حرية الرأي الآخر في الإسلام

الشيخ فاضل الصفار

إن الإسلام يرفض أشد الرفض ظاهرة الاحتكار السياسي بكل أنواعه وصنوفه، سواء كان احتكاراً للثقافة والفكر وأجهزة الإعلام أو احتكاراً للممارسة السياسية لافرق، فالاحتكار في أي صورة كان لايتعدى عن كونه نوعاً من الديكتاتورية المطلقة التي تصادر كل شيء من أجل نفسها وحسب، ومن دون أي مبرر شرعي أو قانوني يجيز لها ذلك، ومع الأسف نجد أن أكثر الظواهر السلبية تفشياً وانتشاراً في العالم الثالث وخاصة البلاد الإسلامية هي ظاهرة الاحتكار السياسي ومصادرة حقوق الآخرين.

ففي أكثر البلدان الإسلامية نجد أن الحاكم الفرد يعمل بعكس ماجاء به الإسلام من قيم ومبادىء لتحرير الناس وانقاذهم من الجهل والخرافة وجعلهم متكافئين في المجالات والفرص، وبعكس كل ذلك يقوم الحكام المسلمون باحتكار الموقف والقرار والرأي والممارسة اليومية في العمل السياسي وجعله حكراً له ولبطانته وأجهزته الحكومية فقط بلا أن يرى للشعب أدنى حق له في ذلك من قريب أو بعيد.

ولو تلطف الحاكم الديكتاتور يوماً وأراد أن يتعاطف مع الأجواء الديمقراطية أو ينصف الشعب في معادلة سياسية معتدلة في نظره فإنه يكتفي بالاستيلاء على مركز القرار والرئاسة العليا، ويقنع بالمسؤوليات المهمة والخطيرة فقط التي تمس مصير الدولة والشعب تاركاً للآخرين النزر اليسير من المسؤوليات والوظائف السياسية التي تتحفظ على مظاهر العمل السياسي والتي لاتظهر إلاّ في هامش الحياة السياسية.

وفي هذا كله خروج عن مبادىء الإسلام والدستور الصحيح الذي يستمد منها شرعيته؛ وذلك لأن الإسلام يرفض كل أشكال الاحتكار السياسي من رأس، ولايتعامل مع الأجهزة والأطراف وكل مكونات الواقع السياسي إلا على أساس الحرية والنظام الديمقراطي الذي يحترم الجميع، ويمنحهم الفرص الكافية للتعبير عن آرائهم وممارسة أدوارهم في أجواء هادئة ومفتوحة؛ وذلك لإيمانه الجذري والعميق بأن العمل السياسي حق شرعي وانساني مشاع للكل كسائر الحقوق الإنسانية التي يكفلها الدين للجميع.

ومن هنا فإن الإسلام يحرم الديكتاتورية والاستبداد والتفرد بالساحة السياسية؛ لأنه يعتبر احتكار الممارسة السياسية لشخص واحد أو عدة أشخاص أو حزب أو فئة أو طبقة أمراً مستهجناً لاينطبق في ذاته إلا في البلدان المتأخرة حضارياً وثقافياً، ولاينطوي على غير التخلف والانحطاط، وهو لعبة خطيرة وسيئة لايجيدها إلا رجل عميل ارتبط بالقوى الخارجية، وفرضته على الشعب كأزمة مصدرة تساعدها على تحقيق أهدافها الاستعمارية، أو هو رجل مريض فعلاً أُصيب بعاهة نفسية خطيرة جعلته يتصور نفسه فوق البشر وفوق مستوى النقص والنقد والتوجيه، وهو المالك الحقيقي لكل شيء !!

والحال أن العمل السياسي في نظر الإسلام ليس منحة أو هبة يتفضل بها الحاكم على الشعب، وإنما هو حق طبيعي من الحقوق الإنسانية الإلهية الملزمة التي لايمكن للإنسان أن يستغني عنها في يوم من الأيام، ولايجوز المساس بها بأي شكل من الأشكال؛ وذلك لأن السياسة التي يدعو لها الإسلام عبارة عن رعاية الناس وتدبير شؤونهم وضمان حقوقهم وخاصة الحقوق السياسية من التعري والمصادرة.

والإنسان الذي يمنع من إبداء رأيه أو الإعلان عن موقفه أو يحد من ممارسة حقه في العمل السياسي والمحاسبة والنقد والاعتراض إنما ينسلخ عن إنسانيته في بعض الأحيان، ويصبح في حالة بعيدة عن المبادىء والقيم والأخلاق ولايتعامل إلا بالعنف والقوة والإرهاب والتعدي على الآخرين والتهام حقوقهم وغيرها من الأمراض السلبية الخطيرة التي يفرضها عليه الاستبداد والأجواء القمعية القاسية.

