لو
غابت صورة الشرق المسبقة لجاء من الباحثين والنقاد والمفكرين والبشر من
لا يولون لضروب التمييز العنصري والعرقي والقومي الأهمية التي يولونها
للجهد المشترك في سبيل تعزيز التواصل والترابط البشري
توطئة:
لقد فرض مشكل الهوية نفسه في السنوات الأخيرة على الجميع وبقوة
وأصبح يتدخل حتى في الطرق البسيطة للناس في التفكير والفعل والشعور.
وازداد الأمر حدة بعد تفجر العولمة واحتدام الحروب بين الأديان والصراع
بين الثقافات. وقد تنزل على المقياس الاجتماعي في صورة الهوية الثقافية
وعلى الصعيد الفردي في شكل الهوية الشخصية.
ومن هذا المنظور أصبح لفظ الهوية مصطلحا باهتا ومفخخا ويتطلب اتخاذ
مسافة نقدية معه. إذ يقود التناول الثقافي إلى اعتبار الهوية اعتبارا
ماهويا ويسبب مواجهات ونزاعات تبدو البشرية في غنى عنها من أجل تجاوز
حالة العنف وتوطيد أركان السلم. كما يسند التناول الفردي فكرة الجوهر
إلى موجود شخصي حيث ينظر إلى الأنا على أنه اسطوانة تدور حولها كل
معطيات الوجود الذاتي في حركة دائمة.
في هذا الإطار تعالت الأصوات من أجل الشروع الجدي في تحقيق الذات
واكتشاف الوجود الشخصي الباطني أو الأصيل وقد رسم التصور البنائي بشكل
جدي الرهانات ووضع الحدود بالنسبة لقضية الهوية سواء الجماعية أو
الفردية.
إن التفكير النظري يلعب هنا دورا أساسيا من أجل التحرر من التصورات
المشتركة والأحكام االمسبقة الجوهرانية والقطع مع أسطورة الحميمي
والكيفيات الخاصة التي غذت صدام الثقافات ووقفت وراء تصنيفات محور الشر
ومحور الخير. إن الاستغراق في التفكير في شرطنا الانساني واتخاذ الوقت
الكافي لذلك يكشف عن زيف الحركة العائدة إلى الأصل الأول ووهم القول
بوجود كائنات منعزلة وأشياء خالصة وأعراق نقية.
يزداد الرهان قيمة عندما يكون رفض الآخر هو الشرط الذي ينبغي
توفيره من أجل إثبات الهوية والمحافظة على تماسك الثقافة الخصوصية
وصيانتها من كل اختراق أو تهديد خارجي. لكن المفارقة التي ينبغي
الإشارة إليها هي أن الآخر في زمن الأنترنت والعولمة وبعدما وقع
اعتباره يشكل تهديدا افتراضيا ظل دائما غير مفهوم ووقع رسمه في شكل
كاريكاتوري من أجل المسارعة بتحديد هويته.
إن حصول الأنا على كم هائل من المعلومات هو أمر ضروري من أجل فهم
الغيرية الثقافية والاجتماعية للآخر. وان إثبات الهوية ليس بالأمر
الهين بل مسألة دقيقة ومطلب شائك لاسيما وأن الهوية ليست لأمرا قابلا
للتحديدات بشكل نهائي بل تظل محل بناء سواء على المستوى الجماعي أو
الفردي. وربما الرهان النظري يتمثل في معرفة الآليات والخلفيات
المنطقية التي تسمح ببناء الهويات الثقافية والشخصية.
إن قضية الهوية تثار داخل الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية
والأنثربولوجيا وعلم النفس التحليلي وتجرى النقاشات الحادة بين
المختصين ولكن هدف الجميع هو وضع حد التمثلات التي تسلم بوجود طبيعة
هوياتية وهوية واحدة لحياة الأشخاص والمجموعات. فهل الإصرار على امتلاك
هوية شخصية بالنسبة للأفراد والاعتراف بواقع تعدد الثقافات بالنسبة
للجماعات يمثلان عائقا يحول دون بناء الحضارة الكونية؟
ماهي المسلمات والفرضيات الضمنية التي ترتكز عليها الخطابات
والقرارات بشأن قضية الهوية؟ ما الفرق بين الثقافات القومية والحضارة
الكونية؟ ألا توجد مفارقة في حرص البعض على الأصالة والمحافظة على
الخصوصية والبحث عن طرق التحديث ومواكبة العصرنة وتبني وجهة نظر
العقلانية العلمية والتقنية؟ ألا يجب التخلي عن الماضي الثقافي القديم
من أجل القيام بالتحديث؟ أم أن الأمر يتعلق بايقاظ ثقافة قديمة نائمة
من أجل المساهمة في صناعة الكونية؟ ماذا يحدث عندما تلتقي ثقافات
متنوعة ومختلفة؟ هل يؤدي ذلك إلى صراع الهويات وتصادم الخصوصيات
والتقاتل بين الجميع أم أن اللقاء يكون تفاعليا توليديا؟ لكن كيف يكون
التقاء ثقافات متنوعة ممكنا؟ وما مصير قيم بعض الهويات عندما تصطدم
بقيم ثقافات أخرى غازية ومتطورة؟ هل تموت بعض الخصوصيات من جراء
العولمة أم أن عدة ثقافات تحافظ على نواتها الخلاقة؟ فما الذي يمثل
الجوهر الإبداعي في أية ثقافة؟ وضمن أية شروط يمكن لهذه الإبداعية أن
تستمر؟ وهل انفتاحها على الآخر يهددها أم يثريها؟ وهل من حل بالنسبة
للهويات لمشكلات التواجد مع الآخر في العولمي؟ وماذا يعني أن تكون لك
هوية عالمية وأن تفكر وتتصرف كمواطن عالمي أي باعتبارك كسموبوليتيا؟
ما نراهن عليه هو تفادي المقاربة الانعزالية الانفرادية للهوية التي
ترى الكائنات البشرية أعضاء في جماعة واحدة وتقوم بتمييزهم على أساس
لغوي أو ديني أو عرقي وثقافي، والتوجه نحو بناء فهم أوضح لتعددية
الهوية الإنسانية من أجل أن يسود الانسجام والوئام والتفاعل بين مختلف
الخصوصيات.
