الإنسان بين الثقافة والرمز

عند أرنست كاسرر

زهير الخويلدي

من أهم أغراضي أن أقنع القارئ بأن كل المواضيع التي يتعلق بها هذا الكتاب إنما هي في آخر التحليل موضوع واحد، وأن تلك الموضوعات إنما هي سبل ووسائط مختلفة تؤدي إلى مركز مشترك وفي تقديري أنه على فلسفة الثقافة أن تكشف ذلك المركز وأن تحدده.

طُرِحت على  أرنست كاسرر ( 1874- 1945) أحد المنتسبين إلى مدرسة ماربورغ مسألة تبسيط الأفكار الواردة في كتابه الضخم والصعب فلسفة الأشكال الرمزية المنشور منذ سنة 1923 فكان رده أن ألف كتاب جديد صغير الحجم ولكنه مبهر من حيث المحتوى سماه مقال عن الإنسان.

وهذا الكتاب يتضمن افتتاحية وخاتمة وينقسم إلى جزئين كبيرين ينقسمان بدورهما إلى اثني عشر فصلا، يحتوى الجزء الأول على خمسة فصول وعنوانه ما الإنسان؟ والجزء الثاني على سبعة فصول وعنوانه الإنسان والثقافة. تتضمن الافتتاحية معلومات مهمة تتعلق بظروف تأليف الكتاب والسياق العلمي الجديد في الولايات المتحدة الذي حتم عليه الكتابة بالانجليزية والابتعاد عن الكتابة المختصة واعتماد كتابة مبسطة تسهل التقبل وترضي الانتظارات العمومية. فهل يعني ذلك أن كتاب مقال عن الإنسان هو مجرد تلخيص لكتاب فلسفة الأشكال الرمزية أم أن الأمر أكثر من ذلك بكثير ويتعلق بالبحث في كيفية تبسيط العلم مع اختزال واستبدال المفاهيم الفنية والمراجع التقنية الصرفة بأشكال وصور بلاغية تفوز بانتشار أوسع؟

جواب هذا الكانطي الجديد كان حاسما لأنه رأى مهمته لا تتعلق بوضع كتاب شعبي يلقى الرواج على قدر ما تفقد منه الضوابط العلمية وبالتالي يختار أن يطرح قضية أنثربولوجية خطيرة تتعلق بتحديد طبيعة الكائن الإنسي وهي قضية لا تهم المتفلسفين لوحدهم ولا الأكاديميين فقط بل تعود بالنظر إلى كل إنسان أينما كان بصرف النظر عن مستواه الثقافي والمعرفي. فكيف استطاع كاسرر أن يجمع في هذا الكتاب بين صرامة العلم وضرورات الانتشار؟ وعلى ماذا يدور الكلام في هذا المتن الصغير؟ وماهي نكتة الإشكال فيه؟ وماذا استعمل من عدة مفهومية من أجل معالجة هذا الإشكال؟وهل هناك حضور كثيف للمرجعيات العلمية والمقاربات الابستيمولوجية والمنهجية؟ والى أي مدى تضمن رهانات إتيقية؟ وبأي طريقة تمكن كاسرر من تعريف الإنسان؟ وهل أرضى التعريف الحديد الذي قدمه الدوائر العلمية في أمريكا آنذاك؟ وماذا حدث بينه وبين هايدغر في دافوس سنة 1929؟ وهل خلافهما يعود إلى عدم رضا كاسرر بمفهوم الدازاين الذي وشح به فيلسوف برلين هوية الإنسان؟

يستخدم كاسرر الذي هرب إلى الولايات المتحدة عام 1933 من اضطهاد الحكم النازي ما توفر له من علوم عصره من أجل معالجة اشكاليته الأنثربولوجية وخاصة علم النفس بكل فروعه من علم النفس الحيواني والسلوكية وعلم نفس الهيئة وعلم النفس السريري المرضي وعلم النفس التجريبي ويستعمل علوم الأنثربولوجيا بكل فروعها من أثنولوجيا ومورفولوجيا واحاثة وتطورية وكذلك السجل اللساني في أبعاده التقنية الصرفة ويركز الفيزياء والرياضيات ونسبية آينشتاين.

لقد كان في كل هذا الجهد التأليفي يسعى إلى توظيف كل المعارف الإنسانية من أجل الارتقاء بالتساؤل الفلسفي حول الطبيعة البشرية التي تتطلب الإلمام المعمق بعلوم العصر. إن تعدد المراجع العلمية وجدة النظريات هي التي يضع كاسرر على مسطحها اشكاليته هو ما يميز راهنية الكتابة الفلسفية حول الإنسان. ولكن كيف يمكن الانطلاق من هذه الكثرة المرجعية لصياغة إشكال فلسفي؟ وأنى لنا أن ننتقل من الكثرة والاختلاف المعرفي إلى الوحدة الفلسفية وبالتالي نجعل من تلك الأطراف تتلاقى في بؤرة موحدة تصوغ وحدة ذات معنى هي: طرح سؤال ما الإنسان؟ وهل من معنى لدراسة الملكات الإنسانية المتعددة دون أن تكون لنا فكرة قبلية موحدة عن الإنسان هي بمثابة المشروع البشري الذي في إطاره تمتلك تلك الملكات معنى؟ أليس ما يجعل التأليف نفسه أمر قبلي هو العنصر الذي يعطي معنى لتلك السجلات؟ فماهو هذا العنصر الذي يجمع الشتات المعرفي ويعطي للمرء فكرة قبلية عن نفسه؟وكيف تفاعل هذا الفيلسوف القاري المنحدر من مرجعية جرمانية مثالية مع براغماتية وتحليلية الفلسفة الأنجلوساكسونية؟

غاية المراد أن الإشكال هاهنا ليس في توظيف علوم العصر لفهم الإنسان بل فيما يكون به ذلك الاستخدام فلسفيا، بمعنى كيف لعلوم أن تمكن من صياغة سؤال فلسفي في الإنسان؟

ما راهن عليه كاسرر ليس تجميع شامل لأشياء أنطولوجية ومعرفية تبدو متباعدة ومختلفة وغير متجانسة حول الإنسان تتوزع بين فلسفة التاريخ وفلسفة العلوم ونظرية المعرفة بل الاهتداء إلى فلسفة الثقافة التي تمثل مركز الثقل الرمزي الذي يضم إليه كل الروافد الصغرى من أسطورة وفن ودين ولغة وعلم وتاريخ.

1- أزمة معرفة الإنسان لذاته:

إن معرفتنا الحديثة بالإنسان قد فقدت مركزها الفكري أو قل مركزها الذهني.

