آية المودة وأجر الرسالة الخاتمة

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد الله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:( ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).[1]

آية المودة برهان على صحة مئات الروايات:

وفي الرواية عن الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام) - وعلينا أن نكتشف (الرابط) وعمق (الترابط) بين هذه الآية الشريفة(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وهذه الرواية- الإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام)، يقول: (من زار الحسين (عليه السلام) محتسباً لا أشراً، ولا بطراً، ولا رياءً، ولا سُمعة، محّصت عنه ذنوبه، كما يمحّص الثوب بالماء، فلا يبقى عليه دنس، ويُكتب له بكل خطوةً حَجة، وكلما رفع خطوةً عُمرة..)[2]

ظاهر هذه الرواية؛ أن الإنسان كلما رَفَع الخطوة - أي بمجرد رفعها فقط- يستحق أجر عُمرة، فإذا أكمل الخطوة، أستحق أجر حَجة، أي يُكتب له بكل خطوةٍ كاملة من البداية للنهاية حَجة، وكلما ابتدأ برفع قدمه أي رفع خطوةً كتبت له عمرة.

هذا الأجر العظيم على زيارة سيد شباب أهل الجنة، قد يبدو مستغرباً إلى أبعد الحدود عند غير ذوي البصائر النافذة، فكيف يمكن أن تكون زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) بهذه العظمة، بحيث يستحق زائره على المشي فيها بكل خطوةً حَجة وعُمرة أيضاً؟

زائر الإمام الحسين (عليه السلام) يشيعه جبرائيل وميكائيل

وفي رواية ثانية - وهذه الروايات صحيحة وموجودة أيضاً في كامل الزيارات وغيره والذي اعتبره بعض أعاظم الفقهاء، لفترةً من الزمن، بأجمعه صحيح الإسناد، وبقي على هذا الرأي بعض الأعلام أيضاً وهو الأصح نجدها تصرح بما مضمونه -: (أن الإنسان (إذا خرج) (لو خرج)، إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) فإن جبرائيل يُشيِّعه إلى أن يصل إلى كربلاء، ثم يُشيِّعه إلى أن يصل إلى أهله، ومعه ميكائيل ومعه اسرافيل..)[3]

فهؤلاء الكرام؛ ثلاثة من أعظم ملائكة الله (الكروبيين)، يُشيعون زائر الحسين (عليه السلام) مهما كان، وأنَّى كان، وحيث كان، ومتى كان ذلك..

إن هذه الرواية وأشباهها كثير، وهي تتجاوز المئات ولعلها تبلغ الألوف مما هي متواترة بالتواتر الإجمالي الذي لا ريب فيه، بل لعلها متواترة بالتواتر المضموني، وبعضها صحيح السند، وبعضها حسن السند، وأما الجامع فهو أنها متواترة بالتواتر الإجمالي، فلا شك، في هذه الروايات، وأما الآية الشريفة التي تلوناها، فهي تتضمن معاني عميقة،وواسعة، وشاملة، ودقيقة جداً، وهذه الآية الكريمة تعد من الأدلة العامة والقرائن العامة على صحة أمثال هذه الروايات.

وبعبارة أخرى إن من ثمرات هذه الآية الشريفة؛ ومن نتائج هذه الآية، والدِّقة فيها، وكشف بعض دقائقها، إقامة بُرهان جديد - قرآني قطعي- على صِحَةِ مثل هذه الروايات.

القرطبي: بكت السماء على الحسين (عليه السلام)

فلنتأمل قليلاً في الآية الشريفة، ثم نرى كيف تكون هذه الآية برهاناً قرآنياً قطعياً على صِحة مثل هذه الرواية، وهذه الروايات الشريفة، بل روايات أخرى أيضاً، تكشف عن أبعاد كونية تكوينية ترتبط بالإمام الحسين (عليه السلام)، وشهادته، وما يرتبط به مثل ما رواه القرطبي - وهو من أعاظم علماء السنة: يقول السدّي: لما قتل الحسين بن علي (عليهم السلام) بكت عليه السماء.[4]

هذا ليس كلام علماء الشيعة فقط، بل علماء السنة أيضاً يذكرونه، (بكت عليه السماء، وبكاؤها حمرتها)، ونحن من خلال الآية الكريمة، سوف نُقيم برهاناً بيّناً بإذن الله سبحانه وتعالى، جلياً، واضحاً على صحة، مختلف هذه الروايات التي ينقلها الشيعة، والسنة، سواء الروايات التكوينية مثل هذه الرواية: (أن السماء بكت عليه دما)، أو (كان تحت كل حجر دم عبيط طري)[5] أم الروايات التشريعية: كجواز أكل شيء من تربته للاستشفاء مع أن أكل التراب حرام وجواز التعرض لقطع اليد بل وللقتل في طريق زيارته، أم الروايات التي تذكر أجراً وثواباً عظيماً على زيارته، أو محبته، أو لعن قاتله، أو سقي زائره، أو ما أشبه ذلك.

