبس فيه". والأهم من ذلك، عبر عن "تقديره" للخطوات "الهامة" التي اتخذها نتنياهو في ذلك اليومين لمنع تكرار مثل ذلك الخطأ البيروقراطي الفاضح.

ونظراً لتعليقات بايدن، ليس من غير المعقول أن يعتقد مضيفوه بأن الأزمة قد مرت. وفي الواقع، لم يقل بايدن أن إسرائيل قد انتهكت أي اتفاق مع الولايات المتحدة من خلال الإعلان غير الحكيم عن مخطط البناء في القدس؛ فلم يُشر بأن العلاقات قد تضررت بشدة من جراء هذا الإعلان، كما أنه لم يعد إحياء الطلب حول الوقف الكامل للنشاطات الإستيطانية، بما في ذلك في القدس، التي أربكت الدبلوماسية في وقت سابق. وفي حين قدم بايدن وعداً بأن الولايات المتحدة "سوف تحمّل الجانبان المسؤولية عن أي بيانات أو إجراءات من شأنها أن تؤجج التوترات أو تؤثر على نتيجة المحادثات"، أشار بأن نتنياهو نفسه كان قد قال بأن "جميع الاطراف بحاجة إلى إتخاذ اجراءات بحسن نية، إذا أُريد منح فرصة للسلام". وفي نهاية الخطاب -- وبحلول نهاية زيارة نائب الرئيس الأمريكي -- بدا أن المرارة التي أثارت إدانة غير عادية لإسرائيل قبل يومين من قيام بايدن بإلقاء ذلك الخطاب قد تبددت.

هناك بعض البنود التي تعطي مجالاً للمماحكة مع خطاب بايدن. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أنه قال بأنه "لا توجد مسافة" بين واشنطن والقدس حول القضايا الأمنية، لكن واقع الأمر هو أن لديهما خطوطا حمراء مختلفة فيما يتعلق بالموضوع النووي الإيراني. فكما أشار بايدن، بتكراره تصريحات سابقة أدلى بها أوباما، إن الخط الأحمر للولايات المتحدة هو منع إيران من امتلاك أسلحة نووية؛ بينما يتمثل الخط الأحمر لإسرائيل، كما ذُكر مراراً وتكراراً من قبل نتنياهو وغيره، هو منع إيران من تحقيق "القدرة العسكرية النووية" -- وهو شرط أوسع بكثير من الخط الأحمر للولايات المتحدة. وفي وقت مستقبلي ليس بالبعيد، قد يثير هذا التباين خلافا عمليا بين الجانبين. وإذا ما حدث ذلك، فإن احتمال حدوث نزاع بغيض هو حقيقي.

ويستدرك ساتلوف، لكن الرسالة المهيمنة في خطاب بايدن وفي زيارته برمتها كانت الصداقة الأمريكية الإسرائيلية -- والتي تعارضت مع التنافر المعرفي الذي تمَثَّل بمحادثة من نوع آخر تشبه تلك التي تجرى أثناء "السير نحو مخزن الحطب" أجرتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون مع نتنياهو يوم الجمعة، وتعليقات لاحقة من جانب كبار المسؤولين في البرامج الحوارية في عطلة نهاية الاسبوع. ومن ناحية المصطلحات المعروفة في الشرق الأوسط، فإن توبيخ كلينتون لرئيس الوزراء الإسرائيلي بسبب الإهانة التي ألحقها بنائب الرئيس الأمريكي قد أعادت إلى الأذهان الغضب الفرنسي الذي ظهر عندما قام حاكم الجزائر بضرب القنصل الفرنسي بالمروحة في عام 1827، مما أدى إلى [قرار الملك الفرنسي] بإرسال البحرية الفرنسية لغزو الجزائر مبرراً القيام بالعملية من أجل الثأر لشرف فرنسا والإنتقام من حاكم تلك البلاد مما أدى إلى احتلال واستعمار الجزائر. ولكن في هذه الحالة، لم يكن تهديد كلينتون الضمني هو الغزو بل التصدع في العلاقات. فلم تكتف بتأنيب نتنياهو بشدة بسبب إهانته لبايدن ومخاطرته بالإضرار بالعلاقات الثنائية، ولكن وفقاً لتقارير مختلفة وضعت كلينتون مطالبا محددة التي من الضروري على حكومة إسرائيل القيام بتنفيذها في إطار مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، لئلا تجد نفسها بلا أصدقاء.

