مذكرات رحلتي الى العراق

د. محمد مسلم الحسيني-بروكسل

بعد غياب طويل عن أرض الوطن زاد على ثلاثين عاما، قررت أن أتدبر أمري وأنصاع لمطالب نفسي وفكري من أجل أن أكحل ناظري بمرأى الوطن. هذا الوطن الذي كتبت عليه المحن ودارت به الأيام وأشتد فيه الألم.

في سماء هذا الوطن أخذتني الذكريات بعيدا في عمق تأريخ طفولتي وفجر حياتي. كنت أتطلع لرؤية مدرستي وسماع أخبار أساتذتي وزملائي، أسعى الى معانقة أبناء حارتي وأزقتي. أتجول في الأسواق عسى أن أرى نوري البقال وصبري القصاب ومحمود النجار وجودي الحلاق وعبود الحائك... أردت أن أرى الماضي كما هو... كما تركته، فأنا لا أطمح في المزيد.

تلاقفني الأهل بالسلام والتقبيل فعرفت من عرفت وتظاهرت بمعرفة الآخرين، فهناك أجيال جديدة قد صعدت ووجوه غريبة قد نفذت، فهذا زوج فلانة وذاك إبن فلان. إختلطت دموع الفرح والغربة بدموع المعاناة والمشقة وأرتفعت الحواجب معلنة إمارات الدهشة والإستغراب.... فكل من أراه من الأخوة والأصدقاء حرق الشيب رأسه وتشاردت الأسنان عنه فقلّت النظارة وثقل الحمل. إنتفخت الوجوه وتقدمت البطون نحو الأمام بينما تراجعت العيون الى الخلف. زيادة الوزن كانت سمة عامة بين من رأيتهم، فسّرت ذلك بسبب كثرة الأكل بعدما شهدت طبيعة الموائد الممتلئة بكل ما لذ وطاب. صار الأكل اللذة الوحيدة الباقية في ظل ظروف الكآبة والحسرة المتاخمة في كل زاوية وفي كل ركن. كما أن قلة الحركة تعتبر عاملا مساعدا على السمنة أيضا، فلا سبيل لصرف الطاقة وتسخيرها. الناس تتحرك بإتجاه واحد وهو درب العمل والبيت. كما أن التلوث المائي والغذائي والهوائي قد يفسر الحالات المتزايدة من تضخم الكبد والطحال التي زادت بين العراقيين كما ذكر لي ذلك أحد الأطباء.

ليست السمنة فقط زادت نسبتها، إنما الأمراض المزمنة الأخرى قد زادت وتفاقمت أيضا. فإرتفاع ضغط الدم وداء السكري لا يخلو بيت منهما. وبصفتي طبيب قادم من الخارج قد إستشارني الكثيرون من بين الأهل والأصدقاء، لم أجد أحدا منهم خال من الأمراض! حتى أن ضغط الدم كان عند أحدهم 26/14 درجة وهو رقم هائل. كان المريض لا يدري بمرضه وحينما أخبرته بخطورة العلّة بدأ يضحك ويقول " ولا يهمك فلا تقلق، إن توفاني الله فسوف لن أخسر شيئا!؟". قوله هذا أثار عندي التساؤل والإستفهام، فهو يعني الكثير وأهم ما يعنيه هو عدم الإكتراث بالحياة لأنها لم تعد ممتعة ومهمة.

هذا المفهوم يدل على الإحباط والكآبة وضمور الطموح وغياب الأمل. ربما هذه حالة خاصة لا تشمل الجميع لكن الوقوف عندها والتبصر فيها أمر يستحق التحقيق.

في عائلة واحدة وجدت حالتين من السرطان، وهذا أمر مدهش فهذا المرض إرتفع نجمه في المجتمع العراقي والجميع يدرك الأسباب..... إنهيار منظومة الصحة العامة وخراب البنية التحتيّة الصحية التي أدت الى خلل في تشخيص ومعالجة الأمراض، وكذلك اليورانيوم المنضب وتأثيراته السلبية الكيمياوية والإشعاعية على صحة الإنسان والبيئة، وإختلال نقاء الجو والماء والغذاء، وطبيعة الحالة النفسية والإجتماعية عند العراقيين وغيرها من الأسباب التي لعبت وتلعب دورا في تحفيز الإصابة بهذا المرض.

