الانترنت وثقافة المجتمع

ا.د. موفق عبدالعزيز الحسناوي

لقد دخلت شبكة الانترنت في شتى مجالات الحياة وأصبح استخدامها وكيفية التفاعل معها أحد سمات وخصائص المدنية الحديثة ومقياسا لتطور الشعوب والبلدان واندماجها في تفاصيل الحضارة الانسانية وتواصلها مع مختلف البلدان.

وبذلك فقد احدثت ثورة كبرى وطفرة واسعة في اساليب التبادل العلمي والثقافي وعالم الاتصال، وباتت الدول وخاصة المتقدمة منها تتسابق وبشكل كبير فيما بينها من اجل تطوير اساليب استخدامها لشبكة الانترنت وايجاد وسائل اخرى لزيادة فاعلية استخدامها والاستفادة القصوى منها مما جعل منها عبارة عن منظومة متكاملة للاتصال والتبادل العلمي والثقافي والفكري دخلت معظم مرافق المجتمع وعملت على تطويرها والرقي بها.

وشبكة الانترنت عبارة عن شبكة ضخمة من اجهزة الحاسوب المرتبطة بين الكثير من دول العالم ممثلة بالمؤسسات العلمية والثقافية والاقتصادية والافراد، وتمكن هؤلاء المستخدمون والمرتبطين في شتى انحاء العالم من الاتصال فيما بينهم من خلال ارسال واستلام الرسائل وتبادل المعلومات المختلفة في جميع صنوف العلم والمعرفة والثقافة.

وأصبح عالمنا المعاصر يطلق عليه بأسم عالم الانترنت لان اكتشاف شبكة الانترنت كانت احد المحطات الرئيسة والثورات الكبرى في الحضارة الانسانية والتي اوجدت بصماتها الواضحة عليها.

 لقد اصبحت شبكة الانترنت عبارة عن قناة معرفية هائلة الكم من المعلومات والافكار ساهمت بشكل كبير في ربط وترابط المجتمعات والافراد متجاوزة بذلك الحدود الجغرافية والمحددات السياسية والاجتماعية والمذاهب الفكرية وساهمت في تقارب الحضارات وتلاقح الافكار بين الشعوب بمختلف قومياتها ولغاتها واديانها، وهي وسيلة رخيصة الثمن وسهلة وخزان كبير لحفظ المعلومات والبيانات في شتى فروع العلم والمعرفة وعليه اصبحت عبارة عن مكتبة رقمية ضخمة تنقل للمسخدم المعلومات حال نشرها وتسمح له بالاتصال مع مختلف الجهات العلمية والاكاديمية والبحثية والاقتصادية والمجتمعية.

وبذلك فان شبكة الانترنت قد ادت الى ظهور عالم جديد مجازي ان صح التعبير هو العالم الافتراضي الذي بامكان الانسان فيه ان يعبر معظم الحواجز والممنوعات لتزداد معرفته واطلاعه في شتى مجالات المعرفة وشؤون الحياة.

 لقد اصبحت شبكة الانترنت منهلا كبيرا لاينفذ للباحثين والمثقفين في جميع البلدان ليتبادلوا فيما بينهم المعلومات والافكار ويستطيعوا من خلالها نقل مايرغبون به من معارف وخبرات وثقافات الى مجتمعاتهم بدون قيود او حواجز وبالتالي العمل على نشرها في تلك المجتمعات في ضوء رغباتهم وتوجهاتهم الفكرية والعقائدية.

 وساهمت شبكة الانترنت بصورة فاعلة في نشر الثقافة بين الشعوب لانها وسيلة رخيصة وسهلة وحرة غير مقيدة للنشر لاتحتاج الى تكاليف الطباعة والورق ومشاكل التوزيع وبامكان الجميع الوصول اليها فيما لو توفرت لديهم خدمات الشبكة.

 كما ان فيها القابلية الكبيرة المتاحة للناشرين لتحديث المعلومات بصورة فورية وسريعة استجابة للمتغيرات الحاصلة في المعلومات التي نشروها سابقا وبدون اي تكلفة تذكر او قيود لغرض التحديث.