وفي هذا ينحط عن مستوى التعامل الإنساني النظيف الى الأساليب الوحشية والحيوانية، خاصة وقد جعل الإسلام بعض الطقوس الدينية والتجارب السياسية أمراً واحداً لافرق فيه من حيث الحقيقة والجوهر وإن اختلفت صوره وأشكاله، حيث رسم للمسلمين مناهج السياسة وأُصول الدولة والحكم، ووسع في آفاقها في سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث كانت في مضمونها مسيرة عملية ملموسة طبقت العدل والديمقراطية واحترام الجميع بأُسلوب منطقي موزون، وألغت في مواقفها كل أساليب التجاوز والتفرد والاحتكار.

ومن هنا فإن تجاوز هذه الحدود والأُطر الشرعية الصحيحة في المسرح السياسي يعني في مضمونه تجاوزاً على الإسلام، وخروجاً عن مبادئه القويمة التي أنزلها الله للبشر.

مظاهر الاحتكار السياسي

ليس من اللغو أو العبث أن يلغي الإسلام ظاهرة الاحتكار السياسي، وإنما للأسباب والعلل الكثيرة التي تسبب للحياة الإنسانية مضاعفات خطيرة وكبيرة تقود كل شيء في الحياة الى الموت، ومن هنا فإن للاحتكار السياسي مظاهر وآثاراً تظهر في الحياة السياسية في كثير من الأبعاد والمجالات، أهمها:

1-مصادرة حق الإنسان في الاختيار؛ لأن من يحتكر الرأي والموقف والعمل لنفسه يجعل ذاته أو منهجه هو الخيار الوحيد المطروح أمام الناس، وليس لهم أن يختاروا غيره؛ ولهذا فإنه لايستعمل الاقتراع العام أو يلغي قانون الانتخابات التي قد تؤدي إلى تمثيل الشعب إما بالتحكم بهذه الانتخابات بفعل الإكراه أو التهديد الذي يمارسه ضد الشعب.

وفي مصادرة هذا الحق العظيم مصادرة لثلاثة حقوق أساسية أخرى للإنسان، هي مصادرة حرية الإنسان في مزاولة العمل السياسي، بل ومصادرة حق الإنسان في الاجتهاد والاختلاف؛ لأن الذين يحتكرون السياسة لايعترفون إلا برأيهم، ولايتوقعون من الناس غير التسليم والانقياد لآرائهم ومواقفهم دون مناقشة أو جدال،كما قال فرعون في القديم لشعبه المصري: (مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ (1).

ويقول اليوم المبدأ الديكتاتوري المعروف ((نفذ ثم ناقش أو نفذ ولاتناقش)) حسب مراتب الاستبداد وتوقعات المستبد، ومن الواضح أن من يستبد برأيه لايستطيع أن يتحمل أو يقبل الرأي الآخر؛ ولذا فهو يصادر حق الاختلاف بالرأي بالرغم من أن اختلاف الآراء ظاهرة طبيعية في المجتمع الإنساني بغض النظر عن ميزتها المهمة في تمحيص الآراء وفرز الرأي الصواب.

ولهذا لايجب أن نستغرب أبداً إذا رأينا المحتكر السياسي يصادر حق المراقبة والنقد من الشعب؛ لكون النقد يشكل ممارسة سياسية معتادة وواضحة، وهو لايحتمل أن يرى أحداً يمارس السياسة غيره فضلاً عن نقده أو محاسبته، ولذا فهو يمنع الأحزاب السياسية أو يلخصها ويحصرها في حزب واحد يملكه الحاكم وحده، وهذا يعني غياب التنافس الحر على السلطة هذا أولاً.

وثانياً: لأن النقد يفتح ثغرات كبيرة ومفضوحة في جبهة الاحتكار السياسي والديكتاتورية ربما تؤدي إلى سقوطه وتعويضه.

من هنا فاننا لايجب أن نعتقد أن حكومة الاحتكار والاستبداد السياسي كباقي أنواع الحكومات التي تشذ عن القانون وتتجاوز بعض حدوده، بل إن الاحتكار أخطر وأكبر من كل ذلك؛ لأنه لايتوقف حتى عن كونه قمعاً للإنسان وسحقاً لحقوقه وكرامته فقط، بل هو في حقيقته إلغاء ومصادرة لكل حياته ووجوده.

2-وحدانية السلطة، حيث تتركز السلطات السياسية بين يدي رجل واحد ومجموعة صغيرة من الرحال يتبعها تقليص وحتى إلغاء حرية التعبير وحرية الصحافة وحتى الإعلام الذي يعدّ من أهم العناصر الأساسية المكوّن للسلطة السياسية تحتكره الطبقة الحاكمة، وتنتزعه من أيدي الشعب.