أما الأمراض المعدية المزمنة كأمراض التدرن الرئوي والجرب فقد زادت الإصابة بها الى حد مهول. لقد أخبرني بعض الأطباء المختصين بهذا الشأن بأن السل الرئوي يضرب ثلاثة أشخاص في كل عشرة في بعض المدن! هذا من جانب ومن جانب آخر فأن الكثير من الناس يشكو من عارض الإسهال الذي ينتج عن التلوث الغذائي والمائي، فقد أعلمني أحد المحللين المختبريين بأن فطريات الـ "مونيليا" مثلا، وهي فطريات تصيب بعض الأشخاص الذين يشكون من قلة المناعة عادة أو الأطفال وكبار السن، موجودة في الكثير من التحاليل التي يجريها للمرضى بغض النظر عن أعمارهم. كما أنني شخصيا وقعت على أربع حالات فيها إلتهابات من هذا النوع لبعض من أجريت المعاينات عليهم.

ومن الحالات المرضية المنتشرة أيضا هو إرتفاع غير طبيعي لعدد كريات الدم الحمراء في الجسم وهي حالة تسمى طبيا بـالـ " بوليسايثيميا"، وهذا يتطلب البحث والتنقيب لمعرفة الأسباب.

الكثير من الأدوية المتوفرة غير فاعلة أو غير مؤثرة في معالجة الأمراض، فهي مستوردة من بلدان لا نعرف فيها طبيعة صناعات الأدوية ودرجة دقتها. كما أن بعض الأطباء يعطون الدواء دون التأكد من صحة تشخيص المرض، فالطبيب يعتمد على الإجتهاد الشخصي دون أن يربك نفسه بإجراء التحاليل اللازمة. وأمام زحمة المراجعين ومن أجل الكسب المفرط للمال سمعت أن بعض الأطباء يدخل مريضين أو ثلاثة في وقت واحد لغرفة الفحص!. صار بعض الأطباء يمعن في مبالغ أجوره ومعايناته، حتى أصبح مكسب الطبيب العراقي أكبر من مكسب أي طبيب في العالم. فإن كان الأطباء العراقيين في السابق يسافرون الى الخارج لبضعة سنين من أجل جمع المال وجلبه لأرض الوطن من أجل العيش في بحبوحة، فإن الأمر قد إختلف هذا اليوم. فالطبيب العراقي الذي يسكن في الخارج يستطيع أن يعود لأرض الوطن من أجل كسب المال الكثير والرجوع به للخارج كي يعيش في رفاه مردوداته!

حينما كنت أعود سرير النوم وفي ساعات متأخرة في أغلب الأحيان، كان البعوض يسامرني طول الليل، لا يتركني وهلة لوحدي، يشبعني طنينا وعضّا. البقع الحمراء إنتشرت في كلّ زاوية من جسمي، ورغم التخفي تحت الغطاء كان يخترق الحواجز والسدود فأطرد فيه ثم يعود. لا عجب في النمو المضطرد للبعوض، فالبرك الآسنة تنتشر في كل حدب وصوب، تمتلأ بمختلف أنواع النفايات والفضلات فتكون بيئة صالحة لنمو الجراثيم وتكاثر الحشرات والبعوض. لا أحد يكترث بذلك فكل يرمي الحبل على الغارب وكأن الأمر صعب المعالجة ومستحيل المنال، وهكذا يتعايش الناس مع هذا الواقع وكأنه جزء طبيعي من الحياة.

 ليس للنظافة وللترتيب وللنظام شأن في حياة الناس. الترهل يستشري بكل شيء، بكل صادرة وواردة، فلا يتعب أحد نفسه بالإصلاح أو ربما الكثير من الناس غير واع على طبيعة الحالة وبواعث المشكلة فلا يتحرك ساكن ولا ينبض عصب. أو أن الناس قد ملت من الإلحاح، فقد قالت وصاحت وذكرت ولكن هل تنفع الذكرى؟.