فلنبدأ بالآية القرآنية الكريمة ولنتأمل فيها، ونتدبر فيها بعض التدبر، لما فيها من الموضوعية، إلى جانب أثبات هذه الروايات الشريفة، وأشباهها أيضاً..

قال تعالى: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)..

(قواعد التجويد) وإغناؤها لـ(المعنى)

أشرنا في بعض البحوث السابقة إلى أن (قواعد التجويد) ليست خاوية عن (المعاني) والدلالات، وليست المفردات - أي المادة فقط - لها معنى، بل الصيغة لها معنى، أي الهيئة لها معنى، وقواعد التجويد لها دلالاتها أيضاً.. ذلك أن (الفعل) له مادة، وله هيئة، فالمادة تدل على معنى، والهيئة تدل على معنى زائد، وقواعد الإعراب من الرفع، والضم، الفتح، والنصب، الجر، والكسر، وغيرها، هذه كلها لها معاني، إضافة إلى ذلك؛ فإن قواعد التجويد أيضاً لها معاني، ودلالات، وليست أموراً جمالية فقط، وإنما هي أمور حقيقية ذات دلالات عميقة.

وهنا تلاحظون: أن في الآية الشريفة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ) أنه يوجد مدّ في هذه الآية في كلمة (لَّا)، ولعل البعض يراه واجباً، ولعل من وجوه وجود هذا المدّ: تأكيد النفي فليست مجرد (لَّا) فحسب، بل هي (لَّا) مؤكدة وذات مدّ، أنت قد تقول: (لَّا)، وقد تقول: (لآ..) والله سبحانه هنا استخدم الآية بحيث جاءت الهمزة بعدها فصار المد لازماً بحيث تضطر حسب القواعد أن تمدّ (لآ)، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)حتى يكون (الاستثناء) بنفس تلك القوة أيضاً (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فقواعد التجويد - حسب تحقيقنا- كل قاعدة فيها، فإن لها معنى، وتفيد فائدة، ولها حكمة، وموقع، ودلالة، والقرآن الكريم كأدق ما يكون في كل شيء، ومنه قواعد التجويد،(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)..

قصة نزول آية المودة وامتحان الأصحاب!

نبدأ بشأن نزول الآية،ثم نتدبر في الحديث: جاء في كتاب (قرب الإسناد) وأيضاً في مصادر كثيرة أخرى:

أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما نزلت عليه هذه الآية الشريفة، خرج وجمع الناس في المسجد، وقال:

(أيها الناس إن الله قد فرض لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدوه؟)

فسكت الناس؛ وهذا امتحان النبي عندما لم يَرَ منهم تجاوباً، لم يقل شيئاً وأعرض عنهم.

وهذا من هوان الدنيا على الله، أن رسول الله، وأعظم خلائق الله، يطلب من الناس شيئاً، والناس يسكتون، ولا نزال نحن الكثير منا ساكتين، هل نحن عملنا بهذا الفرض؟ كلا..وسائر الفرائض؟ كلا.. وإلا لما كانت سامراء، والبقيع لا تزال مُهدَّمة لحدِّ الآن، وإلا لما كان أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يضطهدون في كثير من الدول، ولا نحرك ساكناً، ولا نملأ العالم بالمظاهرات والإضرابات والمقالات والدراسات وغيرها -.

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء اليوم الثاني، وقال: أن الله قد فرض -لاحظوا أنه ليس مستحباً بل هو فريضة- لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدّوه.؟

الناس سكتوا (هل هؤلاء الصحابة الذين يدخلون الجنة كلهم!!)، النبي أعرض عنهم مرة أخرى ودققوا أن إعراض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم يعني إعراض الكون كله عنهم، يعني إعراض رحمة الله عنهم.

وفي اليوم الثالث جاء إلى الناس، وقال: أيها الناس أن الله قد فرض لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدّوه.؟ ومرة ثالثة ولليوم الثالث على التوالي: (الناس) سكتوا ولم يستجيبوا لرسول رب العالمين (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم أن الله تعالى قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)[6] وقال سبحانه:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴿3﴾إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[7]..

وعندئذ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: (هوِّنوا عليكم، لأنه ليس بالذهب، ولا فضة، ولا مطعم، ولا مشرب..) - لا تتصوروا أنني أريد منكم أموالاً فتظنون بها عن رسول الله -.

قالوا: فألقِهِ أذن.

فتلى عليهم هذه الآية الشريفة: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، وهذا هو الامتحان الإلهي.[8]

إن امتحان المال أيضاً، مما يمحص به كل إنسان سواء، الغني أم الفقير، وليس هناك فرق في امتحان المال، ولكن أحياناً أحدنا يُظهر، وأحياناً يُخفي - والعياذ بالله-.

