مرشح يدعو لاستعمار بثوب جديد!

محمد علي جواد تقي

ما أسرع وتيرة الحملات الدعائية لمرشحي الانتخابات النيابية! وما أعجل المرشحين على الكشف عن أوراقهم وأفكارهم ومتبنياتهم مع قرب موعد (العرس الديمقراطي)، ربما يكون تكتيكاً دعائياً أن يتدرج البعض في أساليب الدعاية، ويقول جميع المرشحين إن (قصدهم شريف)! من وراء خوضهم الحملة الدعائية العارمة التي تجتاح الشارع العراقي، ونحن نبارك هذه الجهود (الشريفة) اذا كانت بهدف التعريف وتقريب المسافة بين المرشح والناخب.

 لكن المشكلة التي تحيّرنا في الحقيقة، بل وتحيّر الكثير من الناس هي النتيجة العكسية لهذه الدعايات، فقد بات بعضها يدعو الى التنفّر والتقزز حقاً لما فيها من الاستخفاف بمشاعر وثقافة الناخبين والتسطيح للوعي.

ورغم انه لم يبق إلا أيام معدودة للتعريف وطرح الاسماء والشعارات، ومع اقتراب ساعة الصفر يوم الأحد السابع من شهر اذار الجاري، لكنني أجد نفسي مسؤولاً لأن أحرك أناملي لتسليط الضوء على جزء من الحقيقة من أجواء الحملات الدعائية، كما سأغرس سبابتي في محبرة الدائرة الانتخابية، فنحن نعيش أجواء انتخابية مؤقتة، لكن علينا الانتباه الى ان الأقوال والتصريحات تكشف عن مقاصد بعيدة المدى، ربما تمتد الى سنوات بعيدة.

 ومن أبرز ما سمعناه يعود الى المرشح أياد جمال الدين، نجل الشاعر المعروف مصطفى جمال الدين، الذي سعى لأن يقدم نفسه بأنه الصريح والواقعي والأقرب الى واقع البلد وأيضاً واقع المجتمع، وهو بالطبع مسعى جميع المرشحين والمرشحات في هذه الحملة الدعائية الصاخبة، لكن (جمال الدين) خطط في ذهنه طويلاً – كما يبدو- ولمدة سنوات مديدة لحساب الحقل دون أن يعي حساب البيدر، فبدلاً من أن يعرفه الشعب العراقي بانه ذلك (العراقي) الواقعي والصريح الداعي الى الحرية والرفاهية، قدم الفرصة لمن يتابع اعلاناته واحاديثه بان يكتشف الكثير من المخططات الاجنبية المشبوهة، وتمثلت الفرصة في الأحاديث الدعائية المدفوعة الثمن التي أجراها مع قنوات فضائية معروفة.

فقد ظهر للناس بملابس الروحانيين وتحدث معهم بلسان الماديين مطالباً إياهم بعدم الاستغراب والقبول بقرار رجل (معمم) يفصل الدين عن السياسة! والأكثر من ذلك يصرّح بملء فيه انه عميل للأجنبي غير متستر ومحترم! قادر أن يغير الاوضاع الاقتصادية والمعيشية من خلال الخبرات الاجنبية.

لكن كيف يمكن لمرشح شاطر قضى سني شبابه في الولايات المتحدة أن يرتكب هذه الغلطة؟!

