الاقتصاد الأمريكي يضع الرأسمالية تحت مشرط التقويم

 

شبكة النبأ: إن الأزمة المالية الحالية التي تُعاني منها الولايات المتحدة ليست وليدة الثلاث أعوام الماضية، والتي احتدمت آثارها مع تولي أوباما سدة الحكم في الولايات المتحدة، بل إن جذورها تعود إلى إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون، الذي أعلن برامج" تملك المواطنين لمنازلهم"، وأعطى على أثر ذلك تسهيلات ائتمانية جعلت من الجميع أفرادًا وشركات وبنوك يتقدمون للاقتراض من البنوك، ومن ثم كانت هناك عملية هائلة من سحب الأموال أدت في النهاية إلى صعوبة الوفاء بالديون مرة أخرى.

ومن ثم سقوط مؤسسات مالية عملاقة وشركات وبنوك كبرى حتى أنه يتم الحديث الآن عن سقوط أكثر من 100 بنك في أمريكا أعلنوا إفلاسهم.

وهذا ما يتناوله الكاتب موارثي جرينبرج Maurice R. Greenberg في مقالته التي نشرت بعنوان "إنقاذ الرأسمالية الأمريكية Rescuing American Capitalism" في مجلة المصلحة القومية National Interest التابعة لمؤسسة نيكسون للأبحاث ودراسات الأمن القومي The Nixon Center

يُؤكد "جرينبرج" أن هذه الأزمة أثبتت أن الأمن القومي لا يتعلق فقط بالأخطار الخارجية المحيطة بالدولة ولكن أيضًا بالأخطار الداخلية التي تهدد الاستقرار المجتمعي، والأزمة المالية العالمية كانت لها تداعيات خطيرة على الولايات المتحدة جعلتها ترقى لمستوى "الأمن القومي" وخاصة بعد فقدان نصف الأمريكيين لوظائفهم وانهيار مؤسسات عملاقة لها تاريخ اقتصادي طويل بأمريكا وتمثل عصب الاقتصاد الأمريكي. بحسب موقع تقرير واشنطن.

ومن الواضح أن الكاتب من المحسوبين على التيار اليميني الذي يُؤمن بشدة بدور القطاع الخاص وجدارته في التصدي للأزمة بشكل يحافظ على أهم أسس ومبادئ الرأسمالية إلا وهو تحجيم دور الدولة وإفساح المجال للقطاع الخاص، وهذا ما يظهر بشكل كبير من خلال تناوله لتداعيات الأزمة وطرق الخروج منها بحيث أنه فضل القطاع الخاص على الدولة لحل هذه الأزمة. فضلاً عن إيمانه بقوة الولايات المتحدة والتي تكمن في قدرتها البحثية والتكنولوجية جعله ينبه إلا أن عملية تقليص الإنفاق واسعة النطاق التي تطال اليوم كافة مناحي الحياة في الولايات المتحدة نتيجة العجز الكبير في الموازنة التي تواجه الولايات المتحدة، لا يجب أن تصل إلى الإنفاق على البحث العلمي.

جذور تلك الأزمة

يتناول الكاتب الجذور الأولى لهذه الأزمة والتي بدأت منذ إدارة كلينتون منذ ما يقارب من عقد عندما أعلنت برامج " تملك المواطنون لمنازلهم" ومن ثم قدمت حوافز وتسهيلات من قبيل تخفيض المتطلبات الائتمانية التي تقدم إلى المجموعتين العقاريتين العملاقتين "فاني ماي وفريدي ماك" ومن ثم أصبحت الشروط المسبقة لتملك العقارات أكثر مرونة.

وعلى أثر ذلك قامت المجموعتان بشراء الرهن العقاري من البنوك المحلية حتى تحول موظفي تلك البنوك إلى عملاء يستقبلون رسم الخدمة والتنظيم. ومع هذه الممارسة غير الحكيمة أصبح هناك عدد كبير من سماسرة الرهن العقاري الذين دخلوا هذا المجال وقادوا العديد من البنوك الاستثمارية لذلك مثل" ليمان برازر" هذه المجموعة الائتمانية العملاقة التي انهارت بعد ذلك، أيضًا أصبحت القدرة على سداد هذه القروض المتزايدة صعبة في المستقبل.

