تمهيد:
شاع استخدام مصطلح المجتمع المدني في الفترة المعاصرة، واصبح يمثل
احد المظاهر الحضارية للمدنية المعاصرة للمجتمعات العالمية المعاصرة.
يقصد بمنظمات المجتمع المدني المعاصر الجهة المختصة والمعنية على
تنظيم مؤسسات ذات طبيعة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تعمل في
ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض
متعدِّدة.
كما هو معلوم ان هنالك مؤشرات ومقايس معيارية متعددة متفق عليها
عالميا، يتم بموجبها تحديد مستوى التقدم الحاصل في المجتمعات العالمية
في مختلف الجوانب.
ففي الجانب الاقتصادي تمثل المؤشرات التالية كدالة على مستوى التقدم
او التطور الذي حققه المجتمع من الناحية الاقتصادية مثل ( حجم الناتج
المحلي الاجمالي، حجم الانتاج الصناعي، حجم الطاقة المنتجة والمستهلكة،
حجم انتاج واستخدام الحديد والصلب.. وغير ذلك ).
اما في الجانب الحضاري فان اهم مؤشر يعتمد عليه في تصنيف المستوى
الحضاري للمجتمعات العالمية، هو اضافة للمؤشرات الاقتصادية مؤشر اساسي
اخر هو نوعية ومستوى فعالية نشاط مؤسسات المجتمع المدني في ذلك المجتمع،
بموجب هذا المؤشر يجري تصنيف المجتمعات من الناحية الحضارية، على ضوء
ذلك فهناك بعض المجتمعات العالمية حققت تقدما كبيرا في الجانب
الاقتصادي ولكن تصنيفها حضاريا جاء بمستوى اقل، بسبب انخفاض مستويات
اداء نشاطات مؤسسات المجتمع المدني فيها.
وهناك مؤشرات عديدة تحدد هذا المستوى اهمها مستوى تمتع مواطنيها
بالحريات، ومستوى الخدمات التي يقدمها الى المجتمع في جوانب متعددة (
اقتصادية وسياسية واجتماعية )، والجهات المستفيدة منها مثل ( الاطفال
والعجزة وكبار السن... وغير ذلك )، وطبيعة النموذج الاخلاقي السائد في
المجتمع، او مستوى تمتع بعض مواطنيها بحقوقهم العرقية او العقائدية...
الخ.
سنحاول من خلال البحث توضيح طبيعة هذه الخدمات في الجوانب المشار
اليها اعلاه.
لذا فان المجتمع الذي تمكن من تحقيق تقدما اقتصاديا مهما لايكفي
تصنيفه كمجتمع حضاري ما لم يحقق تقدما مماثلا في مستوى ونوعية الخدمات
الاجتماعية التي يقدمها لافراد المجتمع..
استنادا لذلك فقد اعتبر نشاط وفعالية منظمات المجتمع المدني كأحد
المؤشر الاساسية المعتمدة لتحديد مستوى حضارية اي مجتمع من المجتمعات
العالمية.
بموجب ذلك فقد حصلت منظمات المجتمع على اهمية كبير من لدن دول
العالم ومنحتها مسؤوليات كبيرة في سبيل تحقيق تقدم حضاري لمجتمعاتهم.
يعود مصطلح المجتمع المدني الى العصور القديمة فقد تناوله المفكرين
الاغريق في كثير من كتاباتهم عن المجتمع والدولة، وعرف أرسطو المجتمع
المدني بالمجموعات البشرية المرتبطة بمراكز الحضارة المدنية والبعيدة
عن الصلات القرابية القبلية والدينية، وبذلك فقد قربه من مفهوم
المواطنة. كما تناوله هيكل وماركس عند بحثهم لمفهوم المجتمع البرجوازي
في العصور الحديثة.
في الفترة الاخيرة حصلت تطورات مهمة في افكاره وشاعت مفاهيمه بشكل
مترادف مع شيوع ونشوء الدولة القومية ونمو الرأسمالية الحديثة، حتى
اصبح في الوقت الحاضر يمثل احد الاركان الاساسية لتشكيل الدول واصبح له
دور مهم في طبيعة الخدمات التي يؤديها الى افراد المجتمع وله تأثير مهم
في تشكيل الرأي العام وفي صياغة واعتماد مجموعة المفاهيم والاعراف
الاجتماعية وفي تشكيل طبيعة السلوكيات والنماذج الاخلاقية السائدة في
اي مجتمع من المجتمعات العالمية عبر الازمان.
سنحاول توضيح هذه الاهمية من خلال مباحث هذه الدراسة المختصرة.