1- الهوية الشخصية:
هنا مفهوم الشخص بوصفه غاية في حد ذاتها يأتي ليقيم التوازن مع
مفهوم الإنسانية لأنه يدخل في صياغة الأمر المطلق نفسه التمييز بين
شخصك وشخص كل بشري آخر. مع الشخص فقط تأتي التعددية.
لا تقتصر الهوية على ما يدركه الإنسان من ذاته بل تفيد بقاء الشخص
هو عينه على الرغم من تغير الأحداث التي تطرأ عليه بناء على شعوره
وتذكره للماضي، إن الإنسان يملك هوية خاصة به على امتداد حياته حتى في
ظل مروره بمراحل متعددة وخوضه لتجارب مختلفة. وتتمثل الهوية الشخصية
للإنسان في وعيه بذاته وعند لوك في اعتبار نفسه بمثابة الهو هو بوصفه
شيئا واحدا في أزمنة وأماكن مختلفة وما يفعله بدافع الإحساس فقط
بأفعاله الخاصة لا ينفصل عن الفكر بل يبدو ملازما له تماما.
إن المقصود هو أن الهوية ليست جوهرانية ماهوية كما هو الأمر عند
أرسطو ولا تقوم على تعالي الأنا أفكر عن العالم وعن الجسم المادي كما
هو الشأن عند ديكارت بل متعينة في المادة وتقوم على تمايز الأفراد عن
بعضهم البعض وتلازم بين الإحساس والفكر، ويضيف في السياق نفسه: بما أن
الإحساس يصحب دائما الفكر وأن كل امرئ يكون هاهنا هو عينه ما يسميه
الذات عينها كما أنه يتميز عن أي شيء آخر يفكر فمن هذا الناحية فقط
تكون الهوية الشخصية.
يترتب عن هذا أن الإنسان يتميز عن الشخص، فالإنسان يمثل عضوية لا
تختلف هويته عن هوية أي إنسان آخر، بينما الشخص هو محمول على ماهو مادي
ونفسي معا بما يمكنه من أن يعتبر نفسه هو هو. هنا يرفض لوك التصور
الميتافيزيقي الذي يختزل الهوية الشخصية في النفس ويعتبرها جوهرا
لاماديا ويرفض كذلك التصور الفزيولوجي الذي يماثل بين الأنا والعضوية.
من أجل توضيح فكرته يفترض لوك أمير تنقل ذاكرته وتزرع في جسد اسكافي
مما يثير الإشكال التالي: هل نكون أمام أمير يجد نفسه سجين جسد اسكافي
أم نحن أمام اسكافي يعتبر نفسه أميرا؟
لقد كان الجواب على النحو التالي: إن الموجود المتشكل من جسد
الاسكافي وذاكرة الأمير هو في نفس الوقت الإنسان عينه الذي يمثله
الأمير والاسكافي لكونهما يمتلكان نفس الجسد ومادمت الذاكرة مستمرة
الحضور بينهما. إن التذكر هو أساس استمرارية شعور الأنا باستمراريته
لأنه يستلزم بقاء الأنا المتذكر هو عينه. نستخلص من ذلك أن الهوية
الشخصية تحيل على ما تختص به الذات من تفرد ووحدة وتشمل الوعي بالذات
وتمثل الفرد لها وبالتالي تعني حقيقة الشيء أو ما يكون به الشيء نفسه،
فهي حقيقة الشخص المشتملة على صفاته الجوهرية العينية وتشير إلى
الخصوصية والوجود الفردي الذي لا يقع فيه اشتراك. ما يجدر ملاحظته هنا
هو أن نفهم الوجود الخاص هو أن نتموقع سلفا في ما وراء الخاص- وأن
نرتبط بماهو خاص هو أن نعرف دوما بواسطة ماهو كوني.
هكذا تقترب الهوية الشخصية من الهوية الذاتية والعينية وترتبط
بالوحدة والتماثل والتطابق والمساواة وقد عبر معجم روبارت عن ذلك
بتأكيده على أن الهوية تدل على الميزة الثابتة في الذات وركز على ماهو
متماثل سواء تعلق الأمر باستمرارية الفرد مع نفسه أو مع الأشياء
الخارجية.
إذا أردنا التوضيح أكثر فإننا نسمى هوية كل ما يتعلق بالتصورات
الماهوية سواء تعلق الأمر بالمقاربات الذاتوية التي تفهم الهوية على
أنها أنا ماهوي موحد وباطني أو بالمقاربات الموضوعية التي تفهم الهوية
على أنها ماهية جماعية أو ثقافية مطروحة على الأفراد.
ينبغي أن نتخلى عن ايديولوجيا التمركز على الذات ونعترف بوهمية
الأنا المحض أو المجرد ونشرع في مواكبة التطورات الفكرية التي قادت إلى
تفادي التعامل مع الهوية الشخصية على أنها جوهر موحد منفصل عن العالم.
إن الخطأ الذي وقعت فيه التصورات الفلسفية الحديثة هو أنها فصلت الفرد
عن العالم المادي والاجتماعي واعتقدت في وجود نواة ثابتة وأولية
وجوهرانية تحدد طبيعة الكائن البشري. في هذا الإطار ظهرت أفكار داخل
الفلسفة وعلم النفس التحليلي وعلم الاجتماع تحاول تفنيد الذاتوية
الفلسفية وترفض تعالي الأنا المطروح بكونه مقولة متعالية وتتحرك ضمن
باراديغمتين أساسيتين:
- الباراديغم الأول ناضل ضد التصورات التي تنظر إلى الهوية الشخصية
على أنها جوهر باطني ويمثله كل من ماركس ودوركايهم ويفكر في الهوية ليس
باعتبارها حائزة على طبيعة باطنية وأصلية لكائن بل على العكس من ذلك
بوصفها حصيلة اندراج هذا الكائن البشري ضمن مجتمع معين وتمثل بطريقة
ذاتية أساليبه في الشعور والفعل والتفكير.