 ونتيجة لكون طبيعة المعلومات المنشورة والمتاحة عبر شبكة الانترنت غير محددة وغير مسيطر عليها من قبل جهة معينة وبالامكان الاضافة اليها في كل وقت ومن اي مكان فأن هذا شكل رصيدا ضخما للثقافة الانسانية بكل مفاصلها واصبح بإمكان الكثير من الناس الاطلاع على هذه الثقافات المختلفة بصورة حرة والاستفادة منها والتفاعل معها والاستفادة منها في تغيير وتطوير اساليب حياته الاجتماعية كعضو فاعل في المجتمع وبالتالي ينعكس هذا بصورة واسعة وعامة على الثقافة العامة والخزين الحضاري للمجتمع بما يرتقي به الى مصاف المجتمعات المتطورة اذا استطاع فعلا توجيه هذه الثقافات بصورة فاعلة وايجابية لغرض التطوير والبناء وتعزيز العادات والتقاليد الاجتماعية الحميدة والفاضلة.

 ولكن هناك نقطة مهمة وجوهرية ينبغي الانتباه اليها وعدم اغفالها وهي ان ليس كل ما نشر في شبكة الانترنت من معلومات وافكار وآراء هي دقيقة وصالحة وفعلية ولايمكن الاخذ بها وتصديقها بصورة كاملة دون فحص وتمحيص وتدقيق لبيان دقتها وصحتها لان عدم اجراء ذلك سوف يؤدي الى انتقال افكار وآراء ومعلومات وهمية وغير صحيحة الى المجتمع وانتشارها فيه وبذلك تأتي بنتائج عكسية سواء على صعيد البناء والتطوير ام على صعيد الفكر والثقافة والمعلومات المتداولة في المجتمع.

 وهناك جانب مهم واساسي ينبغي الالتفات اليه ايضا والحذر الشديد منه وهو انتشار المواقع الاباحية واللااخلاقية والهدامة بدرجة كبيرة جدا مع امكانية الوصول اليها بسهولة بوجود اغراءات جاذبة تجذب الشباب وضعيفي النفوس والالتزام الديني والاخلاقي وبطرق كثيرة واساليب متنوعة وقد تكون مشوقة ولكنها هدامة تعمل على هدم البناء والارث الحضاري والاجتماعي والاخلاقي للمجتمع من خلال انغماس بعض الناس فيها وتفاعلهم معها والادمان عليها وهذا يؤدي الى عواقب وخيمة تعود بالضرر الكبير على المجتمع وتعمل على تلهية الناس في امور تافهة وسطحيه وتبعدهم عن دورهم الحقيقي في الحياة التي يجب ان يقوموا به من اجل بناء المجتمع وتطويره.

 وفي مقابل ذلك توجد في شبكة الانترنت الكثير من المواقع العلمية والثقافية والدينية التي يمكن من خلالها الحصول على معلومات كثيرة ومفيدة في الجوانب المشار اليها والتي يمكن من خلالها المساهمة في بناء شخصية الانسان المثقف الواعي الملتزم بتقاليد مجتمعه الفاضلة والصحيحة وتعاليم دينه ومبادئه والتي يستطيع من خلالها الاطلاع على اخر المستجدات العلمية والثقافية والفقهية التي تحدث في العالم لتمحيصها واخذ ماينفعه منها لتخلق منه المواطن الصالح الذي يكون عبارة عن بؤرة اشعاع في محيطه العائلي والاجتماعي وبذلك تتوفر له فرصة كبيرة لكي ينهل من منابع العلم والمعرفة في مختلف مجالاتها وبصورة ميسرة وسريعة وقليلة الكلفة وتجعله في تواصل مستمر مع مايحدث حوله من احداث ومستجدات من الصعوبة التعرف عليها من خلال وسائل الاتصال الاخرى.

