يا وطني استأجره

نزار حيدر

لو كانت ظروف العراق الحالية طبيعية ومستقرة، لما ابديت كل هذا الاهتمام بالانتخابات النيابية التي يستعد لها العراقيون بكل طاقتهم.

ولو كانت هذه الانتخابات غير مجدية واستعراضية، لما كتبت كل هذا الكم الهائل من المقالات والاحاديث.

فهناك اكثر من سبب استراتيجي يستدعي مني ان اهتم بها، منها على سبيل المثال لا الحصر:

اولا: انها مصيرية ستساهم بشكل مفصلي في تحديد معالم العراق الجديد، فاذا جاز لنا اعتبار المرحلة التي امتدت من سقوط الصنم ولحد الان، على انها مرحلة انتقالية وتاسيسية، فان المرحلة المقبلة ستكون تثبيتية بكل معنى الكلمة، واقصد بذلك انها ستثبت الحقوق والواجبات والهيئة والصورة والاطار والمحتوى، باعتماد ما ظل يتطلع اليه العراقيون طوال نضالهم الدموي مع الاستبداد والديكتاتورية، والتي دفعوا ثمنها غاليا جدا جدا، فهذه الانتخابات ستؤسس لبرلمان اصلاحي وتجديدي في آن، كما انه بدوره سيؤسس لحكومة تنفذ وتنجز ما ظلت انظار الشعب العراقي ترنو اليه، بما يسهم في الاستقرار والتنمية والانتعاش على مختلف الاصعدة.

ثانيا: وكل ذلك لا يمكن ان يتحقق بقرار المقاطعة ابدا، وانما بالمشاركة الفعالة، لان المقاطعة لم تكن في يوم من الايام سبيلا بيد اي شعب من شعوب الارض لتحقيق تغيير ما.

فاذا قرانا كل تجارب الامم والشعوب في العالم، للاحظنا انها تسجل حضورا في الساحة يوم تقررالتغيير، كأن تشعر، مثلا، بخطر يتهددها او تسعى لتبديل شئ ما او تغيير منهجية ما او ما اشبه، فبحضورها ومشاركتها تقلب الطاولات على اللاعبين الذين يتقاعسون او يرفضون التغيير او يخشون التجديد، ممن لا يعيرون للفرص اي اهتمام.

في الظروف الاستثنائية تشارك الاغلبية الصامتة لتغير وتبدل، والتي تتخذ في الظروف الطبيعية موقف المتفرج.

اما في الظروف العادية فان تاريخ الشعوب لم يسجل حضورا شعبيا واسعا في الساحة ابدا، لان الاستمرارية على نمط معين لا تحتاج الى المشاركة الواسعة، انما يحتاجها التغيير فقط.

خذ مثلا تجربة الشعب الاميركي الاخيرة، وتجربة الشعب الايراني العام الماضي، وتجارب العديد من شعوب الارض التي سجلت في مفاصل تاريخية معينة حضورا واسعا ومشاركة قل نظيرها.

ولذلك، فان المواطن العراقي الذي يتطلع الى التغيير عليه ان يشترك في الانتخابات القادمة، وان من يفكر بمعاقبة المقصرين او الفاشلين او الخائنين الذين تجاوزوا على المال العام مثلا، كذلك عليه ان يشترك في هذه الانتخابات، ومن يفكر في ان يرى اعضاء جدد يجلسون تحت قبة البرلمان، عليه ان يشترك، ومن يتمنى ان يرى ممثلين عنه في البرلمان يتميزون بصفات حسنة عليه ان يشترك، وهكذا.

فلو لم نكن نفكر بالتغيير لما ابدينا اهتماما يذكر بالمشاركة، لان بقاء الحال على ما هو عليه لا يحتاج كل هذا التحشيد الشعبي للحضور في يوم الانتخابات.

ارايتم متى تكتض مدارج الملاعب بالمتفرجين والمشجعين؟ يوم يواجه الفريق تحديا مصيريا، اما في يوم التدريب او اذا وقف امامه فريق ضعيف وهزيل، فلا هو ولا مشجعيه بحاجة الى الحشد الكبير لانجاز مهمة الفوز.

تلك هي اليوم صورة العراق، فلو لم يكن يقف امامه من يسعى لتحدي النظام الديمقراطي، ولولا خطورة المرحلة، لما احتاج العراقيون الى ان يشحذوا هممهم ويسلوا اصابعم ليصبغوها باللون البنفسجي، شارة النصر المؤزر.

اما الذي يفكر بمقاطعة الانتخابات فانه سيساهم بشكل من الاشكال في ابقاء الامور على ما هي عليه الان، وهو بالعزوف عن المشاركة في الانتخابات سيخذل العملية السياسية، او على الاقل سيضعف اداءها، وهذا ما لا يتمناه احد من العراقيين بكل تاكيد.