- الباراديغم الثاني يتجه نحو توخي مسارات بنائية للهوية من خلال
منظورية تفاعلية وبعيدة كل البعد عن الماهوية ولكنه لا يغالي في طلب
اندماج الكائن البشري بالحياة الاجتماعية بل يتخذ مسافة منها ويضعها
موضع حوار وجدل ويكتفي بإعادة وضع الإنسان في العالم وإعادة نمذجة
البعد الاجتماعي. هنا يظهر الكائن البشري بوصفه فاعلا قادرا على تشييد
فضاء بينه وبين السندات الهوياتية التي يعتمد عليها من أجل إبداع هويته.
إن الهوية المتناولة في معناها الفردية تبدو اليوم مجرد مقولة
فضفاضة لأنها متمفصلة بالنسبة إلى المعرفة العالمة والفكر اليومي إلى
ثلاثة أفكار قوية هي: الوحدة والجوهر والباطنية. إن جهدنا سينصب على
إظهار أن هذه الأفكار الثلاثة ليست معطيات طبيعية لوجودنا بل قوتها
مستمدة من تخمين بعض النظريات ومن تمثلات فلسفية قديمة. إن المنظورات
الماهوية بعيدة كل البعد عن الحقيقة وغير قادرة على الصمود أمام
التطورات الملاحظة في مجال العلوم الاجتماعية خاصة والإنسانيات عامة.
على هذا النحو إن معنى الحياة والهوية لا يصدران إذن بأي شكل من جوهر
ما قبل هوياتي.
إن الهوية الشخصية هي مشابهة لنوع من البناء الموجود سلفا والذي
يقطنه الأنا ويفصله عن الهويات الفردية المنغلقة على ماهية معينة. إن
العمل على إدراج الإنسان في العالم الذي يحيط به يعني المرور من وضع
التعالي إلى حالة المحايثة والقول بأن الأنا المتعالي الذي ينظر إلى
نفسه على أنها جوهر مفكر لم يعد يعني شيئا كبيرا. لقد فقد الهوية
الشخصية مع هيوم ولوك وفرويد قداستها وأوليتها واندمجت بطريقة أو بأخرى
مع الحركة اللامتناهية للعالم. إن إفراغ الهوية الشخصية من كل حمولة
يعود إلى استحالة تحولها إلى فراغ وان مسار العلمنة هذا تقوم به
الفنومنولوجيا الاجتماعية والوجودية وينتهي بمنح دور للغير في انبثاق
الوعي بالذات. يمكن إضافة معاني الوحدة والباطنية إلى فكرة العلاقة
بالعالم خاصة عندما يعرف الشخص الانساني بأنه بنية تتصف ببعض التساوق
المفتوح وفي نفس الوقت باطنية لا تقبل النفاذ بشكل جزئي. إن الكائن
البشري بشكل أو بآخر هو انفتاح على العالم.
إن الهوية ليست مسألة شخصية فقط. إذ يجب أن تعاش في العالم عبر حوار
مع الآخرين وطبقا لوجهة نظر الشارحين البنائيين فأنه من خلال هذا
الحوار تولد الهوية. لكنها ليست الوسيلة التي تخبر بها الهوية. فمن
وجهة نظر ذاتية تكتشف الهوية داخل الشخص نفسه وهي تعبر عن الهوية في
وجود الآخرين. وتعثر الذات الداخلية على موطنها في العالم من خلال
المشاركة في الهوية الجماعية.وغالبا ما يعبر عن هذا التوحد بعبارات
رفيعة وغامضة وتنضم نفسي الحقيقية إلى الحياة الروحية للمجتمع. لكن كيف
تتحقق الهوية الاجتماعية من خلال التعرف على الذات عن طريق الخارج
وربطها بجملة من الأنظمة المشتركة مع الآخرين؟ وما دور الثقافة في شد
أعضاء المجتمع الواحد وفي تمييزه عن المجتمعات الأخرى؟ ما السر في أن
الهوية يمكن أن تكون مصدرا للعنف والاستبعاد من جهة ومصدر للثراء
والثقة من جهة أخرى؟ فماذا يجني الناس من وراء إصرارهم على الانتماء
إلى هويات؟ وهل الهوية شر أم خير؟
2- التعددية الثقافية:
الهوية تدرك من خلال المشاركة في الثقافة... وان المفاهيم المتعلقة
ببناء الهوية وتلك الخاصة بالثقافة ولدتا معا.
يصعب تدقيق مفهوم الثقافة وذلك للاتجانسه وتعقيده وتضخم دلالاته
وتنوع رسومه إلى حد حديث البعض عن عولمة الثقافة والصناعة الثقافية
وثقافة إضاعة الوقت. لكن يسهل علينا ربط الثقافة بالإنسان لأن الثقافة
مفهوم أناسي تجعل الإنسان ذاتا متناهية قبلة للتشكيل إلى ملا نهاية لها
ومنفتحة على العالم ومجبرة صنع ذاتها والعالم في كل مرة ولأن الإنسان
كائن ثقافي بالطبع وهو لا يصبح إنسانا إلا بفضل الثقافة، وبذلك تتوسع
الثقافة لتشمل الشروط المادية والروحية والاجتماعي والسياسي من
المنتجات ومن ذلك أشكال مختلفة من الحياة ومن مجالات المخاييل.
فالثقافة تشكل جسد الإنسان وهي في نفس الوقت ثمرة من ثمرات هذا التشكيل
وهي تنتج في الأعراف والتجديدات تغيرا وتواصلا بين الماضي والحاضر
والمستقبل...إن الثقافة حركية وهي ممارسة وعملية. والثقافة ليست واحدة
بل كل واحدة منها تشمل العديد من الثقافات.
إلى وقت قريب ثمة إجماع بشأن موضوع الثقافة وأصبح هذا المفهوم هو
العملة الرائجة وتم الاتفاق على أن الثقافة ليست مسألة عرق بل مكتسبة
وغير متوارثة جينيا وتتقدم بشكل مطرد وبمعدل متسارع وتتعلق بالأفكار
والقيم والرموز التي تعبر عن رؤية للكون وعن الفضيلة والجمال ضمن تنظيم
جمعي للفكر. لكن على الرغم من أن الجميع يتحدثون اليوم عن الثقافة
فأنهم لا يتطلعون إلى تبعات القول بالهوية الثقافية ويتجاهلون
الإحراجات المتعلقة بالتعددية الثقافية. وقد انعكس عن ذلك اتجاه النقاش
بشأن الهوية الثقافية نحو السياسة وبدأ الكلام عن الثقافة بماهي شأن
سياسي وأكد البعض من أن الثقافة هي الأقدر على معالجة المسألة السياسية
الكبيرة وذكروا بأن الاعتراف بالتعددية الثقافية هو حركة تدعو إلى
التغيير.