ولنعد إلى الرواية التاريخية فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما تلى على مسامع الناس هذه الآية (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فالناس ماذا قالوا؟

قالوا: أما فهذه فنعم، لقد استسهلوها وعدوها (سهلة) إذ ليس فيها (دفع فلوس)، ولا تضحية بالنفس والنفيس، بل حتى جهد عضلي وبدني، لا يوجد فيها عكس الجهاد في سبيل الله حيث يريق الإنسان دمه، أو يبذل ماله، أو أقصى جُهده العضلي، والبدني.

قالوا: أما هذه فنعم، ثم أضاف الإمام الصادق (عليه السلام): فو الله ما وفّى بها إلا سبعة - فأين (صحابة) رسول الله إذن؟ ومَنْ هم السبعة؟ - سلمان، عمّار، المقداد، أبو ذر، جابر بن عبد الله الأنصاري، ومولى لرسول الله يسمى الثُبيت أو الثَبيت، وأيضاً زيد بن أرقم- فو الله ما وفّى بها إلا سبعة.[9]

ونتوقف هنا توقفين حول كلمة (ما وفَّى) كلمة قديمة، ومصداق قديم، وأخرى جديدة، ومصداق جديد:

البخاري يتعمد ترك الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)

أما المصداق القديم الآخر: فهو البخاري؛ إذ أنه في (صحيح البخاري) -هذا الكتاب الذي يُعدُّ عند أهل السنة من أقدّس الكتب بل أقدس كتاب على مرِّ التاريخ عندهم بعد القرآن الكريم- يروي عن مختلف الناس، ولكنه يتعمد أن لا يروي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ولا رواية واحدة مع أن الإمام الصادق (عليه السلام) إمام عظيم، ومُعلِّم أئمة المذاهب الأربعة، وكلهم رووا عنه.

ولكن البخاري يرى نفسه أنه أكثر منهم تقدساً وفهماً للإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام). أليس هو من قُربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وحفيد رسول الله، وسبط رسول الله قريب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولو فرضنا أن (الْقُرْبَى) يعم جميع المسلمين وهو رأي مُضحك ولو قلنا بتعميم (الْقُرْبَى) وإنه يقصد به قريش كلها، وهو مضحك ومبكي أيضاً، فإن الإمام الصادق (عليه السلام) من (الْقُرْبَى) بلا شك إذ إن حفيد الإنسان، وسبط الإنسان، هما من قربى الإنسان، ولا يستطيع الإنسان أن يتزوج حفيدته، على حسب استدلال الإمام الرضا (عليه الصلاة وأزكى السلام) في القضية المعروفة.

رغم تصريحات الشافعي وأبي حنيفة والذهبي وابن تيمية

الإمام الصادق هو ذلك الذي يقول عنه (أبو حنيفة): لولا السنتان لهلك النعمان..[10] (اسمه النعمان بن ثابت) وكنيته أبو حنيفة.

وهو الذي يقول عنه (الشافعي): ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد (عليهما السلام) علماً، وعبادة، وورعاً.[11]

الإمام الصادق (عليه السلام)، هو الذي يقول عنه الذهبي هذا المتعصب الغريب ضد أهل البيت (عليهم السلام) في الكاشف ما هو مضمونه: (روى عنه - أي عن الإمام الصادق (عليه السلام)- خلائق لا يحصون، منهم ابنه موسى الكاظم (عليه السلام)، وشعبة، وسفيان الثوري، وغيرهم من أعاظم علماء السنة ومالك، ووهب، وحاتم الإسماعيلي، وعبد الوهاب الثقفي، وأبو عاصم، ويحيى بن سعيد الأنصاري)[12] وإلى آخره.

هذا الإنسان العظيم هو الذي يقول عنه أيضاً (ابن تيمية) في منهاج السنة: (هؤلاء الأئمة الأربعة رووا عن الإمام الصادق الأحاديث، كما رووا عن غيره..)[13].

وهذا غيض من فيض من الكلام الطويل عن عظمة الإمام الصادق (عليه السلام)ومكانته السامية وليس كلامنا حالياً حول هذه الروايات، فالإمام الصادق على عظمته التي اعترف بها القاصي والداني، صاحب صحيح البخاري يتعمد ترك الرواية عنه (عليه السلام)، حتى رواية واحدة لا ينقل عنه على الإطلاق.

ويروي البخاري عن الفسقة والقتلة

وفي المقابل نجد أن البخاري يروي عن الفَسَقَة، والمشهورين بالفسق، وعن النواصب، من أشباه (مروان بن الحكم)، الذي قتل طلحة، وهو من أهم أصحاب وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند أهل العامة، الذين يقولون: إذا سب أحدٌ، أحدَ الصحابة فهو كافر.. فهذا قد قتل صحابياً من أعظم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندهم.