لقد ساهمت عوامل ومتغيرات دولية وداخلية عديدة بحصول تطورات مهمة في
مفاهيم المجتمع المدني واكتسابها مدلولات جديدة، نبين ادناه اهمها.
اهم العوامل والمتغيرات العالمية التي ساهمت بتطور وشيوع مفاهيم
المجتمع المدني:
( 1 ) - المتغيرات العالمية وما نتج عنها من حصول تطورات مهمة في
مفهوم الدولة الحديثة، وبروز مفاهيم العولمة.
( 2 ) – حصول تطورات علمية مهمة في مجال انظمة الاتصالات ونظم
المعلومات وتأثير ذلك على تطوير العلاقة بين الافراد والمجتمعات
العالمية.
( 3 ) - حصول تطورات في البعد الأيديولوجيا، وتأثيرها على التطورات
الاقتصادية التي شهدها العالم من خلال الحركات السياسية والفكرية التي
شهدتها دول العالم بالخصوص بعض الدول النامية ودول اوربا الشرقية في
سياق النظام الدولي الجديد.
ففي عقد الثمانينات من القرن الماضي حصلت تغيرات مهمة في التشكيلات
السياسية لدول اوربا الشرقية ودولة الاتحاد السوفيتي السابق وبعض الدول
النامية، تم بموجبها تقليص من سيطرة الدولة على الاقتصاد وعلى مجمل
الحركات الاجتماعية مقابل تشيط النقابات والاتحادات المهنية فيها.
( 4 ) - منح مفهوم المجتمع المدني بعدا تنمويا تم ذلك من خلال
الجهود التي بذلتها منظمات عالمية تابعة الى الامم المتحدة والمؤسسات
الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، ومن خلال اشراك المواطنيين
بشكل مباشر في تنفيذ التنمية البشرية المستدامة وفي اعتماد مفاهيم
جديدة للتنمية بعد فشل وتراجع مفاهيم التنمية التقليدية القديمة.
بموجب هذه المفاهيم تم تبني سياسة الخصخصة واجراء اصلاحات هيكلية في
الجانب الاقتصادي وتعميم تطبيقات مفاهيم وافكار نظرية اقتصاد السوق
باعتبارها النموذج الافضل لتنفيذ التنمية الاقتصادية، بموجبها منح
مفهوم المجتمع المدني بعدا تنمويا بعد ان كان قاصرا على مجالات معينة.
روجت لهذه السياسة جهود كبيرة بذلتها المؤسسات المالية الدولية،
والخطاب السياسي الى الحركات والاحزاب اللبرالية الجديدة، حيث قاما من
خلال التنسيق البيني بينهما بتحديد مهمات ودور الدولة في النشاط
الاقتصادي وجعلها ضمن مهمات تهيئة الظروف والبيئة القانونية والبنية
التحتية الملائمة لنمو وتطور قوى السوق باعتبارها الجهة المعنية
والاساسية لتنفيذ عملية التنمية الأقتصادية، بالمشاركة والتنسيق مع
منظمات المجتمع المدني.
بموجب ذلك فقد منحت مؤسسات المجتمع المدني وظيفة اساسية تمثلت
بحماية قوى السوق من عسف وتدخلات الدولة وتجاوزاتها، ومن تقلبات السوق
من خلال قيامها بتنفيذ وتنظيم الانشطة الاقتصادية، وتشكيل شبكات
الحماية، وتوسعها في تقديم مختلف الخدمات في الجوانب الصحية، والزراعية،
وفي مجالات تدريبية وما شابهها، وقضايا مثل حظر استخدام الألغام
الأرضية وحملية البيئة، وإلغاء الديون في أنحاء العالم خصوصا الفقيرة
منها وجهودها في تعزيز مفاهيم المواطنة... الخ.
في السنوات الاخيرة حصلت تطورات مهمة في نشاط مؤسسات المجتمع المدني
واصبح لها تأثير مهم في رسم السياسات العالمية، حصل ذلك من خلال تعميق
وشيوع مفاهيم المجتمع المدني في المجتمعات العالمية، ونشاط المنتدى
الاجتماعي الذي ينعقد سنويا منذو عام 2001 انعقد اخر مؤتمر له في
نيروبي عام 2007 ضم حوالي ( 50000 ) منظمة مجتمع مدني موزعة في انحاء
العالم، تم من خلالها دراسة اهم الوسائل لتحقيق التنمية المستدامة
ودراسة افضل الوسائل لتقديم خدمات متعددة متعلقة باعمال التثقيف
الديمقراطي وحقوق الانسان والاهتمام بالطفولة ومواضيع متعلقة بالعولمة
الاقتصادية... وغيرها، وهو وراء اختزال المجتمع المدني وتحويله إلى
منظمات غير هادفة الى الربح.