3-تحجيم بل وإلغاء الحريات الفردية وكل الاشياء التي قد تمت إلى الديمقراطية بصلة بكاملها، مثل: حرية التنقل وحرية التجمعات وحق الإضراب وغيرها.

4-الأجهزة القمعية. طبعاً من الواضح أن كل دولة لابد وأن تمارس بعض الإكراه في حق الشعب، كما لابد لها وأن تستند الى جهاز شرطة وقضاء وجيش تعمل على تأمين رد الأخطار الخارجية وحفظ النظام في الداخل. بيد أن الأُسلوب القانوني والدستوري الموزون يعلمنا أن هنالك مجموعة عوامل وأسباب تحول دون تطرف هذه السلطات المسلمة، كالانتخابات وحرية التعبير والأحزاب السياسية وأمثالها التي تتسم بها الأنظمة الديمقراطية لاتسمح باستخدام الأجهزة القمعية إلاّ على أساس القانون ومبادىء الدستور الذي ينظم علاقات الدولة والشعب؛ لكونه ينظم ممارسة السلطة السياسية بواسطة أجهزة الدولة، ولكن يقيد هذه الأجهزة ومجالات تدخلها لصالح الحكومة.

5-الدعاية التي هي الوسيلة القوية التي يستخدمها المستبدون بعد القمع للتظاهر بالشرعية وقوة النظام وعظمة الحاكم، وكلما توغلت الحكومة بالديكتاتورية قويت فيها وسائل الدعاية والتمجيد والإشادة بحياة الحاكم، ونشرت صوره في كل مكان من البلد حتى في الأواني البيتية وزجاجات السيارات وجدران المحلات التجارية وأطراف الشوارع والأزقة وغيرها حتى ليصبح كل شيء في البلد يهتف باسم حاكمه، ويردد أقواله، ويرفع صوره ترغيباً أو بالإرهاب.

6-الدعم الخارجي من قبل الأجهزة العالمية كالجيوش وأجهزة المخابرات ووسائل الإعلام والاتفاقات الدولية وأمثالها.

هذه بعض مظاهر الديكتاتورية والاحتكار السياسي.

البديل الشرعي الحر

والآن وبعد محاربة الإسلام لصنوف الاستبداد والاحتكار السياسي يبقى هناك سؤال كثيراً مايراود الأذهان، وهو ماهو البديل المنطقي المعقول الذي يطرحه الإسلام كعلاج جذري وأصيل يقضي على داء الاحتكار ومشكلة الديكتاتورية؟ وماهي الخطوات العملية التي يمكن أن نخطوها نحن للحصول على حياة سياسية آمنة ومستقرة يسودها التوازن والاعتدال والأجواء الديمقراطية الحرة؟

والجواب باختصار هو تحكم الحرية السياسية وتأصيلها في نفوس الناس ووعيهم وثقافتهم، وتطبيقها على صعيد الممارسة والعمل في كافة المجالات والشؤون الحيوية التي تمس حياة المواطنين ومشاعرهم وأحاسيسهم حتى يؤمن كل واحد من أبناء الشعب أن المسرح السياسي هو حق الكل وملك الجميع بلا استثناء، وليست ضيعة توهب أو تباع وتشترى، ولابضاعة أسيرة يحتكرها رأس المال ويتصرف بها حيث شاء، فيعطيها لهذا، ويمنعها من ذاك، وليس لعبة ولاصفقة كي ينفرد بها من له مهارة فائقة بفنونها أو تقتصر على أصحاب المصالح والسهام والرساميل الضخمة، بل هو – المسرح السياسي – حق وهبة كسائر الهبات الإلهية للإنسان، وأيضاً كسائر الحقوق التي جعلها الله سبحانه لعامة الناس ولم يوقفها على قسم خاص منهم.

هذا الشعور الواعي المنفتح على الجميع والمحترم للأطراف والمؤمن بدور كل فرد أو كتلة أو جماعة في التأثير والتأثر بالأحداث والمواقف والآراء سوف يجبر الجميع الحكومة والشعب وكل مايرتبط بهما من أجهزة ودوائر ومؤسسات من دون شك على إقامة علاقات متبادلة وروابط مفتوحة يسودها التفاهم والحوار، وتوزيع القدرة ومركز القرار بين جميع الأطراف العاملة في الساحة، ويقضي على نزعة الاحتكار والتسلط والتجبر والاستعلاء على الآخرين.

كما أن موقف الإسلام من الحرية السياسية وممارسة الأدوار ونظرته لها كمفهوم أصيل وأساسي يعد من أهم مبادئه وأفكاره حتى صار المبدأ الأول في حياة البشر الذي جاء بمبادىء الحرية والشورى والانتخاب كمشروع عملي واحد ومتكامل يقوم عليه نظامه السياسي في الحكم والدولة. هذا الموقف الإسلامي الصريح من الحرية السياسية يساعدنا على توفير ذلك.