أولاً: إن (جمال الدين) يتصور - أو يريد أن يوحي بذلك- إن الشعب العراقي عاش بعد سقوط نظام صدام في ظل نظام حكم ديني – طائفي، وكانت التجربة فاشلة، وما عليه إلا أن يتجاوز هذه التجربة ليجرّب نظام الحكم اللاديني العلماني، وتحدث بلهجة تعلوها السخرية بان هناك من رفع شعار (علي ومعاوية)، واليوم – يقول هو- يرفعون شعار (بعثي وغير بعثي)، في إشارة الى الصراع الطائفي الذي طالما حاول العلمانيون تصعيده اعلامياً وسياسياً الى حدّ الحرب الطائفية، وكل ظنّه انه يجنّب العراق والعراقيين تجربة إيران التي أشار اليها في أحاديثه، لكنه انزلق في مغالطة مفضوحة، حيث ان ايران تغيّرت بواسطة قيادة دينية متمثلة بشخصية مرجع دين، وهي حقيقة تاريخية واضحة للجميع، وربما يجهل (جمال الدين) الذي يدّعي تفهمه ومعرفته بايران والتشيع، بان خطباء المنبر وطلبة الحوزة العلمية والمجتمع الشيعي في ايران لم يكونوا وحدهم من ساير الامام الخميني الراحل في مسيرته لاسقاط نظام حكم الشاه، إنما انضم الى هذه المسيرة جميع الاحزاب العلمانية والوطنية، في مقدمتها الحزب الشيوعي الايراني ومنظمة مجاهدي خلق والتيار الوطني وغيرهم. ولا نخوض في تفاصيل الثورة الايرانية ومخاضاتها ونتائجها فهي  شأن ايراني بحت، لكن أين التجربة الايرانية - الثورية من التجربة العراقية – السياسية؟ ولماذا يتم إقحام تجربة الحكم الديني في ايران في التجربة السياسية في العراق؟

أبُشّر (جمال الدين) بان الشعب  العراقي لم يشهد تطبيق نظام الحكم الديني بعد تاريخ التاسع من نيسان 2003، ويبدو ان الرموز الاسلامية الكبيرة والحالة الدينية المتجذرة في المجتمع قضّت مضجع هذا المرشح، فاراد أن يختصر الزمن قبل أن تتكرر تجربة ايران! واذا كان قابعاً في بغداد وبعيداً عن المدن الأخرى، وأبشره أيضاً باننا في المدن المقدسة ليس فقط لم نشهد تطبيق النظام الديني، وإنما نعيش أجواء الحرية الكاملة التي يتمتع بها الرجل المثقف الذي يحمل الفكر المادي ولا يؤمن بالتوجه المعنوي بتاتاً، كما يتمتع بها الشاب والشابّة في الملبس والمظهر، كما يتمتع بها أصحاب محال بيع الأقراص المدمجة ومستحضرات التجميل والكماليات من استخدام مختلف الصور المثيرة والجذابة على واجهات محالهم التجارية؟ حتى وصل الحال لأن يتحدث محافظ كربلاء المقدسة بلسانه عن وجود (بيوت دعارة) في المدينة في معرض حديثه عن غلقها! فهل سئم الشعب العراقي من النظام الديني بوجود هكذا ظواهر وهكذا نوع من الحرية؟ وهل نفهم من ذلك إن هذا المرشح سقط في المطب الفكري الذي سقط فيه الماركسيون عندما جاؤوا بالماركسية الى شعوبنا وهي تئن تحت وطأة الجوع الحرمان والتخلف، فيما هي تطالبهم بان يتجاوزوا الارستقراطية حتى يدخلوا مرحلة الاشتراكية وينعموا بالرفاهية؟!

ثانياً: حاول (جمال الدين) العزف في حواراته على وتر الخبرات الأجنبية لبناء العراق، ويحسب انه قرأ الواقع بشفافية ودقّة، فالناس يائسون من قدرة العراقيين على بناء الجسور والمعامل والمباني وغيرها، فهم لا يفكرون سوى بالمال والجاه، أما الشركات الأجنبية فهي تحرص على الإتقان في عملها، وذكر إنه اتفق مع شركة (جنرال الكتريك) الامريكية العملاقة للاستثمار  في العراق، وتوفير فرص عمل للعراقيين. ما أذكى هذا المرشح! ويا للحظ العاثر للشعب العراقي! لأنه بهذا الكلام يقف أمام تجربة اقتصادية تعد نسخة مصغرة من تجربة امريكية ناجحة في السعودية أواسط القرن ا لماضي والمعروفة بـ (شركة أرامكو) لانتاج النفط والزيوت، ولم يكن العمال في هذه الشركة أمريكيين، إنما كانوا من السعوديين الذين كانوا يتحسرون على انتعال الحذاء أوائل القرن الماضي، فاصبحوا عمّال للامريكيين وهم في بلادهم! طبعاً هذه التجربة خاضها السعوديون قبل أن يتدرجوا في مجال الصناعة والانتاج الذي نشهده تقدمه اليوم.