وبذلك أصبحت منظمات المجتمع المدني من العناصر الفاعلة والهامة في
تنفيذ المشاريع الاستثمارية، ويتوضح نشاطها في الميدان الاقتصادي فيما
ذكرته منظمة التعاون والتنمية
الاقتصادية بأن منظمات المجتمع المدني استثمرت حوالي (11-12 ) بليون
دولار أمريكي على شكل معونات إنمائية تقدم سنويا إلى البلدان النامية
في أواخر التسعينيات.
بموجبها زاد عدد المنظمات غير الحكومية الدولية من 6,000 منظمة في
عام 1990 الى ( 26000 ) منظمة في عام 1999، حصل النمو بالخصوص في الدول
التي يكون فيها التواجد الحكومي ضعيفا.
تتضمن هذه الدراسة ثلاث مباحث اساسية هي كما يلي:
المبحث الاول: -
مفهوم المجتمع المدني:
نتناول فيه توضيح مراحل تطور مفاهيم المجتمع المدني. وهو يتكون من
فصلين الاول يتناول تطوره في الحضارة الغربية، ونتناول في الفصل الثاني
مراحل تطوره في الحضلرة الاسلامية.
المبحث الثاني: -
دراسة مقارنة لمفهوم المجتمع المدني بين العولمة والفكر الاسلامي:
نتاول فيه تطور مفهوم المجتمع المدني في ظل العولمة ودراسة مقارنة
مع الفكر الاسلامي.
المبحث الثالث: -
منظمات المجتمع المدني وعملية التنمية الاقتصادية:
نتناول فيه تطلبيقات مفهوم المجتمع المدني في المجتمع العراقي،
نتناول فيه بحث واقع المؤسسات والمنظمات المرتبطة بالمجتمع المدني،
وتوضيح اهم الوظائف والخدمات التي تقدمها للمجتمع، وتحديد اهم الفوائد
او الاضرار الناتجة عنها، سيتم التركيز بشكل اساسي على تحديد تأثيرها
على الجوانب الاقتصادية في المجتمع العراقي،
لانها تمثل مادة وغاية هذا البحث.
المبحث الاول – المجتمع المدني
من المقدمة السابقة يمكن التميز او الفصل بين مفهوم المجتمع المدني
الذي يشير الى الطبيعة المدنية للمجتمع، وبين مؤسسات المجتمع المدني
التي تمثل الاليات التي يتم بموجبها تنفيذ الاهداف كما حددها المفهوم
المعتمد، وذلك كما سنبنه ادناه.
يمكن تعريف مفهوم المجتمع المدني من خلال تعريفنا للهوية الانسانية،
التي تتكون نتيجة التفاعل بين ( العقل والسلوك )، او العلاقة بين
المدركات المعرفية للانسان المتمثلة بالافكار والمفاهيم التي يعتقدها
والتي تأخذ شكل العرف الاجتماعي، وبين النماذج السلوكية والاخلاقية
المكنونة داخل نفسه والتي بموجبها يتم التعامل بها مع الاخرين داخل
وخارج مجتمعه.
يمكن تصنيف المفاهيم والافكار الانسانية ضمن مجموعتين اساسيتين، هما
( الثابت ) الذي يمثل جملة المعتقدات الاساسية لدى الانسان، و( المتغير
) الذي يتفاعل مع الظروف والمتغيرات الخارجية والداخلية، وهويتغير حسب
الظروف السائدة في حينه، لذلك يمكن القول ان الهوية الانسانية التي
ترتبط بالمتغير لها صفة التغير طبقا لتغيرات الزمان والظروف المحيطة
بها.
ويلاحظ ان حدود الثابت والمتغير لدى الفكر الاسلامي واضحة المعالم،
وتكتسب عملية التمييز بينهما اهمية كبيرة، ويمثل التخبط الحاصل بنيهما
مخالفة مهمة في الشريعة الاسلامية.
في حين ليست لها ذات الاهمية في الفكر الغربي ذي الطبيعة المادية.
و تمثل مجموع الافكار المرتبطة بالمجتمع المدني المفاهيم الخاصة به،
وهي تعبر عن طبيعة الاعراف والسلوكيات الخاصة بافراد المجتمع وهي تمثل
اهم المظاهر المعبرة عن ثقافة واخلافيات المجتمع، واخيرا تمثل اهم
عوامل ومقومات الضعف او القوة الكامنة في اي مجتمع من المجتمعات
العالمية، سيتم توضيح هذه الفكرة عند بحثنا لطبيعة الوظائف التي تقدمها
مؤسسات المجتمع المدني للمجتمعات.