تتضمن الهوية الثقافية كل ماهو مشترك بين جميع أفراد المجتمع مثل
القواعد والمثل والقيم. ولكن إذا بنيت على أساس الوحدة والتطابق
والتماثل تصبح الهوية الثقافية هوية ثابتة تلغي إمكانية التغير في
الزمان وتتشكل نواة صلبة تحدد تاريخها وملامحها الخاصة وتسعى إلى
المحافظة عليها والوفاء إليها. لكن الهوية الثقافية لا تفهم دائما في
إطار المطابقة التامة مع الذات الجماعية بل يمكن أن تتحقق في سياق
التفاعل مع المباين والمختلف والمغاير من الهويات الثقافية الأخرى
ويمكن أن نتحدث هنا عن التثاقف وعن الهوية بينثقافية في وضعية التلاقح
والتخاصب بين خصوصيات متنوعة وثقافات متعددة.
في هذا السياق يقول أودمند هوسرل:أكون مع ثقافتي دائرة أولية لثقافة
أجنبية يمكنني أن أبلغها، مع أولئك الذين يشاركونني مشاركة مباشرة،
بنوع من تجربة الآخر.
ظهر مصطلح التعددية الثقافية للتمييز أولا بين الثقافة الرسمية التي
تدعي الرفعة والسمو وترتبط بالنخبة وتتشكل في الدوائر الضيقة
للأرستقراطية وفي صالونات البرجوازية وبين الثقافية الشعبية الجماهيرية
التي تمتد من الفلكلور إلى الفن البروليتاري وتعامل بتعاطف من قبل
الناس الذين يحرصون على المحافظة عليها وتوريثها وتتوجه نحو مقاومة
الهيمنة المسلطة عليها من طرف ثقافة الاستهلاك والقوة القمعية للطبقة
الحاكمة وتدحض شرعيتها وتطعن في الريادة الأكاديمية للثقافة الرسمية
وتحس بأن عليها واجب مدني لفضح العولمة الامبريالية والتغريب الثقافي
لدول الأطراف والسلطة البطرياركية.
لقد مثلت التعددية الثقافية فرصة سانحة من أجل كشف مخاطر العولمة
على النسيج المجتمعي والبيئة واستقرار الشعوب واستمرارية الخصوصيات
وعبرت عن مشكلات مقلقة وتحديات أكثر تدميرا تجاه الثقافات المحلية
والسعي المتزايد نحو اعتماد نموذج ثقافي واحد للتعرف علة نمط الحياة
الحضاري في أي بقعة من المعمورة. بيد أن حركة التعددية الثقافية عرفت
اتجاهين: الأول هو تعددية ثقافية الاختلاف multiculturalisme de la
différence يتجه نحو الداخل ويأخذ مصلحة الخصوصية الذاتية بعين
الاعتبار ويتبنى الخطاب المدحي الافتخاري من أجل تعزيز شعور ثقافة
معينة بالعظمة والتفوق ويجعل من ذلك سبيلا للمحافظة على بقائها
واستمرارها.
الاتجاه الثاني هو تعددية ثقافية النقد multiculturalisme critique
يتجه نحو الخارج متأثرة بالدراسات الثقافية ويناضل ضد التماثل والهوية
ويسعى إلى إعطاء حقوق للأقليات ويكشف عن ضعف الخطاب الأغلبية السائد
وصمته وتهميشه لبعض الفئات ويحاول تفكيك التحيز الثقافي للطبقة
الاجتماعية السائدة ولذلك لا يرى في وجود تنوع وفوارق في الخصوصيات
داخل نفس المجتمع أي خطر يهدده بالتقويض بل ينظر إلى ذلك أنه عامل عادي
ومصدر اغتناء وقوة. من هذا المنطلق تنبنى التعددية الثقافية على خطاب
يدعو إلى التكافؤ بين الخصوصيات والمساواة في اعتبار الرموز والقيم
الخاصة بالهويات الصغيرة في تكوينية الهوية الكبرى للمجتمع ويؤكد
الاختلاف ويدعو إلى إجماع ثقافي والمشاركة في نشر الحضارة الكونية. في
السياق نفسه يقول آدم كوبر:تترجم التعددية الثقافية هذه الافتراضات في
صورة برنامج سياسي يؤكد الاختلاف وقيمته ويبحث عن منح كل مجموعة ثقافية
قدرا مناسبا من حق تقرير المصير وصوتا مساويا في الشؤون الجمعية.
إن التعددية الثقافية هي قيمة لا يمكن إنكارها لأن محافظات الجماعات
على نفسها لا يكون بتعزيز القواسم المشتركة التي تربط بينها بل بقدرتها
على إحداث اختلاف حقيقي وإبراز التنوع الداخلي.
غير أن التعددية الثقافية تؤثر على سياسات الهوية والاختلاف وتتبنى
التمييز الايجابي وتصبح سياسات البلدان مملاة من قبل الهويات الثقافية
ولا يجد الفرد احتراما لقيمه وخصوصيته إلا في السياق الثقافي الملائم
له ويطالب بالتضحية بذاتيته ومحليته من أجل إرساء دعائم هوية مجتمعية
مستقلة. إن ماهو مطلوب في مجتمع متعدد الثقافات هو التوقف عن إسناد
الهوية إلى بيولوجيا بدائية وتركيزها على احترام الاختلاف وانصهار
الآفاق واغناء التنوع وبالتالي يجب احترام الاختلاف الثقافي وتعزيزه.إن
التنوع هو عامل أقل تأثيرا في عزل المجتمعات عن العلاقات التي توحدها.
إن التطرق إلى الهوية الجمعية هو أمر مهم من أجل التضحية بالمصالح
الفئوية لمصلحة التماسك الثقافي ومن أجل التعالي على منطق الهوية
الشخصية وتركيزها على الحقوق الفردية وتسببها في الاضطرابات العرقية
والتوتر الاثني نتيجة الشعور بالحرمان وسوء المعاملة والتمييز. كما أن
الثقافة هي دوما الجسر الذي يربط الأفراد بهوياتهم وينبغي ألا نبنيها
على العرق حتى لا ننحدر إلى الجوهرانية.