حيث وضع الإسلام منهاجاً متوازناً وكاملاً يتضمن تحرير الإنسان من كل الآصار والقيود، سواء في بناء القاعدة التحتية للحرية وهي العبودية المطلقة لله سبحانه: ((لاتكن عبد غيرك فقد جعلك الله حراً)) (2) أو في تحرير الإنسان على المستوى الشخصي والنفسي والأخلاقي: (خمس خصال من لم تكن فيه فليس منها خصلة فيه كثير مستمتع: أولها الوفاء، والثانية التدبير، والثالثة الحياء، والرابعة حسن الخلق، والخامسة -وهي تجمع هذه الخصال – الحرية) (3).

أو تحريره على المستوى العام والشعبي الذي يشمل الحريات الفكرية والسياسية والاقتصادية (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. (4)

 ومن الواضح أن تحرير الإسلام للإنسان في المجال السياسي إنما يقوم على أساسين:

1-مساواة الناس في الدور والمسؤولية الشرعية أمام الحق والقانون الإلهي.

2-تضامنهم وتلاحمهم في سبيل تطبيق أحكام الله وإقامة الدين ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (5).

ومن أولى نتائج هذه المساواة والتضامن هو تحرير الإنسان في الحقل السياسي من سيطرة الآخرين واستيلائهم على مجالات غيرهم والقضاء على كل ألوان الاستغلال والمصادرة السياسية وأشكال الحكم الفردي والطبقي.

من هنا نفهم أن الإسلام يعتبر كل تركيبة أو نظام سياسي يسمح لفرد أو فئة أو طبقة باستضعاف الأفراد أو الطبقات الأُخرى والتحكم فيها خروجاً عن مبادئه القويمة، وتعدياً صارخاً على الحرية وحقوق الإنسان حتى لو تخفى وراء البرلمان أو الدستور أو الدين.

خطوات عملية

ونحن لكي نضمن الحرية ونحمي المسرح السياسي من المصادرة والاحتكار لابد أن نعتقد سلفاً:

1-حق الإنسان في الاختيار الحر سواء في مجال العقيدة والرأي والنظام وتركيبة الحكم أو أُسلوب العمل السياسي.

2-حق الإنسان في العمل والموقف السياسي بدون إكراه أو ضغط أو مصادرة.

3-مشروعية التعددية واحترام الأطراف المخالفة في المسرح السياسي وحمل مواقفها الناقدة أو المعارضة على أنه اختلاف في الرأي والاجتهاد حول المواضيع والقضايا السياسية والاجتماعية وافتراق في وجهات النظر حول الأساليب التي نتعامل بها معها والتي من المتعذر بل المستحيل عادة اتفاقها أو توحدها في يوم من الأيام في الحقل السياسي.

4-حق كل مواطن في التعبير عن رأيه والإعلان عن موقفه واتجاهه، أي حرية وسائل الإعلام والصحافة والنشر حتى وإن كان رأياً مخالفاً وحقه أيضاً في أن يحترم رأيه.

5- حق كل إنسان في المراقبة والنقد والاعتراض اذا كانت اعتراضاته ضمن قواعد الدستور وأخلاقيات المعارضة.

6-إلغاء القوة والسلاح والعنف السياسي كأُسلوب سلطوي تستخدمه الدولة لفرض مبادىء الحكومة والاعتماد في ذلك على وسائل التوعية والتثقيف والأساليب السلمية الأُخرى، ومن المؤكد أن الشعب الذي يتربى أبناؤه على هذه المبادىء الدستورية والشرعية الحرة لدى تعاملاتهم اليومية في الساحة السياسية سوف يضمن كل واحد من أبنائه حريته كما يضمن الشعب كله هو الآخر حياة ديمقراطية حرة؛ لأن الحاكم الذي ترعرع ونشأ منذ كان مواطناً عادياً على هذه المبادىء والأفكار ودخلت في تركيبته الثقافية والنفسية سوف يصعب عليه تجاوزها إذا وصل إلى السلطة في يوم من الأيام، فضلاً عن قوة الرأي العام التي تقف سداً منيعاً أمام طغيانه وتعديه فيما لو أراد ذلك أو حاول.

معطيات حرية الرأي

إن المكاسب التي يحصل عليها الشعب من إباحة العمل السياسي للجميع واحترامه لحرية الرأي الآخر وإيمانه بتعددية الأدوار والمواقف والتزامه بتوزيع مركز القدرة والقرار وانفتاحه على سائر المواقف والاتجاهات التي يتخذها أبناؤه في ظله لاينحصر في التزامه ببنود الدستور الذي ينص على حرية الرأي كحق مشاع للجميع لايمكن منعه أو إلغاؤه، كما لايقتصر على تمسكه بمبادىء الإسلام وشريعته السمحاء التي اعتبرت هذا الحق واجباً إلهياً لايمكن التخلي عنه بحال من الأحوال فقط، بل تمتد آثاره ونتائجه الإيجابية إلى أكثر من صعيد ومجال في حياة الشعب، فهو حرية الرأي:

1-يعود على الشعب بالتلاحم والتماسك والاتحاد الناجم عن احترام الأطراف وإعطاء كل طرف حقه في السلطة وفي الرأي والكلام وتمثيل دوره بحرية وأمان.