وبالعودة إلى عام 1999 نجد أن الأخطار الاقتصادية كانت واضحة ولكن لم ينتبه لها أحد، وذلك لأن الإجراءات البديهية التي من المفترض اتخاذها عند منح الائتمان لم تكن موجودة أو بالأحرى ضعيفة، أيضًا البنوك المحلية لم تعد تستثمر في هذه العملية، وظهرت السوق العقارية السوداء، وهذا كله كان يجب أن يقود إلى الوضع الحالي.

الأزمة في عهد أوباما.وكيف تعاملت إدارته معها

ينتقد الكاتب بشدة موقف الحكومة من التعامل مع هذه الأزمة وينتقد خطة الإنقاذ التي اتبعتها الإدارة الأمريكية. والتي رأت أنها المخرج الأساسي والطريق الوحيد على طريق الخروج من هذه الأزمة. ويرى بأن الحكومة الأمريكية قد ارتكبت خطأين أساسيين أولهما، وأخطرهما هو السماح بسقوط مجموعة " ليمان برازر" ، وثانيهما : هو الوفاء بديون مجموعة AIG على شكل إنقاذ مستتر لكل البنوك الأخرى التي توشك على الانهيار.

أولاً: مجموعة "ليمان برازر" هذه المجموعة التي أسست ثروة ونفوذ على مر سنوات عديدة وظلت تنمو أسرع فأسرع، ولكن الشائعات التي تداولات في وول ستريت أدت إلى إسراع من عملية سحب الودائع والاستثمارات ومن ثم بدأت المجموعة بالحث عن مشترٍ لها.

ويؤكد الكاتب على أنه ليس لديه من الأدلة التي تثبت عكس ما حدث أي أنه إذا ما تم الحفاظ على مجموعة " ليمان برازر" فإن السوق المالي كان ليستقر ويهدأ. وإذا لم يتم إيجاد مشترى فإن الحكومة كان لديها خيارات أخرى لعل أرجحها هو تكرار ما فعلته عندما واجهت أزمة مماثلة في عام 1990 عندما كادت مجموعة LTCM أن تنهار. هذه المجموعة التي كان يديرها عالم اقتصادي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد والذي استعان بنماذج متعددة وجديدة لعمل استثماراته، وهذه النماذج كانت جميعها خاطئة.

وفى النهاية، القطاع الخاص هو الذي أنقذ هذه الشركة ولذلك هذا هو التوجه الذي يطرحه الكاتب وهو التوجه إلى القطاع الخاص لحل الأزمة وليس التدخل الحكومي ، فمثلا يتم إيجاد مجموعة مشتريين من القطاع الخاص وهذا بالفعل ما حدث مع التجربة سالفة الذكر حيث كان كلٌّ من " جولدمان ساكس وAIG يريد شراء هذه المجموعة وكان ذلك الخيار هو الأفضل. وفى النهاية، رأى بنك الاحتياط الفيدرالي أن هذا الحل هو الأفضل ومن ثم اقترحه على مجموعة الشركات السابقة المساهمة المالية لإنقاذ مجموعة LTCM ومن ثم تم إنقاذها.

وبالكيفية ذاتها حاولت الحكومة العمل مع" ليمان برازر" ولكنها لم تحاول بالقدر الكفاية . فإذا قامت الحكومة بتقدير حجم ديون "ليمان برازر" لمنعتها من الانهيار ولكن ضخ أموال فيها لم يساعدها على الصمود. وعندما انهارت هذه المجموعة انهار وراءها تباعًا المجموعات الآتية على الترتيب:- جولدمان ساكس ، ومورجان ستانلي، وميريل لانش. فالأموال بدأت تسحب من هذه الشركات وثقة المتعاملين والمستثمرين بدأت في التبدد بسرعة كبيرة. وبعد سقوط هذه المجموعة العملاقة "ليمان برازر" أعلنت الحكومة أنها ستوقف برامج الإنقاذ الحكومي، وأنها لن تنقذ أيًّا من البنوك المعرضة للانهيار، واعتبرت خطوات إعلان الإفلاس من قبل البنوك والشركات المتضررة خطوة أولى على طريق إصلاحها داخليًّا ومساعدتها حكوميًّا. وفى الوقت ذاته الذي أعلنت في الحكومة ذلك، بدأت مشاكل AIGفي الظهور، وهنا قامت الحكومة بالخطأ القاتل الثاني وهو الوفاء بديون AIG على شكل إنقاذ مستتر الهدف منة إنقاذ البنوك الأخرى المعرضة للانهيار، ولم يعرف ذلك إلا عندما صرح وزير الخزانة الأمريكي "هنري بولسون" في مقابلة صحفية. وخلال ساعات من حصول AIG على 85 بليون دولار قامت بتوجيه حوالي 62 بليون دولار بشكل مستتر إلى المقايضة الائتمانية الافتراضية، وجولدمان ساكس حصلت على 14 بليون دولار، وميريل لانش حصلت على 6.2 بليون دولار. والحقيقة أن الحكومة قد استغلت عملية إنقاذ مجموعة AIG كحل لإنقاذ مجموعة بنوك وشركات أخرى وذلك لأنها اعتقدت أن هذه المجموعة كبيرة للغاية على أن تتركها تنهار ومن ثم بمحاولة إنقاذها كانت ستنقذ مؤسسات أخرى كبيرة.