إن الثقافة هي التي تمنح الشخص هويته ولكن كل من الهوية والثقافة
يتشكلان بحرية. إن الهوية تبدو مسألة اختيار ثقافي شخصي وحتي إن كان
للشخص هوية أصلية جوهرانية تنبع من الشخصية الجمعية التي ينتمي إليها
فأنه يستطيع أن يندمج في هوية ثقافية جديدة بفضل قدرته على التأقلم
والتكيف.
ننتهي إلى أن كل ثقافة هي متعددة الثقافات وأن القيم متغيرة من
ثقافة إلى أخرى ولذلك لا يجوز قياس المجتمعات بقياس واحد وأن غالبية
الناس ينظرون إلى الآخرين على أنهم أقل منهم شأنا ويصرون على اختلافهم
عنهم ورفعتهم وتفوقهم ويشتركون في القدرة على التعلم والاستيعاب
والاقتباس وما يتقاسمونه هو الذي ينتج الخلافات بينهم وما يختلفون فيه
هو الذي يساعد في نهاية المطاف على توحيدهم. فكيف تتحول الثقافة إلى
سلسلة من العمليات التي تقوم بهدم منطق الملة الجماعية وإزالة الهوية
الشخصية وتعمل على بناء الكونية الإنسانية ؟ وكيف يمكن أن يلعب الإحساس
بالهوية دورا حاسما في جعل العلاقة مع الآخرين قوية ودافئة ويجعلنا
نفكر في بعضنا البعض ويساعدنا على تجاوز حياتنا المتمركزة حول أنفسنا؟
3- الحضارة الكونية:
إن هوية مشتركة مع الآخرين في الجماعة الاجتماعية نفسها يمكن أن
تجعل حياة الجميع تسير بشكل أفضل بكثير...ولذلك ينظر إلى الشعور
بالانتماء إلى جماعة إنسانية ما باعتباره أحد مصادر الثروة.
لا يتوقف انتماء الإنسان إلى هوية على مسألة إدراك الذات ولا على
اختياره لهذا النمط من الحياة أو تلك الوظيفة وليس الأمر مسألة تقليد
أو محاكاة أو وفاء للأصل بقدر ماهو إبداع وانجاز للذات، إذ بمجرد أن
يحصل المرء على قسط قليل من الوعي حتى يكتشف أنه ينتمي إلى عدة دوائر
مثل الوطن والطبقة والايديولوجيا والمهنة والدين ونمط الحياة والهواية
وهذه كلها تمنحه هويات متعددة ومتناقضة وتجعله موجود مع العديد من
الأغيار في عالم مشترك ويندفع معهم دون أن يدري في تيار كوني هو
الحضارة.
لكن ما الفرق بين الكونية والخصوصية؟ وماهي نوعية العلاقة القائمة
بينهما؟
إن الخصوصية هي الميل الذي تبديه جماعة معينة نحو المحافظة على
مميزاتها عن المجموعات الأخرى وهي أيضا موقف تتخذه مجموعة أو اثنية
معينة بحرية من أجل التحرر والاستقلال والانفصال عن البقية وغالبا ما
تقع النزعات الخصوصية في القومية والمحلية والجهوية والفئوية.
أما الكونية هي مذهب يعتبر الواقع هو الكل وهو الوحدة الشاملة التي
تضم جميع الأفراد بشكل كوني وهناك العديد من النظريات الكونية في
الفلسفة والدين والسياسة. في الدين هي النزعة التي ترى أن مبادئها
عالمية وأن الله يريد خلاص جميع الناس وبالنسبة إلى السياسة فهي المبدأ
الكوني الذي يقر بأن الشكل الوحيد من أشكال السلطة الشرعية تكمن في
موافقة الجميع.وأما الشمولية المؤسساتية فترى أن جميع الشعوب يجب أن
تكون ممثلة في إدارة شؤون العالم بطريقة عادلة (العولمة الديمقراطية).
أما الكونية الجمهورياتية فهي التي تطالب بالجمهورية غير قابلة للتجزئة
باعتبارها النموذج المثالي للجميع حيث كل المواطنين متساوون في الحقوق.
إن الكونية هي المبدأ القائل بأن المعتقد والرأي والفكرة يكون لها
مدلولا عالميا، وهي أيضا النهج الفلسفي للإنسانية الذي يوجب احترام
جميع المواطنين والثقافات في العالم عن قناعة واختيار وهي توجه يختلف
عن الكونية الدينية والسياسية التي تحاول أن تكون مفروضة بطريقة فوقية.
من هذا المنطلق فإن الكونية تحافظ على الخصوصية والاثنان يتكاملان
ويعززان بعضهما البعض. فما الذي يميز الحضارة العالمية؟
يشير بول ريكور إلى ستة مميزات للحضارة العالمية وهي:
- الإيمان البشرية برسالة العلم والنظر إلى العقلانية العلمية على
أنها ذات قيمة موضوعية ومعيار بقية المعارف ويبرهن على ذلك بقوله:إن
العلم يظهر ضربا من الوحدة من جهة الحق تحكم كل الخصائص الأخرى لهذه
الحضارة.
- الإجماع على صلاحية النموذج التقني على المستوى التطبيقي والنظر
إلى عملية التحديث على أنها امتلاك للأدوات والآلات بالأساس لاسيما وأن
الإنسان عبارة عن حيلة كونية وأننا أمام كونية فعلية للإنسانية. فكلما
ظهر اختراع في أي نقطة من العالم إلا وكان موعودا بانتشار كوني.
- القول بوجود سياسة عقلانية وتقنية واحدة قادرة على إنهاء النزاع
في العالم وامتصاص العنف وكل أشكال اللامعقول وتوطين السلم والتسامح
وذلك بنشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان والموطنة، إذ يقول ريكور:إن
أحد وجوه عقلانية الإنسان وفي ذات الوقت أحد وجوه كونيته هو تطور دولة
تراهن على الحق وتنمي وسائل التنفيذ على شكل إدارة.