وهنا، تحتاج إدارة أوباما إلى التعامل بحذر والتصرف بحكمة وإلا ستخاطر بانهيار كامل لإستراتيجيتها "الجديدة والمحسنة" في الشرق الأوسط. ومن المناسب أن يُطلب من الحكومة الإسرائيلية اتخاذ خطوات لمنع وزراء فرديين من الإعلان عن قرارات ذات أهمية وطنية -- وخاصة مثل تلك التي اتخذها وزير الداخلية من حزب "شاس" إيلي يشاي، الذي من المفترض أنه يتحمل مسؤولية حكومية واسعة باعتباره نائباً لرئيس الوزراء -- وإعطاء معنى إضافي للإلتزامات الإسرائيلية التي كثيراً ما أُعلنت حول التفاوض بحسن نية. وفي جميع هذه القضايا، هناك خطوات معقولة بإمكان حكومة نتنياهو اتخاذها لتبديد وجود أي مخاوف مستمرة في واشنطن حول قيام أزمة ثقة.

وفي الوقت نفسه، تحتاج الإدارة الأمريكية إلى تجنب المطالب التي تقوض الغرض الحقيقي من زيارة بايدن، والتي تبعث الروح من جديد في الأيادي التي امتدت بعيداً خلال الأشهر الستة الأولى من الإدارة الحالية، تلك المطالب التي تشكل تهديداً للأولويات الإستراتيجية المعاد ترتيبها والتي جاءت بمثابة "تصحيح مسار مفيد" لسياسة إدارة أوباما في الشرق الأوسط. وسيكون قصر نظر من ناحية الإدارة الأمريكية إذا ما قامت باستخدام هذه الحادثة كفرصة لمكافأة الفلسطينيين -- الذين هم مع ذلك، لم يكونوا متحمسين لمدة شهور للطلبات الأمريكية لإجراء مفاوضات -- أو قبِلت الحجج الفلسطينية بأن "محادثات القرب غير المباشرة"، بدلاً من المفاوضات المباشرة، هي المحفل المناسب للأخذ والعطاء الموضوعي. وسيكون بمثابة خطأ تحليلي فادح بالنسبة لإدارة أوباما إذا ما اعتقدت بأن هذه الحادثة هي فرصة بإمكانها أن تُعجل نهاية نتنياهو السياسية: ففي النهاية، إن هذه الحكومة -- أو أخرى مع نتنياهو في القيادة -- تشكل انعكاساً دقيقاً للسياسة الإسرائيلية في هذه الأيام.

ويختم ساتلوف بالقول، إن المفتاح للقوة العظمى هو معرفة الفرق بين التفكير بصورة كبيرة والتفكير في نطاق ضيق. لقد كانت مهمة نائب الرئيس الأمريكي في إسرائيل تعبيراً عن التفكير الأسبق. وحتى عندما يؤخذ في الحسبان الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الإسرائيليون والذي شاب زيارة بايدن، من المهم بالنسبة لإدارة أوباما أن لا تسمح لنفسها بأن تتحول عن هذا المسار.

نتنياهو والجانب الأعمى

وكتبَ ديفيد ماكوفسكي مقالا في نفس الأطار بصحيفة نيويورك تايمز قال فيه: "دعت صحيفة نيويورك تايمز جماعة متناقشين على الشبكة العنكبوتية تتكون من سبعة خبراء في شؤون الشرق الاوسط لمناقشة اعتزام إسرائيل توسيع وحدات سكنية لليهود في القدس الشرقية – وهو إعلان صدر خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن لإسرائيل. المقالة التالية هي مساهمة ديفيد ماكوفسكي زميل زيغلر الموقر في معهد واشنطن ومدير مشروع عملية السلام في الشرق الأوسط التابع للمعهد. بإمكانك قراءة المناقشة بأكملها على موقع الصحيفة باللغة الإنكليزية".

أعرب كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الداخلية ايلي يشاي عن أسفهما بأن الإعلان عن بناء 1600 وحدة سكنية في القدس الشرقية قد حدث خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن.

وفي حين يصر المنتقدون بأن هذه الخطوة من قبل نتنياهو كانت تهدف عمداً إلى إثارة غضب إدارة أوباما ويشكّون بأن نتنياهو كان قد فوجئ من إعلان هذا القرار كما يصر، يبدو من غير المحتمل أن يكون اتهام كهذا صادقاً.