لكن البخاري يروي عن مروان - ولاحظوا مروان مَنْ هو؟ إن مروان بن الحكم هو الذي يقول فيه ابن حبّان، وغيره: معاذّ الله أن نحتجَّ بخبر رواه مروان بن الحكم- لاحظوا أعاظم علماء أهل السنة يقولون: معاذّ الله أن نحتج بخبر رواه مروان، ولكن البخاري يروي عن مروان، وهذا تراه في الجرح والتعديل، وفي سِيَر أعلام النبلاء، وتهذيب التهذيب، وغيرها من الكتب المختلفة.[14]

وأنقل لكم رواية ينقلها (الذهبي) هذا المتعصب، ضد أهل البيت (عليهم السلام) لكنه مع ذلك يقول: عن عمرو بن أبي مقدام قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمتُ أنه من سُلالة النبيين، قد رأيته واقفاً عند الجمرة (العقبة) يقول سلوني، سلوني..)[15]

والروايات كثيرة في هذا الحقل، ولا أُطيل عليكم حالياً.. فالإمام الصادق (عليه الصلاة وأزكى السلام)، الذي مودّته مفروضة في القرآن الكريم (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، يتعمد البخاري أن لا يروي عنه رواية واحدة، كما لا يروي عن الإمام الباقر (عليه السلام)، إلا رواية واحدة أو روايتين فقط..

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاصم صاحب البخاري يوم القيامة!

والآن لنتصفح صحيح البخاري، كي نرى ما الذي يحكم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على البخاري، بتصريح البخاري نفسه، أي أننا نَزِن ونقيس (عمل البخاري) وموقفه على ضوء رواية ينقلها هو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الرواية نقرؤها في (كتاب البيوع الباب 106، وباب: أثم من باع حرّاً)..

هذا البخاري يقوم بمحاكمة نفسه وإدانتها شر إدانة، من حيث يدري أو لا يدري، لنر ماذا يقول؟ إنه يروي حديثاً قدسياً، قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة... (مَنْ هو الثالث)؛ ورجلاً استأجر أجيراً فاستوفى منه (أي العمل) ولم يعطه أجره).[16]

تصوروا شخصاً استخدم إنساناً، وقال له: تعال ابن لي هذا الجدار مثلاً... ثم مضى، يوم، يومان، شهر، شهران، ولم يعطه أجره أبداً فمن خصمه يوم القيامة؟ إنه الله سبحانه وتعالى، على عظمته، وجلال شأنه، فما بالك بمن لم يعط (أجر الرسالة) وهو (أجر) بصريح الآية الكريمة، وأي أجر هو؟ وما أعظمه من أجر! وهو أجر للرسالة الكبرى التي حملها على عاتقه أعظم أنبياء الله، إنه (المودة في القربى).

ثم لاحظ أي نُصْب وعداء يكمن في تعمد ترك حتى رواية واحدة عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي روى عنه الكل وملأت رواياته الخافقين وفي كتاب رواياته بالآلاف ويروي عن البر والفاجر ثم هو لا يروي عن سيد الفقهاء ومنبع الروايات؟!

هذا هو التوقف الأول في هذه الآية الشريفة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)

مرجع الضمير في (عليه أجراً)

ولنتسائل عن (الضمير) في (قل لا أسألكم عليه أجراً) فلمن يعود هذا الضمير؟ (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا).

الجواب: أنه يعود إلى (البلاغ)، وبتعبير بعض المفسرين إلى (الرسالة)، وأنا أعبِّرُ بالبلاغ كي يتم التطابق بين الضمير، ومرجعه، والنتيجة واحدة، وبعض الروايات تقول مرجع الضمير (النبوة)، والنتيجة واحدة، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء برسالة من السماء، في المقابل يريد أجراً بنصِّ القرآن الكريم، فالذي لا يُعطي الأجر فهو خائن للرسالة بنص روايات أهل السنة.

فإن هذه الرواية التي نقلها البخاري، تكشف بوضوح عن أجلى مصداق لها وهو: (من لم يعطِ أجر رسالة الرسول في مودّة قرباه فهو خائن) بل إننا لا نحتاج إلى نص هذه الروايات، لأن الآية صريحة في ذلك (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فلو لم تودّ أولئك الأطهار وهم (قربى) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تكون قد خنت الأمانة ولم تدفع ما كان ينبغي أن تدفعه كأجرٍ للرسالة..

ما هي (الرسالة)؟

ولكن (الرسالة) وهي مرجع الضمير في (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أو فقل مرجع الضمير هو (إبلاغ الرسالة)، فأية رسالة كان يجب على الرسول إبلاغها؟ وقد جعل الله أجر إبلاغها (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ما هي؟ دققوا جيداً، الرسالة هي:

أ- التوحيد؛ هذه أهم قضية في رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن (كلمة لا إله إلا الله خفيفةً على اللسان ثقيلةً في الميزان)[17] (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) على إبلاغ التوحيد، والجهاد في سبيل إعلاء راية (لا إله إلا الله) على العالم.