- التأكيد على أهمية التنظيم الإداري في تقدم الشعوب وتجاوز وضعية
التعثر نحو وضع التحضر وذلك بتفعيل دور المؤسسات ووضع قيم النزاهة
والحياد واللاتحيز في خدمة الأفراد والجماعات، ويبرهن على ذلك بقوله:
حينما نرى السلطة قادرة على إرساء وظيفة عمومية وجسم من الموظفين يعدون
القرارات وينفذونها...نكون باختصار أمام دولة حديثة وهاهنا مظهر معقول
للسياسة التي تخص الآن بإطلاق كل شعوب العالم.
- وجود اقتصاد عقلاني كوني يقوم على تقسيم عالمي للعمل وعلى تشجيع
الاستثمار وفتح الأسواق وتوحيد عملات التداول ويرجع بالأساس إلى
البورصات وتلعب فيه الشركات متعددة الجنسيات دورا بارزا حيث تزال
الحواجز الجمركية وتخفف الضرائب ولا يكون فيه رأسمال مقيد بوطن، إذ
يقول هنا:يمكن أن نتحدث عن علم وعن تقنية اقتصادية ذات طابع دولي،
مندمجة في غائيات اقتصادية مختلفة والتي تخلق في الآن نفسه طوعا أو
كرها ظواهر تقارب تبدو آثارها حتمية.
- المظهر الأخير من الحضارة العالمية هو نمط الحياة وأسلوب الوجود
المتغلغل في الثقافة والأكل والمسكن واللباس والترفيه والإعلام والذي
يقع نشره وفرضه بالقوة الدعائية والإشهار على كافة أرجاء المعمورة وهو
نمط حياة غربي أمريكي بالأساس يقوم على الاستهلاك والرفاه وحب الذات
وذلك لأنه: توجد ثقافة استهلاك ذات طابع عالمي تطور نوع من الحياة ذي
طابع كوني.
هذا التمييز الأخير بين العالمي والكوني يلفت النظر إلى قيمة
الحضارة وتأثيرها على الإنسان والطبيعة لاسيما وأن إنسانيتنا المشتركة
تتعرض لاعتراض وحشي شرس عندما تضيق الاختلافات بيننا لتصبح نظاما
تقسيميا واحدا من تصنيف قوي مفرد. فهل هذا يعني أن التوجه نحو العالمية
هو أمر قسري مفروض يقود الثقافات القومية إلى حتفها الطبيعي والانقراض
التاريخي وأن البقاء سيكون للأصلح؟
إن الحضارة الكونية التي بنيت على أساس التراكم الكمي في الوسائل
والتحول في الأدوات التقنية والتقدم العلمي في السيطرة على الطبيعة
والإنتاج المادي قد ضاعفت العلاقات الإنسانية وطورت إنسانية واحدة
ودفعت الإنسان إلى الاعتراف بالإنسان عن وعي وحرية وبالتالي مثلت خيرا
كليا من جهة بعدها الانساني أثبته ريكور بقوله: الكونية هي بحد ذاتها
خيرا والوعي بإنسانية واحدة بذاتها يمثل شيئا ايجابيا. ويبرهن ريكور
على هذه الخيرية والقيمة الايجابية للكونية من خلال حجتين:
- الأولى هي حالة حصول الجموع على خيرات أولية وبلوغهم إلى الرخاء
والرفاه وتحرر الحاجة التي يعيشها عدد كبير من سكان العالم موزعين على
مختلف القارات والبلدان والطبقات والتي حدثت لأول مرة في التاريخ.
- الثانية هي بلوغ عدد كبير من الناس حالة الرشد وتجاوزهم حالة
الحرمان واللامبالاة وشعور جموع من البشرية بقيم الكرامة والاستقلالية
وقدرتهم على التصرف في مصيرهم وتحكمهم في صنع تاريخهم الخاص بهم. انه
من اليقيني أن عددا متزايدا من الناس يبلغون اليوم هذه الثقافة الأولية
التي تمثل مقاومة الأمية وتطوير أدوات الاستهلاك والثقافة الأساسية
وجهها اللافت.
لكن كيف مثل هذا التطور طابعا متناقضا؟
ينقد ريكور توجه الحضارة الغربية نحو فرض نموذجها على المعمورة
ويعتبر أن العولمة أضرت بالجانب الانساني للكونية وحولته إلى عالمية
تسلطية ويبرر بذلك بكشفه عما تعانيه الخصوصيات من تهديد بالاختراق
والتفكك الداخلي والذوبان ويرى أنظاهرة العالمية تمثل بالتزامن مع رقي
البشرية ضربا من التدمير البارع لا للثقافات التقليدية فحسب...بل
للنواة الخلاقة للحضارات العظيمة وللثقافات الكبيرة. والسبب هو وقوع
الغرب في نوع من التمركز العرقي والثقافي قاده إلى الاعتقاد أنه الأفضل،
هنا يبرز ريكور وهم المركزية الثقافية الأوروبية بقوله: إن كون الحضارة
الكونية قد انبثقت منذ القديم عن بيت أوروبي غذى وهم أن الثقافة
الأوروبية كانت من جهة الحق والأمر الواقع ثقافة كونية.
من الأسباب الأخرى التي جعلت ريكور ينبه من مخاطر الحضارة العالمية
هي الإفراط في التصنيع وتخريب الطبيعة واعتماد المعالجة التقنية في كل
شيء وإبداع وسائل التدمير الذاتي وتزايد أدوات الفتك بالنوع البشري وفي
ذلك يقول:إن الخطر النووي يزيد من وعينا بوحدة النوع البشري هذه بما
أننا لأول مرة يمكن أن نشعر بأننا مهددون في أجسامنا وبصورة شاملة.
لقد ارتكبت الحضارة العالمية العديد من الأخطاء في تعاملها مع
الثقافات القومية ومارست نوع من التنظيم العنيف للعالم وتعاملت مع
البشر كأدوات تجارب ولم تحترم ما تحتويه خصوصياتهم من رمزية وانتهت إلى
إخفاق سياسي وهيمنة اقتصادية وأججت النزاعات بين الثقافات والاحتقان
بين الجماعات عبر عنه ريكور كما يلي: إننا نشعر بصورة جيدة أن هذه
الحضارة العالمية الواحدة تمارس في الآن فعل التلف أو التآكل على حساب
الإرث الثقافي الذي صنع حضارات الماضي العظيمة.