 وهناك جانب اساسي ومهم له علاقة بالجوانب الثقافية في المجتمع يمكن الاستفادة فيه من الخدمات التي تقدمها شبكة الانترنت وهو جانب التربية والتعليم حيث قطعت الدول المتقدمة شوطا كبيرا في هذا المجال باستخدام شبكة الانترنت للاغراض التعليمية لتطوير وتفعيل طرائق التدريس المستخدمة وحصول الطلبة على معلومات تعزيزية اضافية عن المادة الدراسية التي يتم طرحها من قبل المدرس في المحاضرات الاعتيادية وتجعلهم على تواصل مستمر ودائم مع احدث ما يكتب وينشر في مجالات تخصصهم وتجعلهم يتواصلون مع العلماء والمفكرين والباحثين في شتى انحاء العالم من اجل تلاقح الافكار فيما بينهم.

 كما انه بامكانه ان يوفر مكتبة الكترونية ضخمة في المؤسسات التعليمية بجميع مراحلها وتخصصاتها تحتوي على كم هائل من المعلومات تكون مرجعا للمدرسين والطلبة والباحثين تساهم في بناء شخصيتهم العلمية والثقافية والاجتماعية والاخلاقية.

 لقد ساهم الانترنت بدرجة كبيرة في تسريع التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي في العالم وفي شتى المجالات وذلك لسهولة الاتصال بين الباحثين والمتخصصين وتلاقح الافكار فيما بينهم للقيام بمشاريع علمية وبحثية تطويرية مختلفة والابتعاد عن حالة الانغلاق والانعزال التي كانت سائدة بين العلماء والباحثين لعدم وجود وسائل اتصال ومتابعة سريعة وفاعلة فيما بينهم.

 وبذلك اصبحت الاكتشافات والمخترعات الجديدة يمكن الاطلاع عليها وتطبيقها والاستفادة منها في حينها وتطبيقها في المؤسسات العلمية والتعليمية والانتاجية بصورة سريعة للاستفادة منها لتطوير المجتمع.

 ان استخدام شبكة الانترنت وانتشارها بهذا الشكل الواسع وفي مدة قصيرة قياسا الى غيره من الاكتشافات السابقة واللاحقة والتهافت العالمي الواسع على استخدامه والاستفادة من تطبيقاته يعتبر سلاح ذو حدين اذا لم يحسن استخدامه بالشكل الصحيح فانه قد يؤدي الى تحطيم وتدمير البناء الفكري والاجتماعي والعقائدي والديني للمجتمعات على المدى البعيد لانه سوف يؤدي الى ايجاد اجيال من هذه المجتمعات قد لاتلتزم بالمعايير والاعراف التي التزمت بها لسنوات طويلة.

 ان دخول شبكة الانترنت في مختلف المجالات وبصورة متسارعة ومتزايدة بشكل لم يسبق له مثيل عبر التأريخ قد يؤدي بنا الى استخدامه بصورة مستعجلة وغير مدروسة وليس ضمن خطط علمية صحيحة استجابة للرغبة العارمة عند الجميع لاستخدامه، وهذا قد يؤثر سلبيا على طرائق الاستفادة منه بأفضل صورة وبأقل التكاليف والجهد، ويأتي بنتائج عكسية لا تحمد عقباها قد تكون عبارة عن عوامل هدم حقيقية للبناء الاجتماعي والفكري والاخلاقي في المجتمع.

 ان هذا يوجب علينا ان ننظر الى شبكة الانترنت نظرة فاحصة وموضوعية ودقيقة نستطيع من خلالها تشخيص وتحديد الامور الايجابية والسلبية لهذه الشبكة وافرازاتها في المجتمع بصورة عامة وفي تفاصيل الحياة الاجتماعية بكل شرائحها ومكوناتها البشرية والاجتماعية. لاننا ينبغي ان نتعامل بنظرة علمية ودقيقة وفاحصة لكل المكتشفات الحديثة وعدم استخدامها ونشرها في المجتمع بصورة سريعة والانسياق وراء الدعايات والاعلام الكبير الذي يرافقها لان هذا قد يعود بنتائج سلبية على المجتمع.

 اذا اردنا ان تكون شبكة الانترنت عاملا فعالا ورئيسا في نشر الثقافة في المجتمع ورفد الحركة الثقافية وانجازاتها برافد جديد واساسي وكبير وغير محدود وغير خاضع للسيطرة من اي جهة كانت وغير مسيس لصالح جهة معينة على حساب جهة اخرى ينبغي علينا نشر الثقافة الحاسوبية وثقافة الانترنت وبيان اهميتهما الكبيرة في تطوير وتعزيز الحياة الثقافية في المجتمع بكل مكوناته وشرائحة مهما كانت مستوياتها الثافية والتعليمية.