فمَنْ الذي أتى لنا بالتوحيد الخالص؟ وعرّفنا على الله سبحانه وتعالى؟ إنه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لا يسألنا على إبلاغ هذه الرسالة - وما أثقلها، وأعظمها من رسالة- (أَجْرًا) (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فأي (أجر) يمكن أن يعدل هذه الرسالة التي تتضمن التوحيد؟

ب- وهذه الرسالة تتضمن فيما تتضمن (الإمامة) والسيدة الزهراء (عليها الصلاة وأزكى السلام)، تقول: (وإطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة..).[18]

ج- وهي تتضمن فيما تتضمن العدل (بالعدل قامت السموات والأرض).[19]

د- وتتضمن فيما تتضمن كل الأعمال الصالحة(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).[20]

مَنْ الذي دّلنا على الإيمان، ودّلنا على العمل الصالح؟ إنه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وما هي عاقبة إيماننا وعملنا الصالح، إنه واضح بقوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ)[21]، وإلا لكانت عاقبة أمرنا (النار) لا سمح الله.

إن هذا البلاغ العظيم: بالتوحيد والنبوة والإمامة والعدل والعمل الصالح، قد أتى به الرسول لنا، وهذا هو الذي يريد الأجر عليه.. إنه يريد بأمر الله الأجر على ما هو أعظم من كل شيء وهو الرسالة وعلى ما ينتج من المثوبة ما لا يعدله شيء وهي(وَجَََََنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُِ) أي إنه يطالب بـ(مودة ذي القربى) كأجر لما هو في الموضوعية لا يوزن به شيء ولما هو في الطريقية لا يعد له شيء.

إذن جاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ(التوحيد، والنبوة، والعدل، والإمامة، والمعاد وتوابعها) الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جاء إلينا بكل هذه القيم والمعاني، أي أصول الدين، وفروع الدين، من العبادات، والمعاملات، والأخلاق، وغير ذلك، وهي إضافة إلى قيمتها الذاتية وكونها مما يطلب لذاته، ذات قيمة إضافية كونها الطريق الوحيد للخلود في النعيم المقيم، وفي المقابل يريد (أجراً).

فما بالك بمن لا يدفع الأجر.؟ ولا يود الرسول في قرباه؟! وما بالك بمن يعرض عنهم؟ ويهمل أمرهم ويفضل عليهم غيرهم؟

بل ما بالك بمن ينسى ظلامتهم، فينسى البقيع وينسى الذود عن حريمهم؟ وينسى أو يهمل أو يتكاسل عن إيصال صوتهم وحبهم وولايتهم للعالم كله؟!

أجر (الرسالة) يجب أن (يوازنها)

والسؤال؛ ألا ينبغي أن يكون هنالك تجانس وتناسب بين الثمن والمثمن؟

لا شك في ذلك؛ فإذا كان هذا المنزل تريد بيعه لشخص بدرهم، والحال أن ثمنه مليون درهم أو دينار على سبيل المثال، فهل هناك تناسب بين الثمن والمثمن؟! كلا.

لابد أن يكون هناك تناسب، وتجانس بينهما وإلا كان البيع غررياً وسفهياً وباطلاً في هذه الصورة.

وفي الآية الشريفة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) المثمن (ما هو)؟ إن المُثمن هو: كل ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبلغه للناس، إن المثمن هو رسالة رسول الله، إن المثمن هو التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد، والجنة، وطريق السعادة، وإبعادنا عن طريق الشقاء، والنار.. وفي المقابل.. أي شيء يريد منا؟ يريد منا الأجر المحدد في الآية الكريمة.. وهو (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)..

وقد سبق أنه ينبغي بل يجب، أن يكون الأجر عندما يوضع في الكفة مما يوازن المؤجر عليه، هذا الذي توازن به الرسالة ليس (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) بنص القرآن الكريم (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) فلابد أن يكون هنالك تناسب، وإلا كان لغواً وباطلاً، وخلاف الحكمة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فأي معنى عظيم تتضمنه هذه الكلمة؟

إنها (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) التي البخاري وأشباهه ضربوا بها عرض الحائط، ولا يزال الكثير من المسلمين يضربون بها عرض الحائط، ويا للأسى.. ويا للأسف..

الفرق الشاسع بين (اجراً) و(من أجر):

وقد تأملت قليلاً- ذلك لأن القرآن جداً دقيق في كل كلمة من كلماته، وفي كل حرف، بل في كل مدّ، ووقف، وسكون، توجد دلالة - فلاحظتُ أن القرآن الكريم، هنا يقول: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)..ولكن عادةً في الآيات الأخرى يقول(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)[22] هنا يقول (أَجْرًا) ، وهناك (مِنْ أَجْرٍ) وهذا وارد في مواطن عديدة في القرآن الكريم.[23]

القرآن الكريم عادة يأتي بكلمة (من) عندما يتحدث عن الأنبياء وطلب الأجر والأجرة، أما هنا فإننا لا نجد كلمة (من) وإنما (أجراً) مباشرة.. فقط.. ما هو السبب في ذلك؟ ولنستعرض بعض الشواهد أولاً، فقد جاء في سورة الشعراء وفي عدَّةِ مواطن، منها (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿105﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿106﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿107﴾ َاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿108﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا لَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)[24]