من المتعارف عليه أن معرفة الذات هي الهدف الأكثر سموا  وقيمة في البحث الفلسفي وأن هذا الغرض كان حاضرا بشدة عند كل المدارس الفلسفية مهما كانت الاختلافات والصراعات بينها. بيد أن كاسرر في هذا الكتاب يكشف عن بروز أزمة في مستوى رؤية الإنسان إلى نفسه. إن وعي الإنسان بالأزمة يدل على وجود مفارقة تخص المعرفة البشرية والطبيعة البشرية في نفس الوقت، إذ على قدر ما تطورت علوم الإنسان فإنها كشفت لنا عن جهلنا له وبقدر ما تحاول التحوط به من مختلف الجهات يزداد بعدنا عنه وبقدر ما تزداد معرفتنا به يزداد التباسه علينا. إن الإشكال يتعمق أكثر عندما يتعدى كاسرر علوم عصره ويستنطق ظواهر غائرة الجذور في التاريخ مثل الانتاجات الثقافية الأولى للإنسان مثل السحر والأسطورة والفن. لكن كيف لهذا الشتات المتنوع من الأشكال الثقافية والعلمية التي تمتد من السحر إلى التقنية وتجمع بين القديم والحديث أن يؤلف بحثا فلسفيا في مشكل فلسفي واحد وهو تحديد الطبيعة البشرية؟

فرضية البحث في هذا المقال الأنثربولوجي تتمثل في أن الوحدة المفترضة هي مركز مشترك يكون بمثابة بؤرة دلالية ونقطة أرخميديسية تنتج السجلات باعتبارها ظواهر تتجلى من خلالها الماهية. إن الثقافي هو ما يقابل الطبيعي ولكن لا ينبغي أن نحصره في الدلالة على الإنتاج اللساني بل يشمل كل تغيير يحدثه الإنسان على الطبيعة حتى ولو كان طفيفا. منذ النظرة الأولى للوعي البشري نعثر على إدراك ذاتي داخلي للإنسان للحياة يرافق ويكمل الإدراك الخارجي وبقدر ما توغل الثقافة الإنسانية في التطور تترك وجهة النظر الخارجية مكانها لوجهة النظر الداخلية، فالموهبة الطبيعية قد غيرت ببطء وجهة نظر الإنسان.

 إن فلسفة الثقافة هي فلسفة المنشآت الإنسانية أبسطها وأقدمها بما في ذلك العناصر اللامعقولة كالأسطورة والسحر والدين وكذلك الأشكال الراقية والعقلانية كالفن والعلم والتقنية. إذ نجد أن الأنثربولوجيا تسير جنبا إلى جنب مع الكوسمولوجيا ومشكل أصل العالم يتداخل مع مشكل أصل الإنسان. من هذا المنطلق لا يمكن تصور معرفة على أنها مجرد مصلحة نظرية، كما أن الإنسان لا يمثل مجرد ذات تأملية ولا تحكمه ضرورة معرفية جوهرية بل يوجد أمر أخلاقي أو التزام عملي في داخله كشفت عنه الأديان. مع سقراط لا نجد نظرية أخلاقية منسجمة ومنظمة وإنما سؤال واحد يظل على حاله دون جواب هو ما الإنسان؟

لقد حافظ سقراط دائما ودافع على نموذج الحقيقة الموضوعية المطلقة والكونية لكن الكون الوحيد الذي عرفه هو الكون الانساني والموجود البشري يتميز بمواهب وفضائل مثل العفة والعدل والشجاعة والحكمة تميزه عن بقية الموجودات الطبيعية الأخرى. المثير للانتباه أن السخرية تمنع سقراط من تقديم تعريفا واحدا عن الإنسان، فكيف نفسر هذا الإخفاق الواضح للعيان؟ وهل اختار سقراط منهجا مترويا يسمح له بالتخلص من المشكل دون بلوغ عمقه والكشف عن ماهيته؟

إن طبيعة الإنسان لا يتم اكتشافها مثلما  نعالج طبائع الأشياء عن طريق الملاحظة التجريبية والتحليل المنطقي لأن ماهو فيزيائي يوصف من خلال تحديد الخصائص الموضوعية بينما الإنسان يفهم عن طريق أفعال الوعي ولا يمكن النفاذ إلى داخله إلا ببناء علاقات مباشرة معه. ما يميز سقراط ليس وجود مضمون فلسفي جديد حمله إلينا فكره المتوهج بل نلاحظ ميلاد نشاط فلسفي جديد ووظيفة مختلفة للفكر نقلت من معرفة تأملية بالطبيعة إلى جدل فكري وحوار عقلي نقلنا من monologos إلىDialogos.

 في السابق كان على الإنسان أن يدرك الحقيقة مثلما يدرك شيئا جاهزا ولكن سقراط رأى أن الحقيقة من حيث ماهيتها هي فعل اجتماعي ومنتوج للفكر الديالكتيكي ولا يمكن الحصول عليها إلا عن طريق خوض الأفراد للعبة الأسئلة والأجوبة، ومثلما هو مستحيل أن نعيد النظر إلى إنسان ولد أعمى فإنه يصعب علينا أن نحصر الحقيقة داخل الذات الإنسانية. أهم خاصية ينفرد بها الإنسان هي الامتحان المتأني والموقف الناقد تجاه التجارب التي يعيشها لاسيما وان حياة إنسانية لا يمتحن فيها المرء هي غير جديرة بأن تعاش.

غير أن هذا الجواب الإغريقي يلقي بثقله على التطور المستقبلي للحضارة الإنسانية ويؤثر في تصورات الإنسان لنفسه وللعالم وللآخر وقد ظهر ذلك بشكل واضح عند الرواقية وخاصة مارك أورال الذي أكد على أن الإنسان ينبغي أن يتخلص من القيود التي تربطه بالعالم الخارجي حتى يستطيع العثور على طبيعته الحقيقية وماهيته الإنسانية الثابتة.   وآيته في ذلك أن ماهية الإنسان تتوقف فقط بالقيمة التي يمنحها إلى نفسه عن طريق التساؤل وبالبحث عن الذات وما يهم عند كل كلئن بشري هو التمسك بالحرية والقرار الداخلي للنفس والقدرة على الفعل. وان من يحيا في تناغم مع أناه الخاص ومع عنصره يحيا في تناغم مع الكون بآسره لأن نظام الكون ونظام الإنسان هما تعبيران مختلفان لنفس المبدأ. إن الانثناء على الذات هو الطريق الملكي نحو المحافظة على الكمال الذاتي وان الحكم هو القدرة الرئيسية للإنسان والمصدر المشترك للحقيقة والأخلاق.