والذي يضمن هذا الأخير لكل أبناء الشعب حياة مستقرة وهانئة بعيدة عن مخاطر الانقسامات الداخلية والحروب الدعائية والإعلامية الحارة والباردة وأعمال القمع والعنف التي قد يمارسها الطرف القوي من أجل إخضاع خصومه الضعفاء، والتي تشغل الشعب والحكومة معاً في صراعات جانبية تبعدهما، أو تحول دون تحقيق الأهداف الأصلية الأهم.

وبالتالي تقود الجميع إلى أزمات حادة ومتفاقمة وأوضاع سياسية سيئة يسودها الإرهاب الحذر.

2-كما أن احترام الآراء يضع بين أيدي الشعب طاقات وقدرات وإمكانات هائلة تساعده على تحقيق أهدافه وتطلعاته، وهو غاية قصوى في أنظار السياسة والسياسيين وإن اختلفت أنظارها ومواقفها.

3-أنه يقضي على التصفيات الجسدية وحمامات الدم التي تقيمها الأنظمة السلطوية لعدم اعترافها بالآخرين، كما يحد من النزيف السكاني المستمر والهجرة المتواصلة التي يقوم بها أبناء البلاد إلى خارج الوطن تجنباً للمآسي والويلات التي تسببها لهم الحكومة، الأمر الذي يفقد الشعب خيرة أبنائه وطاقاته، ويعرضه إلى أضرار وخسائر كبيرة تؤدي به إلى الهزائم والنكسات.

ولعل نظرة واحدة نلقيها على البلدان التي لايتمتع أبناؤها بحرية الراي ولم يجدوا متنفساً حراً للتعبير عن آرائهم ومواقفهم يكفي لإثبات مصداقية مانقول، فالتأخر والانحطاط والأزمات الداخلية المتفاقمة والتصفيات الجسدية التي لها بداية ولكن لايعرف لها نهاية أبداً – لأنها لاتتوقف عند حد – حيث تتم في اليوم الأول بتصفية الخصوم، ثم تسري إلى المحايدين حتى تشمل الأصدقاء والمقربين في صراعات عنيفة بين الأجنحة الحاكمة نفسها، أليست الثورات تأكل أصحابها كما تأكل الهرة أبناءها ؟ هذه المآسي والويلات أصبحت حالة سارية ترافق كل مواطن فيها وعملة رائجة ينالها الجميع. نعم ينالها الجميع في ظل الأنظمة المستبدة.

الإسلام وحرية الرأي السياسي

قد يدعي البعض أن الدين بطبيعته عبارة عن أوامر محددة ونصوص وإلزاميات منزلة من السماء لاتقبل البحث والمناقشة، فكل جدل فيها يعتبر لغواً باطلاً لاجدوى فيه؛ لأن بنوده وتفريعاته تعبديات مفروغ عنها سلفاً، ويخرجون من ذلك اعتماداً على قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (6) وقوله تعالى: (إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ).(7) و: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(8).

والقاعدة الشرعية المعروفة التي يستند إليها الفقهاء في استدلالاتهم الشرعية والتي تقول: لا اجتهاد في مورد النص (9)؛ ولذلك لايمكن أن تكون هناك حرية رأي أو نقاش في ظلال الدين، والجواب على ذلك بسيط وواضح.

فأولاً: جميع دساتير العالم تشتمل على مبادىء وأُصول رئيسية لايمكن المساس بها أو مناقشتها، حيث يعطون للدستور مكانة سامية تعلو على النقاش والجدال في كثير من الأحيان؛ ليكون المرجع الأخير عند التخاصم أو النزاع، وإذا أرادوا النقاش يوماً ما فيناقشون القانون فقط باعتباره فهماً لمبادىء الدستور، وتطبيقاً عملياً لبنوده لاغير، والإسلام أيضاً له أُصول ومسلمات لايمكن تخطيها أو مناقشتها أبداً، وهناك تفريعات وتطبيقات عملية لهذه الأُصول تكون قابلة للاجتهاد والبحث والنقاش، حيث تكون مهمة الفقهاء وموارد اجتهاداتهم منصبة على تطبيق الكليات على مصاديقها كما يعبرون عنه استناداً لرواية:((إنما علينا أن نلقي اليكم الأُصول وعليكم أن تفرعوا)) (10) و: ((علينا إلقاء الأُصول إليكم وعليكم التفرع)) (11).