لماذا قال (من أجر)؟

لأن غير الله سبحانه لا يستطيع أن يعطي (الأجر) كله، والمقدور لهم هو (من أجر) ومع ذلك لم يطلب منهم ذلك وهذا ما سنوضحه بعد قليل بإذن الله تعالى - لاحظوا هذه الآيات تكررت عدة مرات، مرة حول نوح، وبعد ذلك، الآية هذه تتكرر في الآية 145، ثم الآية 172، ومع نبي الله صالح  (عليه السلام) يجري نفس الكلام يقوله النبي صالح (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ثم نبي الله لوط  (عليه السلام) الآية 164 نفس الكلام يقوله، ثم نبي الله شعيب  (عليه السلام) في الآية 180 نفس الكلام يكرره، وحتى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في آية أخرى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[25]

هنا كلمة (من) تتكرر (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) في الأنبياء السابقين وحتى بالنسبة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في آية أخرى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿56﴾قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا )[26]

وسنبدأ أولاً بالسبب في استخدام (من) في تلك الآيات الأخرى.. لاحظوا التشدُّد في استخدام كلمة (من) في كل هذه الآيات، وترك كلمة (من) في هذه الآية وفي آية ثانية فقط.. فلماذا القرآن الكريم استخدم (من) في تلك الآيات وحذفها هنا؟

لابد من سر كامن وراء ذلك وقد يستظهر أن السبب في استخدام (من) هو أنه: يستحيل على الإنسان أن يدفع أجر الرسالة لأي رسول من الرسل، لأن الرسالة تتضمن (التوحيد) فمَنْ يستطيع أن يدفع أجر التوحيد؟ والتوحيد لا يعادله شيء، ثم (النبوة، والإمامة) ثم (المعاد والجنة)، الجنة هل يعدلها شيء؟

نحن مهما نعطي لله، مهما نعطي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل يعدل شيء من ذلك، الجنة التي فيها (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) والتي سوف نخلد بها إنشاء الله إلى ما لانهاية.؟!

معاني (من) ودلالاتها:

ولذلك يقول (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) لأن الأجر لا تستطيع أن تدفعه، بل (جزء الأجر) هو الممكن تسديده وإعطاؤه، ولكن مع ذلك (لا أسألكم) أيضاً حتى هذا الجزء المقدور لكم.. بل حتى المتيسر منه لكم.. لاحظوا كيف أن المعنى دقيق (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ، أي جزء الأجر.. ذلك أن (من) هنا تبعيضية لأن (من) على أقسام:

فمنها (من) التبيينية كقوله تعالى:( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)[27] (من) هنا التبيينية، أو البيانية وهي التي يقع (أي) مكانها أو حسب تعبيرهم (الذي)، أنا أعبر (بأي) لأنه أسلس وأسهل (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) ضعوا مكان (من) (أي)، فاجتنبوا الرجس أي الأوثان هذه هي (من) التبيينيه، والنحويون عادةً يعبّرون عنها: بأنها التي يحلّ محلها (الذي) (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، ولكن (أي) أوضح..

ومنها (من) النشوية كقوله تعالى (خلق منها زوجها) على أحد الإحتمالين.

ومنها (من) التبعيضية وهي التي يقع محلها (بعض)، تقول: أخذت من الدراهم؟ يعني بعض الدراهم وهنا في الآية (من) تبعيضية (وما أسألكم عليه من أجرٍ) يعني بعض الأجر، لماذا؟

ثلاثة أسباب لاستحالة إعطاء أجر الرسالة

السبب الأول:

لأن (كل الأجر) مستحيل أن تدفعه، لأنه خارج عن حيطة قدرة البشر، ولكن تستطيعون دفع بعض الأجر، ومع ذلك لا أسألكم هذا البعض من الأجر.

واللطيف في الآية الشريفة أنها تنفي طلب (بعض الأجر) منهم، ثم تثبت طلب (لا بعض الأجر) بل (كل الأجر) من الله تعالى، لاحظوا كيف أن حرف (من) حذف في الجملة اللاحقة مباشرة أريد الأجر من الله (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) ،..

هذه هي العلة الأولى في استخدام (من) في تلك الآيات الشريفة: لأنه يستحيل طلب الأجر كله من الناس، إذ الناس لا يستطيعون أن يوفّوا واحداً بالمليار، ومع ذلك فهذا المعادل الضئيل جداً لا يريده الرسول منهم..

السبب الثاني: نلاحظه في الآية الشريفة إذ يقول تعالى:( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)[28]

وهذه الآية الأخرى اليتيمة التي يوجد فيها أجر بدون (من) في القرآن الكريم، إن القرآن الكريم هادٍ لكل العوالم، فهل أنت تستطيع أن تدفع أجره؟ إنه (ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) لكل العوالم الظاهرة الجلية، والخفية المستترة، فهل نستطيع أن ندفع نحن البشر وما نحن إلا جزء، بل نحن كرمله في صحراء، من عالم الخليقة الواسع هل نستطيع أن ندفع هذا الأجر العظيم؟ لا نستطيع.. أبداً.. أبداً..