وبالفعل وافق بنك الاتحاد الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية على إعطاء AIG حوالي 85 بليون دولار بمعدل فائدة 8.

5% بالإضافة إلى 2% رسم الدفع المقدم. وبعد ذلك وهنا جاء الخطأ - الذي أودى بالمجموعة في النهاية بدلاً من إنقاذها- بدأ البنك الفيدرالي في أخذ 79.9%، ومن ثم هذه المفردات أضرت بالمجموعة كثيرًا، وجعلت الأمل ضعيفًا في الإبقاء عليها. وفى النهاية، لم يعد لدى البنك الفيدرالي خيار سوى التضحية بAIG لإنقاذ البنوك والشركات الأخرى.

تغيير في الأمور

وهنا يطرح الكاتب توصيات يجب النظر إليها لإصلاح الخلل الأساسي في بنية النظام المالي الأمريكي ومنها:

أولاً: إصلاح النظام البنكي، هذا الاقتراح الذي قدمه مجلسا الشيوخ والنواب الأمريكي، هو اقتراح له وجاهته في ظل هذه الأزمة، وربما ستكون البداية الصحيحة على طريق الخروج من الأزمة.

ثانيًا: لابد من الاستعانة بالخبراء الماليين للنظر فيما حدث من خطأ لأنه لا يجب القفز على البدايات، والتي تطرح تساؤلاً هامًّا، وهو كيف انهار النظام المالي بهذه البساطة ولم ينتبه أحد إلى جذور هذه الأزمة في عهد كلينتون؟ وكيف انهار قبل أن يستطيع أحد فهم كيفية إصلاحه؟

ثالثًا: يجب على الشركات التي تلقت أموال دعم من الدولة أن تقع تحت رقابة هيئة مستقلة غير هادفة للربح، وذلك لتقييم عملها وصلابتها المالية.

رابعًا: أيضًا يجب دراسة الموافقات المطلوبة لصناعة التامين، أيضًا الشركة تكون غير قادرة على بيع التامين إلا بعد موافقة مسبقة من قبل الحكومة على السياسات المعروضة. وكل ذلك موجه إلى الشركات الصغيرة والمشروعات الفردية ولكن ليس للشركات الكبيرة القادرة على الوصول إلى تحليل للمخاطر المالية المتطورة.

خامسًا: يجب الاستفادة من الأصول غير السائلة والتي تشكل عنصرًا أساسيًّا في السلوك المنطوي على المخاطر التي حصلت عليها الشركة. ويؤكد الكاتب بشدة على أنه يجب إدراك أن بنوك الاستثمار التي أصبحت الآن شركات مصرفية- نتيجة لشرائها المصارف التجارية- هي ليست الحل للخروج من الأزمة والدليل على ذلك أنها تلجأ الآن للبنك الفيدرالي لطلب المساعدة وبعضها انهار وأعلن إفلاسه.

سادسًا: يمكن خلق نظام جديد لتوزيع الأرباح فبدلاً من إعطاء المستثمرين توزيعات نقدية فورية، فيقوم بخلق حوافز للموظفين لتكون راسخة على المدى الطويل في الشركة التي يعملون بها حرصًا على بقائها واستمراريتها.

سابعًا: مكافآت كبار المديرين يجب تقليلها، وهذا ما أثار حفيظة إدارة أوباما عندما أعطت دعمًا ماليًّا لبعض الشركات في ظل أزمتها فقام كبار المديرين بأخذ رواتبهم السنوية دون مراعاة منهم للظرف الذي تعيشه شركتهم. وكل هذه خطوات مقترحة لحل الأزمة، ولكن تبقى الخطوة الأولى هي مفتاح تحديد المشكلة.