إن فلسفة الثقافة هي المؤتمنة على تلك البؤرة الدلالية وهي كذلك التي تساؤل مختلف الانتاجات الفكرية عن ذلك المركز المفترض. في هذا السياق ينتمي مجهود كاسرر إلى كانط ولكنه يتجاوز الكانطية بالجمع بين الفكرة الموسوعية عند لايبنتز والتصور النسقي الهيجلي من أجل بلوغ الأحكام التأليفية القبلية الميسرة لوحدة التجربة البشرية الثرية والمتنوعة.

يمكن أن يصاغ سؤال فلسفة الثقافة بماهي فلسفة البشرية التي عهد إليها كاسرر بمهمة الكشف عن المركز المشترك كما يلي: كيف يكون التأليف الشامل لمختلف أبعاد التجربة الإنسانية ممكنا؟، في هذا السؤال هناك اعتراف بأن التأليف قائم والبحث يجري عن الكيفية التي وقع إنتاجها بها، والجواب هو أن القوة المصورة هي نقطة الارتكاز التي تقف وراء هذا التشكل. فماهي القوة المصورة التي تحول الشتات إلى وحدة؟ ويمكن صياغة هذا السؤال بطريقة احراجية كما يلي: هل يوجب ذلك وضع المركز وضعا قبليا بحيث تتداعى إليه التخوم والأشكال الرمزية أم أن ذلك المركز نركبه تركيبا بعديا ننتهي إليه باعتباره نتيجة البحث؟ بمعنى آخر هل هو منطلق قبلي للبحث أم هدف بعدي؟ فماذا يمكن أن يكون هذا المركز الذي إليه تتداعى جميع التخوم أو تشير مختلف الانتاجات البشرية والذي يسمي بالمركز الثابت ونقطة الارتكاز التي عليها العمدة في حل التأمل الفلسفي في الطبيعة البشرية عبر التاريخ الثقافي؟

يتحدث كاسرر في الفصل الأول عن أزمة معرفة الإنسان لنفسه ويرى أن سبب هذه الأزمة هو تجفيف منابع الرمزية وسيطرة التيار العلموي الوضعي، إذ يصرح هاهنا:أزمة معرفة الإنسان لم تختفي مع بروز المعارف الوضعية وإنما تعمقت أكثر مع تطور هذه المعارف.

الحل عند كاسرر هو إعادة تشغيل الوظيفة الرمزية والنظر إلى أن القدرة على إنتاج الرموز هو أخص ما يخص الكائن البشري ويرى أن جميع الفلسفات قد اتفقت على أن المركز الثابت واللامتحرك لكل عملية تفكير هو القوة المصورة وهي بؤرة دلالية ترجع إليها كل الانتاجات والأشكال وتتوحد وتخرج من حالة الشتات والفوضى إلى وضع التنظم والانصهار.

إن المركز الذي يلعب دورا ابستيمولوجيا وتاريخيا مهما هو معرفة الإنسان نفسه ولكنه يعيش حالة من التأزم وسقط في وضع فارقي جعل من مطلب معرفة الذات مطلبا كونيا لم ينازع شرعيته حتى الريبيون أنفسهم. إذ يقول هاهنا: أن تكون معرفة الذات أسمى مطالب البحث الفلسفي فذلك مما يبدو متفق عليه كونيا، إذ في كل الخصومات بين مختلف المدارس الفلسفية فإن ذلك المطلب يبقى ثابتا ولا يمس وهو ما يدل على أن ذلك الاهتمام يشكل النقطة الأرخميديسية أو قل المركز الثابت اللامتحرك لكل تفكير.

لقد اعتبر كاسرر معرفة الذات النواة الصلبة لكل تفكير والأرض الراسخة كل معرفة بحيث لم يتم التشكيك فيها حتى من طرف التيار الريبي نفسه بما أنه لم ينف إمكانية وضرورة معرفة الذات، إذ عندما شكوا في مبادئ المتعلقة بطبيعة الأشياء فأنهم لم يقصدوا بذلك معاداة النزعة الانسانية الصميمة وإنما بلوروا نمط آخر من البحث الحر وتحطيمهم للحكم الموضوعي على العالم الخارجي قابله توق للعودة بأفكار الإنسان نحو وجوده الخاص.إن الشك الريبي لئن تمحور حول مبادئ المعرفة فإنه جعل الفكر يرتد نحو ذاته ويعبر عن قدرة العقل البشري على اليقظة واختراق الحدود الدغمائية والمسلمات الضمنية وبالتالي فإن أهمية التفكير ومعرفة الذات لم يوضعا موضع شك رغم النتيجة التي ينتهي إليها وهو انحلال عملية التفكير الانساني ذاتها.

عندئذ تكون المفارقة الأولى هي انحلال مطلب معرفة الذات بواسطة الذات رغم أنه انعقدت حول كل ضروب التفكير في الأول وضياع هذا المطلب الكوني لم ينجو منه التيار الريبي ويفسر أزمة الإنسان. المفارقة الثانية هي أن هذا الانحلال بعد الانعقاد جاء نتيجة الثراء المعرفي وتقدم العلوم ولم يكن البتة بسبب الفقر المعرفي وانحطاط العلم وكأنما تزايد المعرفة بوجه عام نتج عنه ضياع فكرة الإنسان بوجه خاص. وننتبه أمام هذه المضامين الكثيرة المعروضة في الفصل الأول بدءا بسقراط وانتهاء بماكس شيلر مرورا بأفلاطون وأرسطو والرواقية والربيين ومفكري العصور الوسطى وأهم المحدثين مثل ديكارت وكبار المعاصرين مثل فرويد وماركس ونيتشه أن تزايد المعرفة وتراكم الوعي بالخبرات الإنسانية حتمت ضياع فكرة الإنسان وذلك بحجب البؤرة الدلالية التي تمثل المركز الفكري لإشكالية الإنسان.

إن تنامي المعرفة الإنسانية قد لأفضى إلى ما سماه كاسرر فوضى لا يمكن ضبطها وذلك لفقدان المركز الذهني الانساني وغياب النظام واختلال التوازن بين المادي والمعنوي وبين مكونات الطبيعة البشرية ومختلف رؤى العالم. وفي هذا التناقض ين وحدة البداية وفوضى المنتهي تبرز أزمة الإنسان نفسه.

عندما تولى كاسرر تقييم المسار قديمه وحديثه قصد تجاوز تلك الفوضى فإنه سينقلنا من تحلي اللبس إلى واقع الاحتجاب والاختفاء بلغة ماكس شيلر، وقد عبر ذلك بقوله: لم يكن الإنسان في أية مرحلة من مراحل تاريخ المعرفة البشرية مشكلا بذاته أو ملغزا قدر ما أضحى مشكلا لنفسه اليوم. ويفسر ذلك بأن معارفنا العلمية والفلسفية واللاهوتية والأنثربولوجية تتجاهل بعضها البعض وحتى نمو المعارف وتكوثرها فقد راكم طبقات رمادية من الغيوم على جوهر الإنسان عوض إجلاء فكرته وحل غموضه. وهذا التشخيص هو الذي يبرر للفكر الفلسفي الطمع في إعادة بناء فلسفة في الثقافة.