والسبب الثالث: في المجيء بكلمة (من) التبعيضية في الآية هو أن المثمن هو (الذكرى)، و(الذكرى) لا أحد يستطيع أن يعطي أجرها..

وفي مقابل ذلك كله نجد هذه الآية الشريفة(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا).

عدم استعمال (من) التبعيضية في الآية

لاحظوا الدقة وطلب الأجر كله في (الاستثناء) وهو (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فهي (الأجر).. وليست (من الأجر) بل (الأجر).

ولاحظوا أن مصب الإيجاب هو نفس مصب النفي تماماً (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) فالمنفي هو سؤال (الأجر) (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فالمثبت والثابت هو هذا الأجر، ولو كان المنفي هو بعض الأجر لكان المثبت هو البعض كذلك، لاحظوا الدقة لم تقل الآية الشريفة (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، مما يعني ويستلزم أن تكون المودة (من الأجر) كلا.. بل: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) لماذا؟

لأن (الأجر) سوف يكون (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) والحاصل أن هذه (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) هي أجر، يعدل الرسالة كلها بدون كلام، بدون ريب بنص القرآن الكريم الذي هو دقيق في الاستخدامات إلى أبعد الحدود وهذه الآية منه في الصميم.

آية المودة تعضد حديث الثقلين

وبالتأمل في هذه الآية، وكما كنت أفكر، فإن هذه الآية مما يعضد حديث الثقلين، وحديث الثقلين مما يشرح هذه الآية، لأن مفادها مفاد حديث الثقلين، وحديث الثقلين يشرح هذه الآية وهو موجود في صحيح مسلم أيضاً، وعدد من الصحاح، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني تارك فيكم الثقلين - لاحظوا أنه لا يوجد توازن إلا بين هذين الثقلين- كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.. فهذا الوزن الذي يوزن ذاك به.

لاحظوا أن الآيات والروايات بعضها يُفسِّر بعضاً، ويوضح بعضها بعضاً، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، أذن (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) هي أجر الرسالة لا غير، هذا المعنى العظيم الغريب الذي إذا تأمل فيه الإنسان فإنه حقيقة يستغرب مدى عظمة هذا المعنى ومدى دقة القرآن الكريم حيث جعل مودّة قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجراً يعدل الرسالة بأجمعها..

تناسب الأضلاع الثلاثة: (الرسالة، المودة، الأجر)

وإذا توقفنا عند هذا المعنى الرائع العميق، فإننا سوف نستنبط مجموعة من القواعد الكلامية، والفقهية، وغيرها، والتي سوف نشير لها إنشاء الله في بحوث أخرى، ولكن لنشير لأولها فقط الذي ابتدأنا به مطلع الحديث، فالروايات التي تتحدث عن الأجر العظيم على زيارة الإمام الحسين (عليه الصلاة وأزكى السلام) تصبح جداً واضحة وبديهية: وأن الإنسان بكل خطوة يخطوها، فإن الله سبحانه وتعالى يكتب له أجر حجة، وكلما رفع تلك الخطوة يكتب له أجر عمرة كيف؟ المعادلة جداً واضحة على ما ذكرناه، إذ: المثمن ما هو؟

إنه (الرسالة)، (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) يعني على (الرسالة) أو فقل على (إبلاغ الرسالة).. ثم الثمن أو الأجر ما هو؟ (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).. والآن لنتسائل عن (أجر الأجر) ما هو؟ وإلا يجب أن يكون هناك تناسب بين هذه الثلاثة (المثمن) وهو (الرسالة) و(الثمن) وأجرها وهو (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ثم (أجر الأجر) وهو كمصداق من جملة المصاديق-: أن جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل يشيعون زائر الحسين كمصداق من مصاديق المودّة.. هذا هو (أجر الأجر) وإن الإنسان عندما يذهب إلى الزيارة، يكتب له بكل خطوة حجة وعمرة.

فاتضح إن هذه العناصر الثلاثة يجب أن تكون متناسبة من حيث الوزن، والقيمة؛ (المؤجر عليه) - يعني (المثمن) هو ماذا؟ - هو (الرسالة).. (الأجر والثمن) ما هو؟ إنه (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).. و(أجر الأجر) ما هو؟ إنه كل ما يذكر من عظيم المثوبة على (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، ويصرح بذلك القرآن الكريم حيث يقول:(مَا سَأَلتُكمُ مِّن أجرٍ فَهُوَ لَكُم)..