من هذا المنطلق يتمثل الوجه السلبي للحضارة العالمية في تعميمها
لحالة التصحر الثقافي ونشرها لنموذج الاستهلاك وحضارة البضاعة المجانية
وما أدى ذلك من تهديد بعرقلة محاولات التحديث وتعطيل مشاريع الخروج من
التخلف وطمس معالم الشخصية الوطنية والرفع من نسب الاستغلال الاقتصادي
والاحتكار إذ ما يوجد في كل مكان وعبر العالم هو الفيلم الرديء نفسه
وآلات صرف النقود نفسها والأخطار ذاتها من مادة البلاستيك والألمنيوم.
التواء اللغة الحاصل بالدعاية نفسه، الخ... كل شيء يحدث كما لو أن
الإنسانية ببلوغها الجماعي ثقافة الاستهلاك تكون قد توقفت عند درجة من
التخلف الثقافي.
يحذر ريكور من هذا المطب الكبير الذي قد تقع فيه الإنسانية عندما
تتبنى خيار العولمة الاقتصادية دون احتراز أو نقد والذي يؤدي إلى
الاحتكار الثقافي وإقصاء الغيرية وتبني نظرة متحفية خيالية للخصوصيات
المباينة بقوله: يمثل انتصار ثقافة الاستهلاك المتماثلة كونيا
والمجهولة بالكامل الدرجة الصفر لثقافة الإبداع وستكون الريبية على
صعيد كوني والعدمية المطلقة في انتصار الرفاه. إن العولمة لم تتمكن من
التخفيف من معاناة البشر بل حاولت إقحام الأدوات بالقوة في المجموعات
ومارست التحديث القسري والتعنيف الرمزية للدوائر الإتيقية وأحدثت
تصادما بين الوقائع والمثل وبين القيم والوسائل.
إن الموقف الذي يتخذه ريكور حول هذه القضية واضح وصريح ويعبر عنه
كما يلي:ما برحنا وعلى نحو أكثر جدية منذ أن أعاد أدرنو وهوركيايمر
تأويل فلسفة التنوير نشكك في كون هذه الحقبة فجرا في التقدم في الوجود
الذي حظي بالاحتفال والتغني. وبداية حكم العقل الأداتي والقوة التي
أعطيت لعقلنة إحكام القبضة على الدول باسم العالمية وقمع الاختلافات
باسم الدعاوي البروميثوسية كل ذلك علامات ووصمات يراها الجميع على تلك
الأزمنة الواعدة بالتحرير بطرق كثيرة.
إن اكتشاف التعدد الثقافي قد يوقع في الغربة ويسبب الضياع في العالم
ويحيل الخصوصية إلى عالم الغيرية ويقترن اكتشاف الذات بفقدان الخصوصية
مادامت هي نفسها إفراز من إفرازات التفاعلات بين عناصر غريبة عن بعضها
البعض، وفي هذا يقول ريكور: قد يصبح فجأة من الممكن أن يوجد أكثر من
الآخرين وأن نكون نحن أنفسنا آخر من بين الآخرين.
هناك قضيتان متميزتان أمامنا في هذا الشأن. الأولى هي الاعتراف بأن
الهويات ذات بنية تعددية متينة وأن أهمية هوية واحدة لا تتطلب بالضرورة
محو أهمية الهويات الأخرى.
فماهي الاستتباعات المترتبة عن القول بالتنوع بين الثقافات القومية؟
هل يعني ذلك التخلي عن الطموح نحو بلورة قيم مشتركة وصناعة كونية
إنسانية؟ كيف نتجنب اقتران الدخول في العقلانية العلمية والتقنية
السياسية بالتنكر للقيم التقليدية والموروث الثقافي؟
4- خاتمة:
الأمر الغريب حقا أنه توجد ثقافات ولا توجد إنسانية واحدة قط.
إن اللقاء الثقافات الأخرى يكون امتحانا خطيرا بالنسبة إلى أي ثقافة
ومغامرة مخيفة ولكنه يكون مثمرا إذا ما وقع التحضير له وتهيئة الظروف
لنجاحه وخاصة إذا ما كان ذلك نتيجة حب الاطلاع والتحمس لمعرفة القديم
والحنين إلى الماضي وكان أيضا ثمرة من ثمرات العلم ذاته وممارستنا
للتسامح تجاه الأغيار.
إن الفكرة المركزية التي تنشد إليها الرقاب المترددة بين الانتماء
إلى الخصوصية والتطلع إلى العالمية هي أن تحالف الثقافات يكون الطريق
الملكي نحو بلوغ الأفق الكوسموبوليتي Cosmopolitique.
يعرف ريكور الثقافة بأنها مركب قيم وجملة تقييمات ويرى أننا إزاء
عدة ثقافات وليس إزاء ثقافة واحدة وبالتالي نحن أمام تبدل للقيم
والمعايير من ثقافة إلى أخرى وهو ما اصطلح عليه بالنسبية الثقافية، فهل
يعني ذلك الدخول في العدمية واستحالة وجود معايير توافقية وأسس مشتركة
بين الثقافات؟
إن خصوصية معينة يمكنها أن تتحمل ملاقاة الثقافات الأخرى وان اللقاء
بين الثقافات يمكن أن يكون خلاقا وتوليديا ولا تلفيقيا غائما إذا ما
توفرت مجموعة من الشروط وهي:
- محافظة كل ثقافة على قدرتها التجديدية من خلال احترام قانون
التراكم الهادئ للأدوات والوفاء لنواتها الإبداعية وعدم الاكتفاء
بتأويل الأشكال الرمزية الخارجية والطبقة السميكة من الصور.
- دور المثقفين في التجديد والإبداع وفي الانفتاح على الثقافات
الأخرى والاستفادة من الوافد هو دور حيوي ومصيري إذ يجب أن ينهض كاتب
ومفكر وحكيم وروحاني لدفع ثقافة والمجازفة بها من جديد في مغامرة وفي
خطر كلي.
- التشجيع على الإبداع الفني وتوفير الحرية اللازمة لتنمية روح
معارضة المألوف والثورة على السائد والتخلص من الوعي الزائف وإحداث
الصدمة والتضليل وصناعة الفضيحة، لاسيما وأن الإبداعات الفنية الكبيرة
تبدأ داوما ببعض الفضائح.