فكيف يمكن مساءلة تاريخ معرفة الإنسان لنفسه بالانطلاق من نفس المشروع والبحث عن شروط إمكان معرفة الإنسان لنفسه؟

2- أولوية الذات في تاريخ الفكر:

إن أهم شيء في العالم هو أن نعرف كيف نكون بالنسبة إلى ذواتنا – مونتاني-

عند معالجته لإشكالية أولوية معرفة الذات يذكر كاسرر مدرستين متناقضتين من تاريخ الفكر الفلسفي وهما الريبية والديكارتية. ويرى أن ما قامت به الريبية هو أنها سارعت بتمييع الوجود الخارجي وافتقاده لصلابته ورده إلى مجرد إحساسات ومشاعر وذلك عندما جعلتنا لا ندرك من العالم الخارجي سوى ما نحس به رغم علمها بأن احساستنا متغيرة وداثرة وأن الوجود المادي لا يملك من الصلابة والموضوعية التي تدعيها له الوثوقية. وقد بين هيجل في فنومنولوجيا الروح أن الريبية هي الفلسفة بإطلاق لأنها تشك بالفعل لا بالقول وتفتت الوجود الخارجي وذلك برده إلى جملة من التصورات، ولكن على قدر ما تشتت الوجود وتبدده في تصوراتنا تكتسب الذات المفكرة ثقتها في نفسها وتشعر بتفوقها على الأشياء الخارجية. إن الريبية هي فلسفة الذات المنتصرة على الأشياء بقدر ما تزيد من درجة شكها في الأشياء تكتسب اليقين من وجودها الذاتي، وهذا الأمر ذكره كانط عندما اعتبر الريبية فلسفة الذاتية المنتصرة على الوثوقية لأنها انعطاف الفكر إلى ذاته وهو موقف انسانوي يدعو الفكر إلى العودة للذات والإقامة في موضعه وذلك برفض اليقين الموضوعي.

 إن أهم ما في العالم الحديث الذي دشنته الثورة العلمية مع ديكارت هو أن يكون المرء نفسه ويكتشف الفكر لنفسه عوض أن يتيه ويلف ويدور في الخارج وبالتالي وضع ديكارت إشكال الإنسان في صدارة فلسفة الذات التي بدأت من بداهة وجودنا الذاتي التي سمتها النقطة الأرخميدية وجعلها تتحرك ضمن عقلانية العصر الحديث مركز ثابت لكل فكر منهجي يتقصى الطبيعة البشرية.

تشير فكرة عودة الفكر إلى ذاته إلى أن المنهج الملائم لهذا الالتفات إلى الذات إنما هو الاستبطان Introspection  باعتباره منهجا فلسفيا، والمقصود هنا أن الكوجيتو الديكارتي لم يستيقظ لذاته ولم يدرك ذاته إلا من خلال الشك بماهو عملية وضع الوجود في العالم كله بين قوسين. إن الكوجيتو هنا ينبجس من ظلمات الشك في غياب تام عن العالم وبالتالي فإن فكرة الاستبطان تشهد على تغير في المجرى الروحي من الخارج إلى الداخل ومن النظر البراني إلى النظر الجواني.

على هذا النحو تكون مقاربة مشكل معرفة الذات من زاوية منهج الاستبطان غير بعيدة عن الشك الريبي. إذ بدأت الفلسفة الحديثة مع المبدأ الذي يجعل بداهة وجودنا الخاص أمرا لا يمكن المساس به أو الشك فيه. لكن تطور المعرفة النفسية لم يؤيد في أي شيء المبدأ الديكارتي بل إن الميل العام في فكرنا توجه نحو القطب المضاد، إذ يعتقد أغلبية علماء النفس أن الاستبطان منهج غير يقيني ويستبدلونه بالمنهج السلوكي. لكن كاسرر يستدرك آمره ويصرح:انه في وسعنا نقد وجهة النظر الاستبطانية أو الحذر منها ولكن ليس في وسعنا الاستغناء عنها. إذ دون الاستبطان ودون وعي مباشر بالأحاسيس والعواطف والإدراكات والأفكار لا نقدر حتى على تحديد وتعريف الحقل النفسي الانساني. كما أنه إذا اقتصرنا على هذا المسلك فقط لا نقدر إطلاقا على بلوغ الطبيعة البشرية في مجموعها.

لكن كاسرر يعي المصاعب التي يفع فيها منهج الاستبطان ويعود إلى علم النفس التجريبي وبالتحديد إلى السلوكية التي تقوم على ملاحظة السلوكات البشرية على النمط التي تشاهد بها بقية الظواهر الطبيعية، وكأن علم النفس البشري لا يختلف عن علم النفس الحيواني وقانون الإثارة والاستجابة هو الإطار العام لبناء علم نفس إنساني. غير أن كاسرر يعترف بأن الاستبطان يقبل النقد والمراجعة على فعل برجسن ولكن لا يمكن التخلي عنه نظرا لأنه منهجا ضروريا للنفاذ إلى جوهر الإنسان وباطنه.

إذا كانت الفلسفة قد عرفت منزعين الأول يدفع بالفكر إلى خارج الفكر والثاني يدعو الفكر إلى أن يعود إلى ذاته فإن كاسرر يقلب التاريخ لفائدة البناء المنطقي ويضع أرسطو ممثل المنهج الثاني في مقام أول بالمقارنة مع أفلاطون ممثل المنهج الأول. لقد أعلن المعلم الأول منذ العصر الإغريقي التراجيدي للفلسفة بعبارة نيتشه أن كل معرفة إنسانية تجد أصلها في ميل جوهري للطبيعة يتجلى في الأفعال وردود الأفعال الأكثر خصوصية عند الإنسان وهذا الميل يخترق كل امتداد وحياة الإنسان.

 في السياق نفسه يقول أرسطو في افتتاحية كتاب الميتافيزيقا:كل إنسان يرغب بالطبع في المعرفة وعلامة ذلك ما نجده من متعة في حواسنا، وبصرف النظر عن استعمال الحواس للعمل بطريقة ناجعة فإننا نحبها لذاتها وأكبر الحواس وأشدها متعة عندنا هي النظر.