وأوكد مرة أخرى: إنك لو أحببت أهل بيت الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ووددتهم وأظهرت تلك المودّة بالزيارة، أو البكاء، أو سائر الشعائر، كاللطم والتطبير والمشي على الجمر، أو بالدفاع عنهم (صلوات الله عليهم) باللسان والبنان، وفي الجرائد والمجلات وفي الإذاعات والفضائيات، أو بالدفاع عن شيعتهم وأتباعهم، لو فعلت ذلك فإن (أجره) سيكون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لأنه (أجر الأجر)، واللازم أن يتناسب مع عظمة (الأجر)، ومع عظمة (المؤجر عليه)، وهذا هو مقتضى قاعدة التناسب والحكمة والعدل.

ومثاله الواضح: أن البيت لو كان يسوى ألف دينار، فأجره، (أي ثمنه، وقيمته، ووزنه) هو ألف دينار، وأنت بهذه الألف دينار تستطيع أن تشتري بستاناً قيمته ألف دينار.

هذه الثلاثة يجب أن تكون متناسبة وهي المثمن، والثمن، وثمن الثمن، أي: الموجر عليه، والأجر وأجر الأجر، هذه الثلاثة لابد أن تكون متناسبة، فإذا كان (المؤجر عليه) هو الرسالة بما فيها التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد، والجنة..

وإذا كان (الأجر) الذي يعدل هذه كلها هو (مودّة أهل البيت (عليهم السلام)) فكيف يستغرب أحدهم لو سمع أن (أجر الأجر): هو أنه في كل خطوة يكتب له حَجة؟

بل هذا قد يشكل جزء الحقيقة وبعض (الأجر على الأجر) إذ ربما يقال: إن كثيراً من الروايات لم تصل إلينا يعني إن الله سبحانه وتعالى، لو يعطي على المودّة، كل ما في الكون، وكل ما في الآخرة من نعيم وأجر على كل العبادات أيضاً، لما كان غريباً إذ هذا في جوهره يعود إلى القول: إن كل ما في الكون وما في الجنة بمجموعه يعدل (المودّة)، وهل يستغرب ذلك بعد تصريح الكتاب بأن (المودة) هي أجر الرسالة وإبلاغها والذي لا يعدلها شيء في الكون كله؟

وهذه معادلة رياضية واضحة:

إن (المثمن) هو الرسالة..

و(الثمن) هو الأجر..

و(الأجر على الأجر) ينبغي أن يتناسب مع الأجر، والمأجور عليه.. والحديث طويل ونترك التتمة للأحاديث القادمة، إنشاء الله.. (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

رزقنا الله وإياكم مودة قربى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

...................................

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

..............................................

[1] (الشورى:23)

 [2] كامل الزيارات: ص273، والتمحيص:هو التنقية والتخليص والتنظيف..

 [3] راجع كامل الزيارات لتقف على تفاصيل هذه الروايات الشريفة..

 [4] تفسير القرطبي،ج16 ص 141،وفيه عدد من الروايات في الباب،وتتمة الحديث المنقول (وبكاؤها حمرتها)..

 [5] بخصوص هذه الروايات الكثيرة،راجع البحار:ج45 ص215،ومدينة المعاجز للبحراني:ج4 ص154،وكامل الزيارات وغيرها..

 [6] الأنفال: 24.

 [7] النجم: 3-4

[8] راجع كتاب آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي؛ الإمام علي (عليه السلام) في القرآن: ج2، ص291، لتقف على بعض المصادر الهامة.

 [9] قرب الإسناد: ص79،والإختصاص للمفيد:ص63،والبحار للمجلسي:ج22 ص 321..

 [10] الخلاف للشيخ الطوسي:ج1 ص33

 [11] الخلاف للشيخ الطوسي:ج1 ص33..

 [12] الكاشف في معرفة من له رواية في كتب الستة للذهبي: ج1، ص295.

 [13] منهاج السنةإبن تيميهج7ص533

 [14] الجرح والتعديل: ج8، ص271، سير أعلام النبلاء: ج1، ص36و ج3، ص476، تهذيب التهذيب: ج10، ص91 عن «القول الصراح في البخاري وصحيحه» للأصبهاني.

 [15] سير أعلام النبلاء للذهبي: ج6، ص257.

 [16] صحيح البخاري: ج3، ص41، مسند أحمد: ج2، ص358، معرفة السنن والآثار للبيهقي: ج4، ص507، المحلى لابن حزم: ج9، ص17.

 [17] البحار للشيخ المجلسي:ج88 ص 48، وتتمته (فيها رضا الرحمن، وسخط الشيطان)..

 [18] البحار للشيخ المجلسي: ج29، ص223.

 [19] تفسير الصافي للفيض الكاشاني:ج5 ص107.

 [20] (البينة:7)

 [21] (الشورى:22)

 [22] (الشعراء:180))

 [23] ما من نبي سأل أجراً من أمته على رسالته إلا الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية المباركة (آية المودة) المحقق.

 [24] (الشعراء:109)

 [25] (ص:86)

 [26] (الفرقان:5657)

 [27] (الحج:30)

 [28] (الأنعام:90)

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 20/آذار/2010 - 3/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م