- تمكن ثقافة من امتلاك القدرة على استيعاب المعقولية العلمية
والسيطرة التقنية على الطبيعة والتخلص من كل أشكال الخرافة والسحر
وتحقيق الانسجام مع مظاهر التحضر وذلك بنزع القداسة عن الطبيعة واحترام
الوقت وقيمة الحياة ووضع الإنسان في العالم وإدخاله في التاريخ. وحدها
الثقافة التي تكون قادرة على استيعاب المعقولية العلمية يمكنها أن
تحافظ على بقائها وتولد من جديد ووحده الإيمان الذي يدعو إلى فهم
الذكاء يمكن أن يقترن بعصره.
- الوفاء للأصول والإيمان بقدرات الذات على الاستمرار لا يعني
الوقوع في استنساخ ثقاة الماضي وإنما الانطلاق منها واستثمارها من أجل
التأصيل وإعادة البناء على أسس جديدة وممارسة إبداعية متفتحة ومرنة.
- التواصل بين الهويات البشرية ممكن لأن الذي يجمع بين الإنسان
والإنسان هو أكثر مما يفرق خاصة إذا ما تشبث الجميع بالانتماء إلى
النوع البشري كعروة وثقي وكان رهان الجميع هو إثبات إرادي لهوية
الإنسان، لاسيما وأن غرابة الإنسان عن الإنسان ليست غرابة مطلقة.
- أهم وسيط بين الثقافات هو الترجمة لأنها الكفيلة بتحقيق حسن
الضيافة اللغوية بين الإنية والغيرية وتأويل العلامات اللغوية
والتراثية لخصوصية معينة إلى كل لغات العالم وكما يقول بول ريكور
هاهنا:الاعتقاد في إمكانية الترجمة هو الاعتقاد في إمكانية التواصل.
- الوسيط الثاني بين الثقافات هو القدرة على التأويل والفهم
بالتعاطف والتخيل للثقافات الأخرى وذلك بالانفتاح على الغيرية
واعتمادها كشرط وجودي لمعرفة الذات،وذلك بأن أكون آخر في نفس الوقت
الذي أبقى فيه أنا نفسي.
- اعتماد اتيقا النقاش بين الكائنات العاقلة وخوض تجربة حوار عميقة
بين الخصوصيات من أجل تحمل اللقاء وإضفاء معنى عليه وتحقيق التقارب
الإبداعي والتفاهم السلمي بين كل الفرقاء الذين يوجد بينهم تناغم أصلي
إذا ما كان غائب عنهم من حيث الأصل أي اتفاق.
- يجب ألا يتحول الوفاء للخصوصية إلى حالة من الاغتراب في الجذور
وتقوقع على الذات ودوران فارغ حول المنابع الأصلية والإيمان بان اللقاء
المثمر مع الآخر هو من قبيل الإمكان التاريخي وليس مجرد حلم طوباوي.
- بناء الذات هو المقام الأول ونقط الارتكاز الأصلية في كل حوار بين
الذوات وتحالف بين الخصوصيات والتقاء للثقافات لاسيما وأنهلكي يكون لنا
آخر غير ذاتنا يجب أن يكون لنا ذات.
خلاصة القول أن الثقافة الحية الوفية لجذورها التي تعيش حراكا
إبداعيا أدبيا وفلسفيا هي القادرة على تحمل اللقاء بالثقافات الأخرى
وتتجنب التصادم والمجابهة وإحداث بواعث خلاقة وتخاصب دلالي منتج.
كما أن راهنية التقاء الثقافات اليوم لا ترتبط بالتلفيقية الغائمة
أو تقع في ممارسة الإسقاط التاريخي بل التغلب على النزعة الريبية التي
تفضي إليها النسبية الثقافية وعلى دغمائية الحقيقة الواحدة التي يقودنا
إليها منطق الملة والتفكير في تخطي عتبة الحوارات الجدية والحقيقية بين
الجميع من أجل مقاومة صدمة الغزو والهيمنة وحل مشكلات التواجد ضمن رؤية
فلسفية تكون بمثابة خلاصة تجارب الشعوب.
عندئذ يجب أن أقابل التلفيقات الغائمة بالتواصل أي بعلاقة درامية
أثبت فيها ذاتي في منبتها بالتناوب واستسلم لخيال الآخر وفق حضارته
المغايرة. لكن لماذا اشترط ريكور العودة إلى الأصول الإغريقية والعبرية
المسيحية حتى يكون المفكر الأوروبي الغربي مخاطبا كفئا في الحوار
الكبير للثقافات؟ ألا يعيدنا هذا الشرط إلى الانغماس في التراث والتشبث
بالهوية التطابقية أم أن الأمر يقتضي تفقد الذات وإعداد الهوية
التنوعية الاختلافية المغرمة بالتواصل مع العالم الخارجي؟ وكيف يفضي
هذا التواصل إلى تشييد المشترك العمومي القادر وحده على ضمان الحق
الكوسموبوليتي؟
* كاتب فلسفي
............................
المراجع:
Emmanuel Levinas, in Anthologie, les grandes
questions de la philosophie, Textes réunis et présentés par Marie-Reine
Morville, Delagrave Edition, 2001
Edmund Husserl, méditations cartésiennes,
traduction Emmanuel Levinas, Vrin poche, réédition en 2000.
John Locke, Identité et Différence, Coll-point
1988.
Hervé Marchal, l’identité en question, Ellipses
Edition Marketing S.A.2006
Paul Ricœur, Histoire et vérité, Editions, Le
Seuil, Paris, 1955.
إدوارد سعيد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق،
ترجمة محمد عنائي، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006
أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي،
ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008.
آدم كوبر، الثقافة، التفسير الأنثربولوجي، ترجمة
تراجي فتحي، سلسلة عالم المعرفة عدد349 مارس 2008.
بول ريكور: الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي،
المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى بيروت.2005.
بول ريكور، الزمان والسرد، الزمان المروي، ترجمة
سعيد االغانمي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، طبعة 2006.
كريستوف فولف، علم الاناسة، التاريخ والثقافة
والفلسفة، نقل أبو يعرب المرزوقي، الدار المتوسطية للنشر. الطبعة
الأولى2009. |