هذا المقطع يظهر الخصومة الأفلاطونية الأرسطية حول علاقة الكلي بالجزئي معرفة ووجود، إذ لا يمكننا أن نعثر عند أفلاطون على أي نوع من أنواع البناء الفلسفي على قاعدة الحواس لأن المعرفة والحقيقة ينتميان إلى مجال مفارق للعالم المنظور وهو مجال الأفكار والرغبة في المعرفة لا سبيل إلى مقارنتها باللذة المتأتية من الأحاسيس. في المقابل يعتمد أرسطو البيولوجيا كنموذج علمي يثبت أن فعل الإدراك وحده لا يكفي للحصول على المعرفة بل يجب أن يقترن ذلك بنوع من البهجة الحسية التي نعبر عنها باستخدام ألفاظ الحياة خصوصا وأن هناك تواصل واستمرارية في الطبيعة وفي المعرفة بحيث تتطور الأشكال العليا بالانطلاق من الأشكال الدنيا. حسب أرسطو إن الحواس والخيال والذاكرة والفاهمة والمتوهمة والعقل هي مستويات مختلفة وتعبيرات متعددة لنفس النشاط الجوهري الذي يحقق أعلى درجات كماله في الإنسان، وهي كلها أمور موحدة ومشدودة إلى بعضها البعض برباط وثيق.

يؤول كاسرر هذا التصور البيولوجي بإقراره أن الدرجات الأولى للمعرفة الإنسانية تقيم علاقة صارمة ومتينة مع العالم الخارجي بحيث يرتبط الإنسان في كل حاجياته العضوية ومصالحه العملية بمحيطه الفيزيائي، فهو لا يستطيع أن يحيا ويواصل حياته إلا إذا تكيف تدريجيا مع شروط العالم الذي يحيط به.

وبالتالي يجب أن نصف الخطوات الأولى نحو الحياة العقلية والثقافية للإنسان على أنها أفعال تتضمن نوع من التكيف الذهني مع المحيط المباشر. ألا انه بالقياس إلى تطور الثقافة فإننا نكتشف ميل مضاد للطبيعة البشرية وهو ما عبر عنه روسو بقوله: إن الإنسان حيوان قد فسد.

حجية هذا القول أنها تجعل أرسطو ينخرط في فلسفة الطبيعة وآيتنا في ذلك أن فكرة الرغبة مستقلة عن فكرة الجدوى والنجاعة وهي لذة مطلوبة لذاتها لا الغاية المنشودة منها. لكن قبل ذلك كيف تم استدعاء الفلسفة مع سقراط إلى أن تكون معرفة الذات لذاتها وتحلت بعد ذلك إلى حركة التفاف للفكر على ذاته؟

إن الأطوار الأولى للمعرفة الإنسانية تتعلق بالعالم الخارجي وحده، فالإنسان يرتبط في أولى حركاته بالعالم المحيط به ووسطه ساعيا إلى تحقيق حاجياته المباشرة واهتماماته العملية والى التأقلم مع الوسط الذي يعيش فيه. ولكن إلى جانب ذلك نجد اتجاه آخر مرتبط بظهور الوعي الانساني ويرسم ظهور الثقافة الإنسانية ويتمثل في بروز نزعة باطنية تبحث من خلالها الذاتي عن معرفة ذاتها وتنتج بعض التفسيرات الأسطورية والأشكال الثقافية. وهنا تسير التفسيرات الأنثربولوجية جنبا إلى جنب مع التفسيرات الكوسمولوجية ويكون السؤال عن أصل الكون هو مرتبط أشد الارتباط بالسؤال عن أصل الإنسان. وحتى ظهور الأديان فإنه لم يؤدي إلى إلغاء هذه الأشكال الأنثربولوجية والكوسمولوجية بل عمقها وخلق عليها شكلا جديدا.

على هذا النحو فإن معرفة الذات ليست مجرد اهتمام نظري ولم تكن موضوع فضول من طرف بعض أشخاص دون غيرهم وإنما هي واجب أساسي من الواجبات التي ينبغي أن يؤديها كل إنسان، والمفكرون الكبار هم أول من غرس تلك القناعة بضرورة أن يعمل الإنسان على الاعتناء بنفسه على صعيد الإحساس والمشاهدة والمعرفة والتقدير الذاتي. كما أن جميع الأشكال الكبرى للحياة الثقافية والدينية والاجتماعية تنطلق من احترام المبدأ التأسيسي الأول: اعرف نفسك بنفسك، وهو مبدأ يأخذ شكل الأمر القطعي والقانون الأخلاقي والسياسي والحكم الديني.

ان ظهور هذا المبدأ يمثل انقلابا قيما في مستوى اهتمامات البشر من التطلع إلى العالم الخارجي إلى العناية بالذات والاهتمام بالعالم الباطني. لكن ثمة مفارقة تطرح بخصوص الاستبطان فهو من جهة يعاني من عدة نقائص ويقسم الذات إلى شطرين ومن جهة ثانية يبدو لأمرا ضروريا من أجل معرفة الإنسان لنفسه، فكيف سيبقي كاسرر على وجهة النظر الخارجية ممثلة في البرغماتية الطبيعية وعلى وجهة النظر الباطنية ممثلة في برجسن في الآن نفسه؟

سؤال ما الإنسان يتخذ شكل الواجب الأخلاقي والديني لا بالنظر إلى الطبيعة بل بالنظر إلى منطلق الحياة الإنسانية والاجتماعية وهو معنى الحوار الذي دار بين سقراط وفادر حينما أطل سقراط على سور المدينة فرأى المناظر الجميلة فسأله فادر كأنك لم تتجاوز سور المدينة فأجابه سقراط بأن محب الحكمة إذا ما أراد أن يتعلم شيئا فأنه يطلب ذلك من سكان المدينة لا من أشجار الغابة. فالسؤال الفلسفي والحقيقة تستنبط من حياة الناس لا من وضع الطبيعة كما قال هيجل:ما يعلمني شيئا هو التاريخ وليس الطبيعة. هكذا حدث التحول من الطبيعة إلى الإنسان ومن علاقة الإنسان بالطبيعة  إلى علاقة الإنسان بالتاريخ حيث يوجد الآخر الانساني. لكن لماذا تحاشى سقراط إعطاء تعريف للإنسان واسترسل في الحديث عن الفضائل الفردية مثل الخير والعدل والاعتدال والتوسط والشجاعة؟ هل هذا العزوف السقراطي عن تعريف الإنسان هو الذي أدى به إلى أن يكون مركز الاهتمام في التفكير الفلسفي من ألفه إلى يائه؟