ويضيف الكاتب، لقد كان معروفاً على نطاق واسع أن هدف زيارة بايدن كانت لرأب الصدع وتحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بعد مرور فترة من التوتر في العلاقات الثنائية بين البلدين خلال العام الماضي. وفي الواقع، كانت تعليقات بايدن مثالية طربت لها الآذان الإسرائيلية حتى وقوع الحادث. وكانت زيارته تهدف إلى طمأنة مخاوف إسرائيل بشأن التزام الولايات المتحدة لأمن سكانها.

علاوة على ذلك، من المعروف أيضاً بأن زيارته كانت تهدف إلى البحث في مجال آخر من مجالات القلق المصيرية بالنسبة لإسرائيل وهو عمق التزام إدارة أوباما لضمان عدم حصول إيران على قدرات أسلحة نووية. إن العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل وموضوع إيران، جنباً إلى جنب مع احتمال استئناف محادثات السلام مع الفلسطينيين، كانت المواضيع الرئيسية للزيارة التي قام بها بايدن.

ولو حاول نتنياهو إفشال هدف تلك الزيارة الودية لكان ذلك قد شَكَّل عملاً انتحارياً نظراً لمصلحة إسرائيل العليا في كل من تلك القضايا الآنفة الذكر. ولو تم تقويض زيارة بايدن بخطوة مدروسة لكان ذلك قد عطل جهود نتنياهو الرامية إلى تحسين العلاقات مع إدارة اوباما. وحتى أكبر نقاد نتنياهو لم يعتقدوا بأنه تصرف بطريقة أدت إلى نتائج عكسية حتى من ناحية مفهوم إسرائيل الخاص لمصلحتها الوطنية.

ويستدرك الكاتب، لكن هناك درسين يجب الإستفادة منهما في أعقاب ذلك الحادث. لقد كانت تلك هي المرة الثانية التي ادعى فيها رئيس وزراء إسرائيل بأنه لم يكن على علم بإعلان وزارة الداخلية الإسرائيلية التي تمثل جزءاً من البيروقراطية التي يترأسها. وكانت المرة الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بعد اسبوع واحد من حصول نتنياهو على أفضل اجتماع له مع أوباما حسب قوله، وهو اللقاء الذي لم يشارك فيه أي مساعد. وقد أُعلن في ذلك الوقت بأنه سيتم بناء 900 وحدة سكنية في حي "جيلو" في جنوب القدس.

ونظراً للحساسيات السياسية التي تؤطر أعمال البناء في القدس، يجب أن تتركز عملية اتخاذ القرارات المستقبلية حول هذا الموضوع في مكتب رئيس الوزراء. من غير المتصور أن يتمكن البيروقراطيون العاملون تحت إمرة رئيس الوزراء من اتخاذ قرارات لها تأثير كبير على إسرائيل، بينما يبقى رئيس الحكومة متفرجاً. فرئيس الوزراء مسؤول أمام الشعب الإسرائيلي، وبالتالي عليه اتخاذ القرارات.

والدرس الثاني هو حول القدس نفسها. فحتى لو تؤدي جهود السناتور جورج ميتشل إلى خطو خطوات جادة بشأن ترسيم الحدود الإسرائيلية والفلسطينية في الضفة الغربية، فإنه من غير المحتمل أن يتم الإتفاق على وضع القدس في المستقبل القريب جداً. وكما هو عليه الوضع الآن، لم ينجح ميتشل في كسب قبول تجميد بناء وحدات سكنية في القدس الشرقية.

ويخلص الكاتب الى نتيجة، إن المطلوب هو اتخاذ قرار أكثر فعالية من الناحية العملية يتمثل بتوصل الإسرائيليين والفلسطينيين إلى اتفاق لرسم خط أساس قائم على عدم توسع أي من الطرفين في أحياء الطرف الآخر في القدس الشرقية. إن هذا ممكن تحقيقه أكثر من محاولة كسب قبول تجميد بناء المستوطنات، ويمكن أن يؤدي إلى تفادي وقوع حوادث ساخنة في المستقبل.