فما هو ثمن الاستثمار الامريكي في العراق يا (جمال الدين) ؟ هو يقول: سأعمل على إيفاد مجموعات من العمال والمهندسين الى الولايات المتحدة ليتعلموا طرق العمل والانتاج، حتى يكونوا مؤهلين ليكونوا عمّال من الدرجة الأولى عند الأمريكيين في بلدهم العراق، وبذلك بدلاً من أن تكون الدولة هي المسؤولة عن أوضاعهم وحقوقهم ومستقبلهم، سيتحمل هذه المسؤولية الشركات الأمريكية! إنها تكرار لتجربة صفقات الأسلحة الامريكية والاوربية للدول الخليجية حيث ينتزع الغربيون ملايين أضافية لتغطية نفقات إقامة المستشارين والمدربين ليتمكن الطيار و العسكري السعودي أو الكويتي من تشغيل طائرته ومعداته العسكرية، ومن دون هؤلاء فانه لا يعدو كونه طالب في الصف الابتدائي يقرأ كتاب  في الفيزياء او الكيمياء. وقد تجلّت هذه الحقيقة عندما غزا صدام الكويت دون أن يردعه أحد.

كان بودّي أن اسمع من (جمال الدين) وعداً ولو انتخابياً يبعث على التفاؤل بتسهيل الطرق أمام أصحاب الشهادات الجامعية من مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية لاسيما الهندسة والطب والاقتصاد والادارة، لأن يزوروا مختلف دول العالم ويكتسبوا الخبرات والتجارب ، وهو العمل الحضاري الباهر الذي عرفناه وقرأنا عنه في التاريخ، وأمامنا تجارب الصين وكوريا الجنوبية وتركيا وغيرها من الدول النامية والمتقدمة.

سنحجم عن التطرق الى قضية مصادر الأموال التي كثر الحديث عنها والتي تغطي الحملة الانتخابية وتقدر بمئات الملايين من الدولارات، لكن تصريح (جمال الدين) بان ما يرتديه هو عبارة عن زيّ، حاله حال أي نوع من الأزياء، لن يكون مقنعاً لأبناء الشعب العراقي، الذي يرى أمامه رموز العلمانية وهم يمارسون دورهم السياسي ولا يرتدي أحدهم زيّاً دينياً ولا يقول بأني درست في الحوزة العلمية، فهو إما أن يكون مارقاً على الحوزة العلمية التي تعد تطبيق أحكام الدين وشريعة الرسول الأكرم وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام)، أهم منهاجها التدريسية والتثقيفية، وإما أن يكون (حصان طروادة) للأمريكيين وليس فقط عميلاً كما أفصح عن ذلك بشجاعة.

إن ملف هذا المرشح - باعتقادي- تختلف عن جميع ملفات المرشحين الآخرين، إذ إن (325) نائباً فقط سيتوجهون الى مجلس النواب، فيما يطوي الآخرون لافتاتهم ودعاياتهم وينسحبوا من الساحة، أما (جمال الدين) فان من الصعب عليه جمع ملايين الدولارات المهدورة  في الشوارع وعلى القنوات الفضائية، لذا سيبقى يحاول ويطرق على الحجر ويراهن على معاناة الناس ومشاكلهم على الأصعة المعيشية والثقافية والأمنية وغيرها، ولكن نقولها بصوت واضح، إن العراقيين بحاجة الى فرص عمل لكنهم ليسوا فقراء، وهم يحملون الذهنية الوقّادة والثرية، وليسوا بحاجة الى السيادة الامريكية أو غيرها لتكبيل هذه الذهنية والقدرات البشرية الكبيرة، ولهم ولاء عميق للدين ورموزه العظيمة، الى جانب ذلك يعيش العراقيون فعلاً حالة الفراغ والضبابية في كثير من الأمور والقضايا في الثقافة الدينية، لكنهم ليسوا بحاجة الى دين بلغة أمريكية أو غربية. إنه حقاً استعمار بثوب جديد وبشكل ظريف ولطيف! واستخفاف لا يستحقه العراق والعراقيون.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 4/آذار/2010 - 17/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م