ومن الواضح أن الآيات والقاعدة جاءتنا في مورد الأُصول لا التطبيقات، وقد تقدم بعض الكلام عن ذلك في موضوع معالم الحرية في الاسلام.

وثانياً: أن الرأي والمناقشة لها ضوابط وحدود لايجوز تعديها، منها أن لاتستلزم إلغاء المبدأ نفسه أو الإطاحة بأُصوله، وهذه قاعدة متفق عليها في كل أنظمة العالم.

ففي أمريكا مثلاً التي تسمى رائدة الديمقراطية اليوم تمنع الدعوة إلى الشيوعية والترويج لمبادئها، كما أن في البلدان الشيوعية تحظر الدعوة إلى الفكر الديمقراطي وهكذا.

وكذلك في الإسلام فإنه يبيح لك أن تعتنق أي مذهب وتدعو إلى أي راي سوى الدعوة إلى الكفر والتشكيك في الله، أو إلغاء الواجبات وإباحة المحرمات، وكل شيء يعود إلى تضليل الناس والتغرير بهم، والسبب في ذلك واضح؛ لأن هذه الأشياء الرئيسية هي التي تحرص كل دعوة أو مبدأ على صيانتها، فمحاولة هدمها يعتبر هدماً للمبدأ من أساسه، وهو عمل لايقره العقلاء أبداً.

فإذاً إذا كانت حرية الرأي السياسي تشمل إلغاء الدين وإقصاءه عن حياة الناس فهذا حرام، ولايمكن السماح به مطلقاً، وأما إذا كانت حرية الرأي تهدف المطالبة بالحق والشكوى من الظلم والتعسف، أو تنبيه الحاكم على أخطائه وتقويمه والوقوف أمام عدوانه وتجاوزاته وإبداء الرأي المنتقد أو المعارض في أي شأن من شؤون الدولة والحياة المدنية للشعب إلى غير ذلك من الأُمور التي تسمى في مصطلح اليوم الحرية السياسية فإن الإسلام لايكتفي بالسماح بها ويشجع على ممارستها، بل إنه يأمر بها ويقدسها، وفوق ذلك يعتبرها فريضة من الفرائض الإلزامية على كل مواطن مسلم، ونوعاً من العبادة والجهاد في سبيل الله، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، فلتأطرنه عليه أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض)) (12).

من هذا كله نجد أن الإسلام يسمح باختلاف الرأي والاتجاه في الأُمور الخاصة والعامة التي لم ينزل فيها نص قرآني، ويسمح أيضاً بالاجتهاد والبحث والمناقشة في فهم النص وتفسيره وكيفية تطبيقه.

وأعلى من ذلك يسمح بل يأمر بوجود فئة من أبناء الشعب تكون خارج السلطة مهمتها مراقبة الفئة الحاكمة وتنبيهها إلى أخطائها وتقديم النصح لها، بل وردعها إذا أخطأت، ووضع السبل الكفيلة بتعديل سياستها، استناداً إلى قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي مهمتها الربط والتنسيق بين حرية المسلم في إبداء الرأي كحق إنساني مشاع وبين مايجب عليه القيام به من وظائف وأدوار حيوية تجاه رأيه وعقيدته كمسلم متدين بالإسلام وملتزم بمبادئه، حيث يحق له إبداء الرأي إيجاباً في المواضيع التي يرتئيها صحيحة ولكن يجب أن يكون في إطار المعروف، كما يحق له إبداء الرأي سلباً في المواضيع التي لايرتضيها ولكن في إطار النهي عن المنكر.

حدود الرأي

ومن هنا جعل الإسلام شرعية استلام السلطة وتولي المناصب السياسية والإدارية لأي مواطن مسلم في الدولة كحق طبيعي يجيز له ذلك متوقفاً على مدى التزام المتصدين لهذه المناصب بالعقائد وبالأحكام الشرعية؛ ولهذا السبب أيضاً لايجيز الإسلام تولية الكافر أو المسلم الفاسق الإمارة أو أي سلطة دينية أو سياسية تتعلق بمصير المسلمين؛ لأنه ليس في إطار الدين والمعروف؛ ولهذا السبب أيضاً احترم آراء الأقليات الدينية والمذهبية، واعتبر ذلك حقاً مقدساً لهم يحق لهم التمتع به، ومن هذا المنطلق أجاز سماع رأي غير المسلمين من رعايا الدولة المسلمة لدفع أي خطر يهددهم ومظلمة تقع عليهم، سواء من المسلمين أو غير المسلمين مازال في إطار المعروف والنهي عن المنكر.