التلوث البيئي والتخلف الصحي لا ينحصر على خلفيات البنية التحتية المتدهورة ومخلفات الحروب والحصار الذي مر به العراق فحسب، إنما تغيّرت البيئة لأسباب إضافية أخرى لا تقل أهمية عن سواها كشحة موارد المياه وعدم الإهتمام بالزراعة وقلة التشجير وغياب الأحزمة الخضراء وإزدياد ملوحة الأرض، كل هذه الأمور لعبت دورا في إزدياد نسبة العواصف الرملية وتكاثرالغبار والأتربة. كما أن مجهولية طرق تعقيم الماء ومعالجاته وعدم توفر الكادر الفني والعلمي المؤهل وغياب الآلة الصحيحة والضرورية للعمل إضافة الى إستمرار إنقطاع التيار الكهربائي، كلها تفسر، على الأقل، جانبا من جوانب التلوث الملموس في العراق. رغم أنني كنت مسافرا في موسم الشتاء فإن غيوم الغبار قد حجبت عني وجه الشمس في كثير من الأيام، كنت مضطرا أن أغسل شعر رأسي كل يوم مرة أو مرتين لأتخلص من عوالق الغبار والأتربة التي تستلمني حالما أخرج من الدار. وحينما تحدثت مع الأهل عن هذه الأتربة قالوا : ليتك تأتي في فصل الصيف لترى بأن السماء تمطر ترابا! كنت أختنق من كثرة الأتربة يوميّا حتى صار صوتي مبحوحا، فساعد الله حناجر العراقيين وصدورهم. الغبار المنتشر والمستمر ربما يفسر حالات الحساسية والإلتهابات في الجهاز التنفسي المتكاثرة عند الكبار والصغار.

الروتين كان قاتلا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إنتحرت ثلاثة أيام من إجازتي القصيرة في دائرة الجنسية. فيوم أجريت فيه معاملة الوصول ويوم إجريت تحاليل الإيدز ويوم لإجراء معاملة المغادرة والخروج. رغم أنني في وطني فليس لي الحق البقاء أكثر من عشرة أيام دون إجراء هذه المعاملات المملة. كنت أراجع مع الأمواج البشرية التائهة من شبابيك مقلوعة الأبواب مكسرة الزجاج وكأن غارة أمريكية قد قصفت الموقع منذ لحظات. الكل كان مكفهرا بوجهي معبرا عن كثرة "الغبطة والفرح" بالضيف الثقيل! وحينما خرجت من تلك الدائرة القاهرة وجدت نفسي أصيح وأبتهل....وا بهذلتاه....وا إحتراماه....وا ديمقراطيتاه..... وقبيل عودتي لأرض المهجر، بلاد الإحترام والإنسانية، هاتفت شركة الطيران في بغداد لتأكيد الحجز، فكان الجواب هو ضرورة حضوري شخصيّا الى مكتب الشركة فلا يمكن عمل ذلك عن طريق الهاتف!. ياللعجب، فقد زرت نصف دول العالم ولم يطلب مني أحد أن أكون حاضرا في مكتب السفريات من أجل تأكيد الحجز، فلماذا يحصل هذا في العراق؟ هل هذا تعبير عن إحترام أوقات الآخرين أم إشارة محبة ومودة لأن في اللقاء تزداد الألفة ويعم التواصل وتذوب الأحقاد !؟ وهكذا ينتحر يوم رابع من أيامي المعدودة!.

أما اليوم الخامس فقد إنتحر أصلا في سياقات الطريق.... خرجت مبكرا في الساعة الثامنة صباحا من محافظتي التي تبعد مائة كيلومترا جنوب المطار، فوصلت الساعة الثالثة عصرا لأرض المطار لأن مفرزات "التكريم والتوديع" المزروعة على طول الطريق وفي كل مكان كانت تكرمني وترمي عليّ الورود!. فالتفتيش كان عنيفا ومتكررا والنتيجة هو أن عبوة "فاسقة" قد إنفجرت قبلي وأخرى بعدي رغم قوة التفتيش! ربما أخطأت مفرزات التفتيش في تشخيص الهدف فآلاتهم الحديثة الخاصة كشفت معجون أسناني لكنها أخفقت في كشف معجون المتفجرات!

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/آذار/2010 - 1/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م