أفعال وليس مجرد مواقف

وفي 11 آذار/مارس، 2010، خاطب ديفيد بولوك ومارك لينش منتدى السياسة على مأدبة غداء خاصة في معهد واشنطن لمناقشة دراسة الدكتور بولوك المرتقبة، "أفعال، وليس مجرد مواقف: نموذج جديد للعلاقات العربية الأمريكية". الدكتور بولوك هو زميل أقدم في معهد واشنطن ومستشار كبير سابق لمنطقة الشرق الأوسط الأكبر في وزارة الخارجية. الدكتور لينش هو مدير معهد دراسات الشرق الاوسط وأستاذ مشارك في العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن. وفيما يلي خلاصة المقرر لملاحظاتهما".

وقال ديفيد بولوك: تقول لنا استطلاعات الرأي العام ووسائل الإعلام أن العرب كرهوا إدارة الرئيس جورج بوش وعلقوا آمالاً كبيرة على الرئيس باراك أوباما. وفي الواقع، تمتعت الإدارة الجديدة بأغلبية شعبية عربية طوال عام 2009 (حيث حصل الرئيس الحالي ما يصل إلى 50 نقطة مئوية أعلى من سلفه)، في حين تحسنت أيضاً الصورة العامة للولايات المتحدة في الدول العربية بصورة ملحوظة. ومع ذلك يبقى السؤال: ما هو سجل السلوك الفعلي العربي تجاه الولايات المتحدة؟ هذا السؤال هو نقطة انطلاق الدراسة المقبلة، التي تقدم نموذجاً جديداً لفهم العلاقات بين الولايات المتحدة والدول العربية منذ إدارة الرئيس بيل كلينتون – وتركز على الأفعال أكثر بكثير من المواقف.

تشير استنتاجات التقرير التي غالباً ما تكون متناقضة بأن المواقف العربية العكرة تجاه الولايات المتحدة خلال سنوات حكم بوش -- ودَفْؤها لاحقاً خلال إدارة أوباما -- لم يكن لها سوى تأثير ضئيل على السلوك الفعلي للحكومات والجماهير العربية. وتستند هذه الإستنتاجات على جمع بيانات من تسعة عشر بلداً عربياً مختلفاً ومن السلطة الفلسطينية أيضاً على مدى فترة دامت عشر سنوات. وتقيس محصلة "المؤشر السلوكي للعرب" و "مؤشر الإصلاح العربي" الإصلاحات السياسية والإقتصادية الداخلية في الدول العربية فضلاً عن الروابط العربية الرسمية والشعبية مع الولايات المتحدة (على سبيل المثال، مبيعات الأسلحة، وأنماط التصويت في الأمم المتحدة، والتجارة الثنائية، وشراء السلع الإستهلاكية، وإصدار التأشيرات، والتحاق العرب في المدارس الأمريكية). وإذا وضعنا أوجه القصور المنهجية جانباً، فإن الدرس الهام الذي يستخلص من هذه العملية واضح: يمكن أن تكون المواقف العربية والأفعال العربية مختلفة جداً.

ومن المؤكد أن تنامي المشاعر المعادية لأمريكا في العامين الأولين من رئاسة بوش كان لها بعض التأثير على قياس السلوك السياسي العربي، وخاصة في عام 2003. فقد قام عدد أقل بكثير من الطلاب العرب بالتسجيل في مدارس وجامعات الولايات المتحدة، وانخفض إجمالي معدلات التأشيرات بشكل كبير، وتعارضت الأصوات العربية في الأمم المتحدة على نحو متزايد مع الأصوات الأمريكية، وانخفضت مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى المنطقة، بل وحتى إجمالي حجم التجارة الثنائية قد عانى قليلاً، في حين تزايدت الإحتجاجات المناهضة للولايات المتحدة. ومع ذلك، أشارت كل فئة تقريباً عن حدوث انتعاش سريع، وثيق ومطرد – ولكن لم يحدث ذلك في عام 2009 في أعقاب تصريح الرئيس أوباما عن "بداية جديدة"، ولكن خلال فترة رئاسة بوش في الأعوام 2004 - 2005 "التي لم تحظى بشعبية عميقة".