وتمثل المنظمات او المؤسسات الناشطة والمرتبط عملها في مجال المجتمع
المدني الادوات والاليات المعبرة عن الافكار والمفاهيم المرتبطة
بالمفهوم وبموجبها يتم تطبيق الافكار، ومن خلالها يتم توضح الغرض او
الوظيفة التي يراد بمؤسسات المجتمع المدني تقديمها للمجتمع.
بموجب هذه المفاهيم يمكن التميز بين مستوى نشاط هذه المؤسسات وفي
طبيعة ونوعية الوظائف والخدمات التي تقدمها للافراد المجتمع.
لا بد ان نشير ان تحديد طبيعة المفهوم تتأثر بعاملين اساسين هما:
اولا - طبيعة العقيدة او الايدلوجية التي يتبناها المجتمع.
ثانيا - السياق التأريخي لتطور المجتمع من الناحية الثقافية
والاجتماعية والاقتصادية... وغيرها، سنبين تفاصيل ذلك لاحقا.
نشـأة مفهوم المجتمع المدني:
اختلف المفكريين والسياسين في تحديد نشأة مفهوم المجتمع المدني،
فمنهم من يرى أن نشأته مرتبطة بالعلمانية أي عندما تم فصل الدين عن
الدولة، وهناك من يرى بأن العلمانية ليست شرطا لنشوئه، لان الثنائية
الدينية والدنيوية هي أيضا تربة يمكن للمجتمع المدني أن ينشأ فيها حيث
تمثل المؤسسات الدينية أحد مكوناتها، والجدير بالذكر بأن لكل تيار سواء
كان ماركسيا أو ليبراليا او دينيا... لديه تباين في رؤيا المفهوم، ولكن
مهما تباينت الآراء والرؤى إلا أنه لا يمكن تجاهل دور الدولة أو
القيادة السياسية في المجتمع بحصول تدهور أو تقدم المجتمع المدني.
واختلفوا كذلك في تقيمه فمنهم من اعتبره احد المظاهر الحضارية
لتحقيق تقدم حقيقي في المجالات الانمائية لمختلف مجتمعات دول العالم،
ومنهم من اعتبره احد الوسائل التي يتم بواسطتها تسويق النموذج الحضاري
للدول الرأسمالية المتقدمة ضمن سياقات متعددة تمثل مظاهر العولمة اهمها،
حيث يعمل على تعويم هذا النموذج في الدول النامية ولدى دول اوربا
الشرقية.
تعود تسمية المجتمع المدني الى العصور القديمة جدا، ومرت مفاهيمه
بتطورات عديدة ارتبطت كما ذكرنا انفا اولا بالتطورات الحاصلة في
الجوانب ( الفكرية والفلسفية، الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية )
السائدة في حينه، وثانيا بالسياقات التاريخية والزمنية للمجتمعات
الانسانية.
نشأ مفهوم المجتمع المدني لأول مرة في الفكر اليوناني الإغريقي فقد
أشار إليه أرسطو باعتباره" مجموعة سياسية تخضع للقوانين" وبحسب هذا
التعريف لم يمكن التميز بين الدولة والمجتمع المدني، فالدولة في
التفكير السياسي الأوروبي القديم يقصد بها" مجتمع مدني" فهي تمثل
تجمعاً سياسياً أعضاؤه هم المواطنون الذين يعترفون بقوانين الدولة
ويتصرفون وفقاً لها. فهو يمثل بالمجموعات البشرية المرتبطة بمراكز
الحضارة المدنية والبعيدة عن الصلات القرابية القبلية والدينية.
لكن البداية الحقيقة لتشكل مفهوم المجتمع المدني ارتبطت بنشوء
المجتمع الرأسمالي عند حصول تطور في الفكر السياسي الليبرالي، بعد
انهيار الحكم الإقطاعي المطلق وبداية نشوء سلطان القانون الطبيعي
والتحول الى حالة المجتمع المدني الحديث واعتماد مبادىء حرية الإنسان
وسيادة الشعب وحقوق الإنسان.
يمكن القول ان نشأة وترعرع مفهوم المجتمع المدني في المجتمعات
الاوربية جاء ضمن مفهوم النظرة العلمانية للمجتمع ككل.
* محاسب قانوني
falahfamily@hotmail.com |