إن المسألة لا تتعلق بتحاشي تعريف الإنسان بقدر ما تعني الكف عن مقاربته من زاوية مقاربة الطبيعة. والمطلوب هو أن نواجه الإنسان وأن تلتقي به بدقة لغرض فهمه. إن حقيقة الإنسان بماهو موضوع التأمل الفلسفي إنما هو مسألة إنسانية والمرور بالفكر بماهو حديث النفس إلى المحاورة ومجادلة الآخر يجعل من الفعل المعرفي فعلا اجتماعيا وبالتالي يجعل من الإشكال الأنثربولوجي إشكالا سياسيا ويطرح مسالة التواصل. فأن تسأل ما الإنسان؟ هو أن تسأل ماهي الطرق الضرورية لتدبير المدينة؟ وماهي منزلة الإنسان في المدينة بعدما تبينت منزلته في الكون؟ وكيف انطرحت الحكمة السقراطية في التأمل الأفلاطوني والتعقل الأرسطي؟ وهل أعادت الرواقية الانشغال ما قبل السقراطي عندما فكرت في الإنسان والطبيعة معا؟وكيف سيعيد ديكارت تشغيل التفكير في الذات بمعزل عن الطبيعة والمجتمع والسياسة؟

3- الرمز طريق الإنسان إلى فهم نفسه:

إن الإنسان لا يحيا في كون مادي بشكل صرف بل في كون رمزي.

طرح كاسرر سؤالا حول إمكانية توظيفه للنتائج التي توصل إليها عالم البيولوجيا يوهانس في فهم الطبيعة البشرية وخاصة مصطلح الدائرة الوظيفية الذي اكتشفه لدى الحيوان، فهل يمكن أن يستعمل الفيلسوف هذه الصورة التي يقترحها يوهانس لوصف وتخصيص العالم الانساني؟ لكن قبل ذلك ما حقيقة الكشوفات التي طورها يوهانس في البيولوجيا؟ وماذا سيأخذ منها كاسرر؟

لقد وجه يوهانس بحوثه نحو دراسة العضويات الصغرى الجزئية ثم وسعها بشكل تدريجي لتشمل أشكال الحياة العضوية وكانت الخلفية الابستيمولوجية التي تحركه هو رفضه للتقسيم الأرسطي بين أشكال دنيا للحياة وأشكال عليا لها لاسيما وأنه ظل يؤمن دائما بأن الحياة هي دائما وأبدا تامة ومتشابهة سواء في الوسط الضيق أو في الوسط الشاسع وأن كل عضوية ليست فقط متأقلمة مع وسطها بل تحتوي في بنيتها التشريحية على جهاز بثeffecteur  وجهاز استقبالrécepteur  يمكنها من التواصل مع هذا الوسط. ولا تستطيع العضوية دون تعاون هذين الجهازين ودون تحقيق التوازن في الوظيفة بينهما أن تستمر في البقاء وتتشبث بالحياة لاسيما وأن جهاز الاستقبال الذي تتقبل به العضوية المنعكسات الخارجية وجهاز البث الذي ترسل به ردود أفعالها تفاعلا مع هذه المنعكسات هما متلازمان ومتحدان ويشكلان عنصران من سلسلة واحدة هي الدائرة الوظيفية  Cercle fonctionnel للكائن الحي. فكيف سيستفيد كاسرر من هذه البحوث ويعيد بناء نظرته إلى عالم الإنسان.

في هذا السياق يصرح كاسرر: إن الدائرة الوظيفية للإنسان ليس فقط قد توسعت بل إنها قد شهدت تغييرا نوعيا. إن الإنسان قد اكتشف طريقة جديدة للتكيف مع الوسط. علاوة على نظامي البث والاستقبال التابعين لكل كائن حي يوجد عند الإنسان حلقة ثالثة يمكن أن نسميها النظام الرمزي وهذا المكسب الجيد يحول مجموع الحياة الانسانية.

من الواضح للعيان أن هذا العالم البشري لا يمثل استثناء بالنسبة إلى القوانين البيولوجية التي تخضع لها حياة كل العضويات الأخرى، لكن هناك عنصر جديد يتدخل وهو يمثل علامة مهمة مميزة للحياة الإنسانية ويتمثل في أن الدائرة الوظيفية للإنسان ليست فقط موسعة بل أخضعت إلى تغيير نوعي وأضيف إليها عنصر الرمز. إن الإنسان قد اكتشف منهجا جديدا للتكيف مع الوسط، إذ علاوة على نظام البث ونظام الاستقبال الموجودين عند كل نوع حيواني توجد عند الإنسان حلقة ثالثة تسمى النظام الرمزيsystème symbolique. هذا البعد الجديد الذي وقع اكتشافه أحدث تغييرا جذريا في نظرة الإنسان إلى نفسه وفي مجموع الحياة الإنسانية، إذ بالمقارنة مع أنماط الحياة الأخرى لدى الكائنات فإن الإنسان لا يحيا في واقع أكثر اتساعا بل انه يعيش في بعد جديد من الواقع هو البعد الرمزي. هناك فرق أصلي حسب كاسرر بين التفاعلات العضوية والاستجابات الإنسانية، إذ في الحالة الأولى هناك استجابة مباشرة وفورية للمثير الخارجي وفي الحالة الثانية فإن الجواب يختلف بل يستوجب توفر وسيط زمني أو رمزي وبالتالي قد يتأخر الرد أو يضيع عبر مسار طويل ومعقد للفكر.

إن الإنسان لا يستطيع أن يوجد في حضور مباشر أمام الواقع فهو لا يستطيع أن يكون وجها لوجه معه بل إن الواقع المادي يظهر أنه متأخر بالقياس مع تطور النشاط الرمزي للإنسان ولذلك يساعد الرمز الإنسان من رؤية العالم المحيط به بوضوح وجلاء ومن الفعل والتأثير في الطبيعة تأثيرا ناجعا ونافعا. من اليين إذن أن الكون العملي للإنسان ليس كون مليء بالوقائع الخام أين تحيا الرغبات الحسية والحاجات المباشرة بل هو كون مليء بالتأثيرات والأوهام والأحلام والأمنيات وتلعب الرمزية دورا بارزا في الربط بينها.

 انه يقيم علاقة مع الأشياء ذاتها وبعد ذلك يدخل في علاقة ذاتية مع نفسه وهوة محاط بأشكال لغوية وصور فنية ورموز أسطورية وطقوس دينية ونظريات علمية ومفاهيم فلسفية ومنتوجات تقنية، كما أنه لا يستطيع أن ينظر أو يعرف دون تدخل هذا العنصر الثالث التوسطي والصناعي.

إن الذي يحيك الشبكة الرمزية هو هذه الخيوط المختلفة وهي نسيج متشابك من التجربة الإنسانية وأي تقدم في الفكر والتجربة الانسانيتين يزيد من تعقد هذه الشبكة ويقويها.