على سبيل المثال، تم الإبلاغ عن حوالي 539 حادث احتجاج عام هام مناهض للولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة في الفترة بين 2000 و 2005، ولكن كانت هناك 132 حادث مشابه فقط في الفترة بين 2006 و 2009. وفي القطاع الإقتصادي ارتفعت الصادرات الأمريكية إلى الدول العربية بعد عام 2003، حيث بلغت 46.3 مليار دولار في عام 2008 مقارنة بـ 18.2 مليار دولار عام 2000 (بالقيمة الثابتة للدولار). وكان هذا النمو مثيراً للإعجاب بصورة خاصة بين العلامات التجارية للمستهلك الأمريكي الذي يمكن التعرف عليها بوضوح مثل "جنرال موتورز" و"كرافت فودز" و"بروكتر وغامبل". وبالمثل، فإن معدلات التحاق الطلبة العرب في الولايات المتحدة قد تخطت الآن النقطة العالية التي وضعت في بداية العقد، في حين ازداد عدد الزوار العرب بصورة مطردة منذ عام 2004.

وتمتعت الولايات المتحدة أيضاً خلال سنوات بوش بتعاون عسكري معزز مع كل بلد عربي تقريباً، وهو الأمر في مجال مكافحة الإرهاب، بدءاً من أصدقاء تقليديين (مثل مصر والأردن وأعضاء "مجلس التعاون الخليجي") إلى بلدان أخرى (مثل الجزائر واليمن). وعلاوة على ذلك، شهدت العلاقات مع ليبيا تحولاً كاملاً، من كونها دولة منبوذة إلى شريك محتمل (وينطبق الشيء نفسه على العراق، ولو بسعر مرتفع جداً).

وهذا لا يعني القول بأنه لم يتم دفع ثمن مقابل السياسات التي اتبعتها إدارة بوش؛ بيد، كانت التكلفة مؤقتة، وفسحت الطريق بسرعة أمام الإهتمام المشترك الذي تقوم عليها العلاقات العربية الأمريكية. وقد أكد الرئيس أوباما في خطابه في القاهرة في شهر حزيران/يونيو 2009، بأن هذه العلاقات يجب أن تكون "مبنية على أساس المصالح المتبادلة والإحترام المتبادل". ولكن الأدلة تشير بأن المصالح هي التي تحصل على الورقة الرابحة بفوزها على الإحترام.

لقد كان لهذا الإستنتاج أيضاً آثار على الإصلاحات السياسية والإقتصادية في العالم العربي، التي يبدو أنها تتعلق قليلاً أو لا تتعلق بسياسات الولايات المتحدة المثيرة للجدل تجاه العراق أو إسرائيل. إن أوج فترة الإصلاح في العالم العربي، خلال الأعوام 2003- 2006 تقريباً، كانت هي أيضاً الفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة أكثر نشاطاً فى الترويج لأجندة الإصلاح في المنطقة. ولكن عندما خفت حدة الضغط الأمريكي المتعلقة بالإصلاحات الداخلية في عام 2006، تباطأ التقدم أو تراجع في كثير من البلدان.

وهناك عدة عوامل تساعد على تفسير هذه الفجوة الكبيرة بين مواقف العرب المضادة للولايات المتحدة -- التي يفترض أنها منتشرة على نطاق واسع -- وبين سلوكهم الفعلي. أولاً، من المهم أن ندرك أن معظم الحكومات العربية ليست مسؤولة أمام جماهيرها. فهي تريد إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وتميل إلى طمس تعاونها المكثف مع واشنطن وراء قناع من وسائل الإعلام المعادية للولايات المتحدة. وعلى المستوى الشعبي، لا ينظر معظم العرب إلى العلاقات السياسية مع واشنطن كعلاقات هامة على المستوى الشخصي. ومن ناحية شراء السلع الإستهلاكية الأمريكية هناك احتمالان: إما أن العرب لا يسمحون للمشاعر المعادية للولايات المتحدة بالتأثير على عاداتهم الشرائية أو أنهم لا يفهمون ما هي المنتجات الأمريكية الأصل.

ينبغي على صانعي السياسات أن يضعوا في الإعتبار هذا التناقض بين المصالح والمواقف عندما يقومون بتحديد الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. وسوف تعمل الحكومات العربية، مثل معظم الحكومات الأخرى، لخدمة مصالحها الخاصة، وسيفعل المواطنون العرب الشيء نفسه.