ان المشاركة تكرس التغيير السلمي للسلطة، واستبدال الزعامات بالتي هي احسن، بعد ان كان الحاكم عندنا لا يتغير الا بالموت او القتل، يتشبث بالسلطة ليس باصوات الناخبين وانما بانهار الدم والتدمير المنظم والحروب العبثية.

ان الانتخابات فرصة عظيمة يجب ان نتصرف معها بمسؤولية تاريخية، وليس بطريقة نندم عليها عما قريب.

ثالثا: يجب علينا ان نثبت لشعوب المنطقة ان التغيير ممكن، وان اداته الحضارية الوحيدة هي صندوق الاقتراع، فيما تسعى الانظمة الشمولية الاستبدادية البوليسية الوراثية الحاكمة في البلاد العربية تحديدا، بكل جهدها الى اقناع هذه الشعوب بان الديمقراطية خرافة وان التغيير وهم وان صندوق الاقتراع صنم، وان تداول السلطة كلام فارغ، وان كل ذلك خزعبلات تجر على الشعب الذي يفكر في ان يجربها ولو مرة واحدة الى حروب ودمار وتخريب وقتل وسحل وفوضى وسيارات مفخخة واحزمة ناسفة.

لقد مارست هذه الانظمة كل هذه الجرائم في العراق، ومنذ سقوط الصنم، على يد جماعات العنف والارهاب والحرب الطائفية لتبعث لشعوبها برسالة مفادها انها امام احد خيارين فاما الديمقراطية المزعومة التي تنتج مثل هذا او التسلح بالقناعة والقبول بالامر الواقع، والتسليم لسلطانها، وكل ذلك من اجل ان لا يفكر شعب من الشعوب في ان يغير او حتى يحلم بالتغيير، ليبقى عبدا ذليلا لانظمته البوليسية، والحكام الفاسدين.

انهم فعلوا كل ما بوسعهم بغية الحط من فوائد الديمقراطية، وتعظيم ثمنها ليياس الناس، فلا يفكروا بالتغيير.

ولذلك فان الشعب العراقي يتحمل اليوم مسؤولية رسالة عظيمة، هي رسالة التغيير المرجو ليس للعراق، فحسب، وانما للمنطقة وشعوبها، انها رسالة الديمقراطية التي تتجلى ضد الديكتاتورية، من خلال المشاركة في الانتخابات ليثبتوا لكل المعنيين بان الشعب الذي يتطلع الى التغيير يجب ان يضحي من اجله اذ ليس هناك شئ بلا ثمن ابدا، وان العراقيين الذين قرروا ممارسة التغيير مستعدون لدفع الثمن من اجل مستقبل زاهر، خاصة وان الايام العصيبة والحالكة مرت بسلام، ولم يبق امامهم الا القليل الذي سيتجاوزونه بكل وعي ومسؤولية ومثابرة، باذن الله تعالى.

ان الانتخابات القادمة تمثل معركة الخيار المصيري، فاما ان تنتصر الديمقراطية للعراق والمنطقة، او ان تنهزم له ولها فتنتصر الديكتاتورية، بمعنى آخر، اما ان تنتصر الشعوب في هذه المعركة او ان تنتصر الانظمة.

رابعا: نحن اليوم امام خيارين، فاما ان نتعاون جميعا من اجل تكريس الاعراف الديمقراطية من خلال ادواتها الحضارية حصرا، وهذا يتطلب منا ان نشارك في الانتخابات ولا نقاطعها، واما ان نعزف عن المشاركة فنساهم في دفع العراق الى ان يخطو الى الخلف ولو بنسبة قليلة، وهذا ليس من صالح احد ابدا.

ان المشاركة خطوة بالاتجاه الصحيح، والمقاطعة خطوات بالاتجاه الخطا، وقديما قيل، ان تسير كالسلحفاة في الاتجاه الصحيح خير من ان تركض كالغزال في الاتجاه الخطا.

ان صندوق الاقتراع مظهر حضاري، وان الاصبع البنفسجي لون المدنية العراقية الحديثة، فبه:

الف: نثيب المحسن ونعاقب المسئ.

باء: نقطع دابر الارهاب والعنف والتطرف بكل اشكاله.

جيم: نكرس مؤسسات الدولة ونقضي على آفاتها.

دال: نحول دون العودة الى الديكتاتورية التي اذاقتنا الويلات.

هاء: نصحح المسارات الخاطئة التي صاحبت عملية التغيير.

واو: نسقط رهانات اعداء الديمقراطية، ومن ينتظر ان نفشل ليشمت.

زاي: نبعث الامل في نفوس الشعوب المضطهدة، والتي تنظر الينا لترى ماذا نحن فاعلون، لتقدم او تحجم.

ان نجاح هذه الانتخابات، النموذج، على مستوى المشاركة الشعبية الفاعلة والواسعة، ستوقظ الاماني والامال بامكانية النضال من اجل الديمقراطية في دول تحكمها اتعس الانطمة الشمولية كما هو الحال في الجزيرة العربية واليمن والاردن ومصر وغيرها.