فإبداء الرأي إذاً أباحه الشرع المقدس لكل مواطن حتى لو كان غير مسلم، ولكنه قيده بالأُطر الشرعية وموازين المعروف والمنكر التي وضعها الإسلام ميزاناً لتشخيص المواقف والآراء بما لايجوز سحقها أو التعدي عليها لأي أحد.

فحريات الإنسان مقيدة بالشريعة في الإسلام، ولايسمح له مطلقاً بالمناداة بآراء كافرة أو مضللة، كما لايجوز له تكوين جماعات وأحزاب سياسية تتبنى عقائد وأفكاراً مخالفة للشريعة.

والإسلام حينما يبيح للمواطنين حرية الرأي السياسي يجعل الشعب صاحب الكلمة العليا والرأي والقرار الذي يتصرف في شؤون الحكم، ويمنح كل واحد من أبناء الشعب حق المشاركة في مسؤولية السلطة، سواء بطريق مباشر أو غير مباشرعن طريق نوابه وممثليه.

ويتمثل ذلك في حق الشعب في اختيار الحاكم وفي مراقبته ومحاسبته على أعماله ومواقفه، وأيضاً في مشاركته في الحكم، وفي سحب الثقة منه أو عزله نهائياً إذا حاد عن الطريق القويم، أو اذا خالف مافوضته الأُمة فيه، وجعلته ناظراً على مصالحها.

والخلاصة في موقف الاسلام من حرية الرأي السياسي هو أنه يعتبره واجباً شرعياً على كل مسلم، وحقاً له كذلك، كما يعتبر أيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – بمعناهما العام -من أظهر مصاديق حرية الرأي فرضاً على المسلمين أفراداً وجماعات، في السلطة كانوا أو خارج السلطة يجب على الدولة تمكينهم من مزاولتهما وعدم تحيدهما أو التقصير فيهما، كما يجب أن تضمن لهم حق إبداء الرأي وحرية الكلام مادام في إطار الشريعة.

ومن هذا المنطلق تمتاز الدولة الإسلامية بكونها الدولة الوحيدة التي ينص دستورها الشرعي على حرية الرأي كأمر وجوبي ملزم فضلاً عن كونه حقاً سياسياً للمسلمين.

ضمانات حرية الرأي

سلك الإسلام طرقاً عديدة من أجل ضمان حرية الرأي للمواطنين في مقابل الحكم المستبد، ومن أهمها:

أولاً: حسن الظن بالمسلم

فكثير من الحكام المستبدين تضيق صدورهم بالمعارضة، ولايطيقون حتى أدنى كلمة تصدر ناقدة لآرائهم أو معترضة على مواقفهم؛ لذلك يخنقون أنفاس الشعب، ويكمون أفواه أبنائه، وأول سلاح يستخدمونه في ذلك هو الاتهام والدعاية الكاذبة، لأنه سلاح قوي التاثير أولاً وقليل التكاليف في نفس الوقت، حيث يشنون حملات إعلامية كثيفة يبدؤون فيها باتهام خصومهم في الموقف والرأي بسوء النية والمعارضة الهدامة، وأحياناً اتهامهم بالعمالة لتبرير قتلهم وإعدامهم بالكامل، وتدبير مؤامرة تسعى للإطاحة بنظام الحكم، وهذه التهم والأكاذيب تجعل الإنسان الشريف وصاحب الرأي والكلمة يحجم عن النصيحة، ويؤثر السكوت على الباطل والخطأ.

والله تعالى ينهى عن الاتهام بالظن، ويدعو دائماً إلى حسن الظن بالمسلم وحمل أعماله ومواقفه على الصحة كما ألمحنا إليه سابقاً، ويقول: (يَـا أيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ)(13). لأن فتح باب سوء الظنون بين الناس والتشكيك في نواياهم ومواقفهم معناه انعدام الثقة وفقدان الصدق والإخلاص في العلاقات الاجتماعية، خاصة لو رتبنا على سوء الظنون مواقفنا وأعمالنا، فإن ذلك يقود الى العزلة والتفرقة والانقسامات الدائمة وتنامي الأحقاد والضغائن؛ إذ لم يبق للإيجابية والبناء أي موقع أو دور، وهذه وحدها تكفي لتحطيم المجتمع وهدم أركانه.

ولذلك يقدس الإسلام حرمة الإنسان المؤمن، ويحمل مواقفه وآراءه على الخير والصلاح لكيلا يبقى مجالاً للسياسة لأن تتحكم في رقاب الناس، وتخوض في دمائهم نتيجة تصورات سلبية خاطئة عن مواقفهم وآرائهم باعثها التشكيك وسوء الظن، فقد وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً يبين حرمة الكعبة ومدى مكانتها وقدسيتها عند الله، ثم يقول لها مخاطباً: ((والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وإن نظن به إلا خيراً)) (14). فتصور أن حرمة المؤمن وكرامته وماله وعرضه وألا يظن به إلا خيراً أعظم مكانة عند الله من تقديس الكعبة ومكانتها.