ويؤكد الكاتب في النهاية مرة أخرى على أهمية القطاع الخاص ومحورية دورة في عملية الإنقاذ وإن ذلك يجب أن يكون بديلاً عن دور الحكومة التي فشلت خطتها للإنقاذ تلك الخطة التي تسببت في إغلاق الأسواق الائتمانية، ومعاناة المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تضم أكبر قدر من العمالة وتمثل العمود الفقري للاقتصاد، وأدت إلى ارتفاع معدلات البطالة بنسبة 10%. ومن ثم صارت الحكومة في وضع حرج، وهنا يأتي دور القطاع الخاص الذي يستطيع محاكاة الدور الذي تقوم بة الحكومة والقيام بأفضل منه، وذلك لأن القطاع الخاص هو الذي يخلق الوظائف ويعين الأفراد وهنا تدور عجلة الاقتصاد مرة أخرى.

وعلى الرغم من إشادته بالدور الذي تلعبه الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم فإنه يحذر من الإفراط في التفاؤل وتجزئة الشركات إلى شركات صغيرة لأن ذلك سيجعلنا غير قادرين على المنافسة في السوق العالمي الذي يتميز بالتكتل الاقتصادي والمنافسة بين الشركات العملاقة، وهناك تجربة عام 1930 لشركة "جلاس ستيجل" والتي انفصلت تجاريًّا عن البنوك الاستثمارية وكان ذلك أفضل تشريع في ذلك العام ولكن حاليًّا هذا لا يناسب متطلبات السوق العالمي والقدرة على الاستمرارية والمنافسة.

وإذا ما استمرت الحكومة في سياسة الدعم المالي والتحفيز الاقتصادي فإنه يجب النظر إلى كيفية إنفاق هذه الأموال، فالأمريكيون بدءوا يتساءلون: "أين تذهب أموالهم وخاصة أن الأزمة مازالت مستمرة "، وهنا يطرح الكاتب مثالاً على مدى الرشادة في إنفاق المال الحكومي وهو" الصين". حيث يرى بأن الصين مثال رائع على كيفية إنفاق الفرد للمال الحكومي بطريقة تعود عليه بمردود اقتصادي. فبكين كانت تعاني من نقص البنية التحتية، وخاصة في غرب البلاد، لذلك استخدمت المال التحفيزي لدعم وتمويل هذه المشروعات العملاقة.

فالصين بالإضافة إلى أنها تملك أفضل بنية تحتية عالمية، أيضًا هي تملك أفضل الطرق السريعة وأفضل المطارات وأسرع القطارات ، وهذا هو طريق أي تحفيز اقتصادي مقترح حيث يجب التركيز على الاستثمار الداخلي لأن هذا يخلق وظائف وأيدٍ عاملة ويخفف من وطأة البطالة على المجتمع وقبل كل شيء فهذه هي الطريقة التي استخدمها "ديكنز" لتحفيز الاقتصاد في الثلاثينيات من القرن المنصرم. وينتقد الكاتب الطريقة التي يتم بها إنفاق المال في الولايات المتحدة والتي جعلت المال لا يراوح مكانه ولا يستثمر لأنه لا أحد يستطيع الموافقة على الطريقة التي ينفق بها ، فهو يرى أن لديهم بنية تحتية بالية ومن الممكن اتباع نهج الصين وضخ الأموال بها، وهنا ستعمل شركات وأفراد ، أيضًا يرى ضرورة تقليل الضرائب.

ويفصل الكاتب بين الأزمة المالية وتداعياتها التي أدت إلى تقليص الإنفاق في كل المجالات، وبين الإنفاق على البحث العلمي والابتكارات والاختراعات في الولايات المتحدة. فهو يشدد على أنه مصدر قوة الولايات المتحدة داخليًّا وعالميًّا وإذا تم تركه فإنه سيذهب لأي مكان آخر لتستفيد منه دول أخرى، ومن ثم تفقد أمريكا أحد أهم مصادر قوتها. أيضًا يشدد على أهمية الإدارة الرشيدة والكفء ودورها في إخراج الشركات من أزمتها، فالشركات مهما كانت كبيرة أو صغيرة إذا كانت تتمتع بإدارة تتسم بالكفاءة والرشادة ولديها فكر ابتكاري ستستطيع مع أشد الأزمات أن تنمو وتزدهر وتتعافى من وطأة الأزمات. ويؤكد في النهاية أن الأزمات التي يعاني النظام المالي في الولايات المتحدة هي ليست بالمستحيلة على التجاوز أو الحل ولكنها تحتاج إلى براعة ومثابرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 20/آذار/2010 - 3/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م