إن اللغة والأسطورة والدين والفن كلها عناصر يتكون منها هذا الكون وجملة من الخيوط المتنوعة التي حيكت منها الشبكة الرمزية العاكسة للتجربة الإنسانية وكل تقدم في الفكر والتجربة الإنسانيتين يعقد هذه الشبكة ويعطيها دفعا قويا. هنا يعلن كاسرر أنه يستطيع الآن أن يستأنف مشروع البحث عن الذات ويصلح التعريف الكلاسيكي للإنسان بتوسيعه بالاعتماد على توصل إليه الفكر من اكتشاف لأهمية البعد الرمزي. إن القول بأن الإنسان حيوان رامز لا يعني التخلي عن التعريف القديم القائل بأنه حيوان عاقل بل هو توسيع له بما أن العاقلية هي أهم تجلي من تجليات الوظيفة الرمزية للإنسان. إذ رغم كل المحاولات اللاعقلانية فإن تعريف الإنسان على أنه حيوان عاقل لم يفقد شيئا من قوته بل إنها عززت الرأي الذاهب إلى اعتبار العقلانية والعاقلية والتعقل هي خاصية متجذرة في كل النشاطات الإنسانية الثقافية.

ان الثقافة في مجملها يمكن ان تكون مسار التحرر التدريجي لذات الانسان واللغة والفن والدين والعلم هي اللحظات المتتالية لهذا المسار. اذ في كل مرحلة من هذه المراحل ينكشف الانسان ويختبر قدرة جديدة هي بناء عالم جديد والبحث عن وحدة جوهرية في هذا العالم المثالي المبني.

إن الأساطير ليست جملة من الخرافات الفارغة من المعنى ولا أخطاء فادحة تشير إلى الفوضى بل تمتلك صورة نسقية ومفهومية ولها منطق داخلي وليس هناك تنافر أصلي بينها وبين العقل. كما أن العلاقة بين العقل واللغة ليست علاقة أداتية يكون فيها هو المركز والغة هي الوسيلة بل إن اللغة هي منبع العقل نفسه والعقل هو المحرك الذي يغذي اللغة ويجدد لها شبابها. غير هذا التعريف لا يغطي الحقل اللغوي لأنه إلى جانب اللغة العقلانية المنطقية المفهومية توجد لغة عاطفية مجازية رمزية هي لغة المخيلة الإبداعية Imagination poétique.

ما يراه كاسرر هو أن اللغة لا تعبر فقط عن المثل والتصورات والأفكار فحسب وإنما أيضا عن الأحاسيس والمشاعر والانطباعات وخلجات القلب وانقباضات الوجدان، وحتى عندما يكون الدين في حدود العقل فإنه يبقى تجريد بسيط ولا يمثل سوى شكل مثالي وظل باهت عن حياة دينية ثرية ومتعينة بشكل شخصي ولذل ينبغي إعادة تعريف الدين من خلال الرمز والقول بوجود رمزية  دينية.

 إن كل أشكال الحياة الثقافية للإنسان في ثرائها وتنوعها بما في ذلك اللغة والدين والأسطورة هي أشكال رمزية وبالتالي عوض أن نعرف الإنسان على أنه حيوان عاقل  ينبغي أن نعرفه على أنه حيوان رامز وبالتالي نستطيع أن نشير غالى فرقه النوعي ونفهم الطريق الذي انفتح أمامه انه طريق الحضارة والمطلوب هو عدم التردد في المضي قدما فوقه.  إن الرمز هو ركن أساسي من أركان فلسفة الثقافة وان الفكر البشري ما انفك ينتج رموزا هي بدورها تخلق عالما له دلالة وخاص بالإنسان. لكن عندما لا يأخذ الفكر مسافة نقدية من الرمز فإن هذا الأخير يتحول إلى أسطورة تعمل هي بدورها على فقدانه لاحداثياته.

في نهاية المطاف ليس الإنسان كائنا جامعا بين العضوية والروحانية بل هو كائن ينشد وينتج المعنى والسؤال المركزي الذي لا يمله أبدا هو كيف نحقق المصالحة بين النفس والجسد بحيث يسهمان جنبا إلى جنب في عملية صناعة المعنى؟

خاتمة:

العقل أو النطق اصطلاح ناقص لا نستطيع عن طريقه وحده فهم أشكال الحضارة الإنسانية في ثرائها وتنوعها وكل هذه الأشكال رمزية وعلى هذا الأساس بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا فإن علينا أن نعرفه باعتباره حيوانا رامزا.

مقال عن الإنسان هو كتيب ألفه كاسرر بعد حلوله بالعالم الحر سنة 1941 حيث طلب منه بعض الأصدقاء الأمريكيين تلخيص كتابه الكبير فلسفة الأشكال الرمزية الذي ترجم من الألمانية إلى الأنجليزية ولكنه ضم نظرية عامة في الأسطورة واللغة والفن والتاريخ والعلم تتأسس على نظرية مركزية في الوظيفة الرمزية. وقد حاول الفيلسوف الألماني أن يوضح المكتسبات النظرية والنتائج العملية التي وصل إليها في مؤلفاته اللغة (1923) والفكر الأسطوري ( 1925) وفنومنولوجيا المعرفة (1929) ولكن ينبغي أن نشير إلى كتابات الشباب عند كاسرر حول تاريخ الفلسفة والتي تمحورت حول الفرد والكون في عصر النهضة ومشكل جان جاك روسو والأنوار وهيجل وتطورت إلى مفاهيم الجوهر والوظيفة.

 وقد ضم هذا المقال حول الإنسان فصولا حول أزمة معرفة الذات واعتمد على الرمز بماهو مسار نحو طبيعة الذات وقارن بين ردود الأفعال الحيوانية والاستجابات الانساني وحول وصف العالم الانساني للزمان والمكان وميز بين الوقائع والمثل. ولكن القسم الثاني من المقال اهتم فيه بعلاقة الإنسان بالثقافة وحاول تعريف الإنسان من وجهة نظر الثقافة وتوصل إلى كونه حيوان رامز. وقد تعرض بعد ذلك إلى بعض الأشكال الثقافية مثل الأسطورة والدين واللغة والفن والتاريخ والعلم دون أن يهمل الاهتمام بالعلاقة بين النظرية الرمزية والألسنية البنيوية وذلك بأن أخرجها إخراجا فلسفيا يليق بها.

إذا كانت الميتافيزيقا التأملية قد فقدت طموحاتها النظرية مع النقد الكانطي فإن الإيمان بوجود غائية للحياة الإنسانية قد قوضه كل من نيتشه ودارون وفرويد وان كاسرر يؤمن بأن طرح المسألة الأنثربولوجية مازال يمتلك وجاهة وراهنية وأن الفلسفة الأنثربولوجية ينبغي أن تستثمر وتفكر في عالم الثقافة من أجل تستكمل معرفة الداخل الذي تهتم به فلسفة الروح. عندئذ يحافظ كاسرر على فكرة التقدم والفرد والجسم الاجتماعي ويرى أن الثقافة هي مسار تاريخي للبناء ولتحرير الذات.