فيما جاء في مداخلة مارك لينش: إن الرؤية الأساسية وراء البحث "أفعال، وليس مجرد مواقف" هي صحيحة وهامة على حد سواء. لقد اتسمت الكثير من البحوث التي أجريت مؤخراً حول المواقف العربية، ووسائل الإعلام الإقليمية، وآثار الشبكة العنكبوتية على العالم العربي، بأوجه قصور مشتركة: الفشل في توضيح العلاقة بين المواقف والسلوك الفعلي، الذي هو الأساس الحقيقي للعلوم الإجتماعية السلوكية. ولذلك، فإن هذه الدراسة هامة ليست فقط في حد ذاتها، بل أيضاً كبداية لبرنامج بحوث أكبر من ذلك بكثير.

ومع ذلك، ففي مجال العلوم السياسية، يجب على المرء أن لا يقلل من شأن الكتابات الأكاديمية النشطة والنامية بالفعل حول بعض المؤشرات السلوكية المذكورة في هذا التقرير، وخاصة السلوك الإحتجاجي وغيره من مظاهر العداء للولايات المتحدة. وبعبارة أخرى، إن الدراسة ليست بداية من الصفر – فهي في الواقع تنسجم جيداً مع مجموعة متزايدة من المعرفة، ويؤمل أن تساعد على سد الفجوة بين المجالين الأكاديمي وعالم السياسة.

ومن ناحية محتواه، إن هذا التقرير حساس بصورة مناسبة لأوجه القصور المتأصلة في البيانات السلوكية المقدمة. فعلى سبيل المثال، لا يشكل تصاعد الإحتجاجات ضد الأمريكيين، مقياساً "غير ملوثاً" عن الرأي العام العربي، لأنه لا يشير فقط عن تعبئة شعبية، بل أيضاً عن قرار الأنظمة بالسماح لشعوبها [بالنزول] إلى الشوارع. ولذلك فإن استخدام مثل هذه المؤشرات لاستخلاص استنتاجات أكبر هي خطوة من المحتم أن تكون إشكالية.

ومع ذلك، فإن استنتاجات التقرير حول سلوك النظم العربية هي صحيحة إلى حد كبير. إن الفكرة القائلة بأن الأنظمة العربية هي جهات فاعلة واقعية معنية ببقائها على قيد الحياة بصورة أكثر من اهتمامها بالرأي العام قد لا تكون رؤية جديدة، لكنها بصيرة مهمة لكي يُحرص على تعزيزها. يجب على المرء أن يدرك أيضاً بأن هذا السلوك هو دالة على مكانة أمريكا في العالم. ففي عصر توجد فيه دولة عظمى وحيدة، ليس لدى الأنظمة العربية جهة يلجؤون اليها للتعبير عن معارضتهم لسياسة الولايات المتحدة -- ربما باستثناء الأمم المتحدة، حيث يشعرون بالإرتياح بتصويتهم بصورة منتظمة ضد الولايات المتحدة.

إلا أن الإستياء العربي والعداء السافر تجاه السياسة الخارجية الأمريكية على المستوى الشعبي، هي أكثر كثافة ودواماً مما يقترحه التقرير. فالعرب يميزون دائماً بين الشعب الأمريكي وحكومة الولايات المتحدة، ولا يمكن لبعض المؤشرات السلوكية إلا أن تؤكد هذه الحقيقة البديهية. فالزيادة في تأشيرات الدخول ومستويات الطلاب تدل على العودة إلى قاعدة سلوك كانت تبدو في خطر في عام 2003 – وهذه نقطة بيانات مُطَمئِنة ولكن ليست مستغربة تماماً. وبالمثل، إن توسيع نطاق مبيعات السلع الإستهلاكية لا يمثل صدمة – وإن الفكرة بأن السلوك الإقتصادي لا يأتي في أعقاب المواقف الشعبية، هي ظاهرة عامة ليست فريدة من نوعها في العالم العربي. وعلاوة على ذلك، إذا يُنظر إلى هذه الإتجاهات في سياق التغير الذي حدث في سياسات إدارة بوش والتحولات في الإتصالات الإستراتيجية في عام 2006 تقريباً، فعندئذ ربما يكون الدرس المستخلص بأن هناك فعلاً صلة بين السياسة الأمريكية والسلوك العربي. وأخيراً، من ناحية التوعية، لا يحتاج المرء إلى الإختيار بين المصالح المتبادلة والإحترام المتبادل: فالمفهومان يعززان بعضهما البعض.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 21/آذار/2010 - 4/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م