 علينا ان نوضح لشبابنا اهمية شبكة الانترنت كوسيلة فاعلة لنقل الثقافة الانسانية وتبادلها بين الشعوب وان عليهم الاستفادة من الامور الصالحة والايجابية منها وعدم الانجرار خلف الدعاية الكبيرة والمواقع التافهة واللاخلاقية والاباحية التي تدمر من يستخدمها وتعود عليه بنتائج وخيمة على المستوى الشخصي وبالتالي تؤدي بمرور الزمن وعلى المدى البعيد الى تهديم البناء الاجتماعي والاخلاقي والديني في المجتمع.

 علينا ان ندعو شبابنا وابناء مجتمعنا الى الحصانة ضد الامور السلبية في شبكة الانترنت وذلك من خلال التزامهم بتعاليم دينهم الحنيف العظيمة وتقربهم الى الله سبحانه وتعالى وذلك من خلال زيادة الوعي الشعبي باهمية شبكة الانترنت في رفد ثقافة المجتمع بكل ماهو جديد وبالمقابل اثاره السلبية الكبيرة على المجتمع سواء كانت آثار آنيه سريعة او على المدى البعيد.

 علينا ان نواكب التطور العالمي باستخدام وسائل الاتصال الحديثة ومن اهمها شبكة الانترنت بجميع تطبيقاتها للاطلاع على حضارات الشعوب وعاداتهم وثقافاتهم ومعتقداتهم وان نبتعد عن حالة الانغلاق الفكري والاجتماعي معهم من خلال فتح افاق مختلفة للتعامل مع تلك الثقافات والاستفادة منها في تطوير مجتمعنا وزيادة وعي أبنائه في مختلف جوانب بناء الشخصية الانسانية وتعديل السلوك الانساني بما يضمن خلق مجتمع متطور ومثقف يسابق الزمن للحاق بالمجتمعات المتطورة التي سبقته بأشواط بعيدة والاطلاع على حافات العلم والعمل على تجاوزها لاننا بحاجة الى الكثير.

 انها دعوة صادقة الى ابناء المجتمع وخاصة الشباب بناة الحاضر وضمانة المستقبل لكي ينهلو من مناهل العلم والمعرفة والثقافة المنتشرة بكثرة في شبكة الانترنت وعليهم الاهتمام بالامور الاساسية والجوهرية التي تنفعهم وبالتالي مجتمعهم والابتعاد عن الامور السلبية والتافهة والسطحية التي تعود بالضرر عليهم.

 على ابناء مجتمعنا ان يحصنوا أنفسهم اولا بدرجة كبيرة عن وسائل الكسب والاغراء الرخيصة ومواقع الفرقة والتناحر والتشتت التي تحاول تمزيق الوحدة الوطنية والاسلامية في شبكة الانترنت من خلال وضع مخافة الله اولا وقبل كل شيء نصب اعينهم والتزامهم بتعاليم دينهم الاسلامي الحنيف وحبهم لبلدهم كونه الخيمة الكبرى التي يستظل بها الجميع وايمانهم بوحدته وتماسكه وانصهار كل طوائفه واديانه وقومياته في كتلة واحدة تمثل اغلى جوهرة يحافظ عليها الجميع الا وهي العراق العزيز.

 دعونا نستزيد علما وثقافة من الانترنت. ودعونا نستزيد معرفة واطلاعا من الانترنت ودعونا نستزيد متعة ورفاهية من الانترنت. ودعونا نستزيد اخلاقا وفضائلا من الانترنت ودعونا نستزيد اعجابا بديننا وتمسكا بمبادؤنا من الانترنت. دعونا نستزيد حبا لبلدنا واعتزازا بوحدتنا من الانترنت.

* هيئة التعليم التقني – المعهد التقني في الناصرية - جمهورية العراق

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 14/آذار/2010 - 27/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م