إن معرفة الذات هي أسمى غاية للبحث الفلسفي وهذه الحقيقة يبدو أن جميع الناس يقروها بتفاوت طفيف، إذ رغم كل الخصومات التي قامت بين المدارس الفلسفية المختلفة فإن هذه الغاية بقيت ثابتة لا تزعزع وظلت مطمح كل الاتجاهات. علاوة على أن معرفة الذات هي الشرط الأول والأساسي لتحقيق الذات وانجازها، إنه لكي نبلغ الحرية الحقيقية ينبغي أن نحطم السلسلة التي تربطنا بالعالم الخارجي.

لقد واجه كاسرر تصورين متناقضين هما التصور الديني والتصور العلمي وذلك بأن أوجد تطورا فكريا بطيئا ارتقت بمقتضاه مسألة ما الإنسان؟ إلى مرتبة جديدة. إن الشيء المهم هنا لا يتمثل في اكتشاف معطيات جديدة بقدر ما يدور حول اكتشاف وسيلة جديدة للتفكير حيث لا يكون الجديد في رؤية وقائع كنا نجهلها وإنما بالتعرف على نمط جديد من التفكير. إن العلاقة بين القديم والجديد لا تنحصر في ازدياد كمي في المعرفة بقدر ما تطرق التغير النوعي لها، بعبارة أخرى إن المحدثين ليسوا بالضرورة أولئك الذين يعرفون أكثر من القدماء وإنما أولئك الذين يفكرون بأسلوب مغاير للقدماء.

هذا التغير هو الروح العلمية بالمعنى المعاصر للكلمة والتي أعطت لإشكال ما الإنسان؟ بعدا جديدا. تقوم هذه الروح العلمية على أساس خبري يتمثل في البحث عن نظرية عامة في الإنسان بالاعتماد على ملاحظات تجريبية واستنتاجات منطقية. لقد عبر كاسرر عن هذا الانقلاب الابستيمولوجي في طرائق التفكير عبر خلخلة وكسر كل الحواجز الاصطناعية التي قامت حتى القرن 19 بين عالم الإنسان وعالم الطبيعة. لكي نفهم نظام الأشياء الإنسانية يجب أن نبدأ بفهم نظام العالم. إن نظرية الإنسان تتنزل ضمن نظام الكون وان الكوسمولوجيا هي شرط إمكان الأنثربولوجيا.  على هذا النحو يرفض كاسرر تعريف الإنسان على أنه حيوان اجتماعي ويسند إليه تعريفا آخر يقوم بالأساس على الثقافة التي تميز الطبيعة البشرية ويتمثل في أن الإنسان هو قبل كل شيء منتجا للرموز.

يضيف حول هذا الموضوع: ما دام الإنسان قد تجاوز العالم المادي فإنه قد أصبح يعيش في عالم رمزي وما اللغة والأسطورة والفن والدين إلا أجزاء من هذا العالم، فهذه هي الخيوط المتنوعة التي تنسج منها الشبكة الرمزية، إنها النسيج المعقد للتجربة الإنسانية وكل التقدم الانساني يرهف من هذه الشبكة ويقويها.

يقوم كاسرر في كتاب فلسفة الأشكال الرمزية بتحليل اللغة والأسطورة والدين أو العلم بوصفها مقولات كبرى للثقافة والتي ساعدته على توسيع الفلسفة الترنسندنتالية عند كانط على حياة الروح. ماهو مشهور من حياة كاسرر هو مشاركته عام 1929 في دافوس في سويسرا ودخوله في نقاش مع هايدغر الذي يعيب على كانط إهماله للسؤال الأنطولوجي. و رغم الاختلاف فإن العلاقة بين الفيلسوفين تواصلت إلى حد صعود النازيين سنة 1933 وفرار كاسرر إلى السويد وبعد ذلك السفر إلى الولايات المتحدة.

يستدعي كاسرر التراث الكانطي من أجل فهم كيفية بناء الذات للتمثلات وكيف تكون هذه التمثلات صالحة بشكل كوني ويكشف عن قدرة الذات على الانتصار على التناهي عن طريق إمكانية حصولها على حقائق ثابتة وموضوعية وضرورية من خلال التجربة الأخلاقية والتفكير الرياضي.  يهتم كاسرر بانتاجات العقل بإدماج الاكتشافات العلمية المعاصرة في الفيزياء النووية والألسنية وتحليل الأساطير. لكن هذا التركيز على البعد المعرفي والأنثربولوجي هل يعني عدم اكتراث من طرف كاسرر بالمسالة السياسية؟

في الواقع كان طموح كاسرر عند تأليف كتيب أسطورة الدولة هو تفسير الظاهرة النازية من خلال التعرف على البناء الميثولوجي الذي يمثل الدولة في أوروبا حيث تحدد الأشكال الثقافية والسياسية عن طريق الفروق بين الأعراق. يعالج كاسرر العلاقة بين السياسة والأخلاق وصعود القومية ويبدي إعجابه مكيافالي ومسألة حسن استعمال السلطة ويعتبر كل من شبلنجر وهايدغر مسؤولين عن تشكل رؤية قدرية لعالم الثقافة تؤمن بالنهاية والكارثة حيث يكون الإنسان غير قادر أن يهتدي بأنوار العقل وإنما ملقى به في عالم يجهل فيه مستقبله المظلم. من هذا المنطلق حاول كاسرر دراسة الأصل والبنية والوظيفة التي تخص الأساطير التي ترتكز عليها الدول من أجل تفكيكها والعمل على مواجهتها.

إن التوجه الذي ينخرط فيه كاسرر هو وعي نقدي بالزمن يمارس نوعا من التمرين النشط للحرية. بقي الإشكال الذي يثيره بعض المؤرخين حول مساهمة كاسرر في تهيئة الظروف لبروز النزعة البنائية في الإبستيمولوجيا المعاصرة، فإلى أي مدى كان كاسرر فيلسوفا أنثربولوجيا ينتمي إلى الكانطية الجديدة وفي نفس الوقت أحد المفكرين البنائيين قبل الآوان؟

* كاتب فلسفي

....................................

المراجع:

Aristote, Métaphysique, livreA1, 980a 21, traduction Tricot. Edition Vrin.

CASSIRER, Ernst, Essai sur l'homme, trad. de l'anglais par Norbert Massa, Paris, Editions de Minuit, 1975, collection le sens commun.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 14/آذار/2010 - 27/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م