حاء: وقبل كل شئ، فان به نمارس حقا دستوريا مهما، ونكرس به حقوق المواطنة، فالمشاركة في الانتخابات حق وواجب، حق ضمنه الدستور للمواطن، وواجب فرضه الوطن على من يعيش على ارضه ويحمله فوق ظهره، فلو لم يتحمل المواطن مسؤولية بناء بلده بورقة الاقتراع فمن يا ترى، سيتحمل هذا العبء؟.

خامسا: في مثل هذه الظروف القاسية التي تمر بالعراق اليوم، يجب على المواطن ان لا يفكر بعواطفه او بمصالحه الانية واهدافه الوقتية، بل ان عليه ان يستحضر الرؤية الاستراتيجية التي تتسلح ببعد النظر.

ففي مثل هذه الظروف، ينبغي علينا ان نغض الطرف عن بعض المشاكل المعاشية التي فشلت الحكومة في معالجتها، ونستحضر الهدف الاسمى الذي يتحقق بصوتنا الذي سندلي به في صندوق الاقتراع.

ان بامكان كل واحد منا ان يسرد قائمة تبدا ولا تنتهي من الاخفاقات والمشاكل، يمكن ان تكون دافعا سلبيا يشجع المرء على عدم المشاركة، الا اننا لو نستحضر نتيجة واحدة فقط من مجموع النتائج التي سنجنيها من الانتخابات، والتي منها الحيلولة دون العودة بالعراق الى سابق عهده تحكمه الانظمة الشمولية البوليسية، ليكفي دافعا يشجعنا على المشاركة ويبز كل الدوافع السلبية التي تثبط الناخب.

ان الشعوب الحرة تستحضر، في المنعطفات التاريخية، اهدافها العظيمة فتتناسى الاخطاء وتعض على الجراح وتلعقها، وكل ذلك من اجل هدف بعيد......بعيد.

فلو لم يصبر المسلمون الاوائل على حصار شعب ابي طالب، ولو لم يصبروا على الهجرة الى الحبشة، ولو لم يصبروا على التعذيب ليقتل من يقتل منهم ويدمى من يدمى منهم، ولو لم يصبروا على خسارة كل ما يملكون من مال وعقار ليتركوه وراء ظهورهم ويهاجروا بدينهم الى المدينة المنورة، ولو لم يصبروا على القتل والقتال في الحروب والمعارك التي فرضها عليهم المشركون، لما كان فينا اليوم من يشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله.

يجب ان نتذكر بان العراق يشهد اليوم انقلابا تاريخيا، ليس بالبيان رقم واحد الذي كنا نسمعه من دار الاذاعة، وليس بالقتل والسحل وشعارات (اعدم اعدم) وانما بالاصبع البنفسجي الذي نصبغه يوم الانتخابات القادم، واقسم لو ان هذه الانتخابات كانت تشبه، في اي جانب من جوانبها، الانتخابات الكارتونية الاستعراضية التي تشهدها بعض الدول العربية، لما اعارها احد اي اهتمام ولما طعن بشرعيتها او شكك بجدوائيتها او مصداقيتها احد، بل لما انتبه اليها احد.

لو كانت هذه الانتخابات معروفة النتائج سلفا، كما كانت تجري في العراق ايام النظام البائد، او كما تجري اليوم اخواتها في بعض البلاد، لما اعارها احد اهمية.

تعالوا، ايها العراقيون، نستاجر احد المرشحين ليكون خادمنا الذي يقوم على خدمتنا مقابل مبلغ من المال، وليكون ممثلنا الذي يتحدث باسمنا ويتقدم بمقترحات القوانين الى مجلس النواب الجديد نيابة عنا، ويقف كالاسد مدافعا عن مصالحنا، يراقب الحكومة ويحاسب المقصر ويستجوب اللص والفاسد.

ليختار كل واحد منا، واحدا من بين المرشحين فيستاجره ممثلا في مجلس النواب، يبرئ به ذمته امام الله والتاريخ.

يا وطني العظيم:

لا تصغ الى كلام المرجفين في المدينة فان بضاعتهم التثبيط لليياس من يياس، ويعزف عن المشاركة من يعزف.

تسلح بالهمة والشجاعة والاقدام والمثابرة لتنهض باكرا وتقف امام عتبة صندوق الاقتراع، لتساهم في التغيير والبناء والتجديد، فتنصر مظلوما وتاخذ على يد ظالم.

يا وطني العظيم:

لقد علمت الاخرين القراءة والكتابة والدستور والقانون وفنون الزراعة والصناعة والحقوق، فاستعد اليوم لتعلمهم الديمقراطية، الديمقراطية التي انتظرتها عقودا من الزمن، فكيف تفكر بالتفريط بها اليوم؟.

لا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا.

احذر.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 1/آذار/2010 - 14/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م