وقد طبق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سياسة حسن الظن ليس مع أصدقائه واهله وذويه فقط، بل حتى مع خصومه السياسيين وألد أعدائه لكي يلغي في حساب الحكام أي احتمال للشك في مواقف مخالفيهم، فقد حدث أن تطاول رجل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أثناء تقسيم الغنائم وقال له: يامحمد، اتق الله فهذه قسمة ماأُريد بها وجه الله، فقام له بعض الجلساء من أصحاب النظرة المحدودة والصدر الضيق مغضباً من سوء أدب الرجل وأراد أن يضربه، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ((لاتفعل فلعله يصلي)) فقال له: وكم من مصل يقول بلسانه ماليس في قلبه، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم))(15).

وهكذا أمير المؤمنين (عليه السلام).. فعندما عارضه الخوارج وخذلوه قال فيهم: ((لهم علينا ثلاث: أن لانمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها، وأن لانمنعهم الفيء مادامت أيديهم في أيدينا، وأن لانقاتلهم حتى يقاتلونا)) (16). ومعنى ذلك أن لايمنع المعارضة السياسية من أي حق طبيعي يملكونه.

فهو لم يمنعهم من حق التجمع واللقاء ((لانمنعهم مساجد الله)) لأن المساجد كانت أماكن التجمع واللقاءات والمؤتمرات يومذاك بالإضافة إلى العبادة، ولايحاربهم في رزقهم ومصادر معيشتهم وكل حقوقهم المادية التي لهم في ذمة الدولة ((وأن لانحرمهم الفيء)) لأن سياسة التجويع والمحاربة في الرزق من أخس الأساليب التي تستخدم في سبيل قمع المعارضة أو إخضاعها.

وأخيراً يضمن لهم أمناً وسلاماً دائمين على حياتهم وكل شؤونهم الخاصة ماداموا هم ملتزمين بالسلام أيضاً، ومكتفين في معارضتهم بابداء الرأي والاعلان عن الموقف ونقد الحكومة، فإذا رفعوا السلاح – بذلك فقط – يحق للدولة الوقوف أمامهم؛ لأن رفع السلاح يخرج المعارضة في بعض الأحيان عن كونها معارضة سياسية، ويضيفها صفة العصابات الإرهابية والفئات المسلحة التي تهدد أمن الشعب بالخطر ((وأن لانبدأ بقتال حتى يقاتلونا)) فأي احترام لحرية المعارضة أعظم من هذا وأشمل !!

بل إن الامام (عليه السلام) في كثير من الاحيان كان يقيم مع خصومه مجالس حوار ومناقشة واحتجاج حتى مع أدنى معارضيه، اعترافاً منه (عليه السلام) بحرية الرأي ورجاء للهداية وحسن الظن بالمسلمين.

فقد جاءه (عليه السلام) يوماً أحد الخوارج وهو الخريت بن راشد السامي فقال له بكل صراحة: والله لاأطعت أمرك، ولاصليت خلفك، فكان موقف الإمام (عليه السلام) منه أن لم يغضب لذلك، ولم يبطش به، وإنما دعاه إلى أن يناظره ويبين له وجه الحق لعله أن يتوب اليه!! فقال الخريت: أعود غداً، فقبل منه الإمام (عليه السلام)(17) ولم يقابله بأي ردة فعل أُخرى.

فهل تجد لمثل هذا الأُسلوب والتعامل مثلاً حتى في أرقى الحكومات الديمقراطية؟ وقد تقدم البحث عن حسن الظن ودوره في الروابط السياسية بين الحكومات والشعب في كتاب الحكومة الديمقراطية فلانطيل.

ثانياً: حصانة المواطن

أعطى الإسلام لكل مواطن يقطن في دولة الإسلام حصانة كاملة في مقابل الحكومة؛ إذ منحه الحق كل الحق في أن يقول مايشاء ويفعل مايشاء مادام هو – المواطن – ملتزم بشروط الحق التي هي:

1-أن يكون قوله أو عمله مشروعاً.

2-أن لايكون سبباً للإضرار بالآخرين.

فمادام التزامه بهذين الشرطين لايحق للحكومة أبداً الحد من تصرفاته، أو جبره على موقف لايرتضيه، أو رأي لايؤمن به، كما لايحق لها أن تلغي صوته، أو تمنعه من الإدلاء برأيه تجاه أي قضية أو حدث يخصه أو يخص مجتمعه.

وفي مقابل هذه الحرمة والمكانة التي يحظى بها المواطن المسلم في بلده أسقط الاسلام عن الحاكم أي امتياز أو حصانة خاصة تجعله يعلو على النقص والمحاسبة والانتقاد، وإنما اعتبر الحاكم كأي مواطن آخر له حقوقه، وعليه واجباته من دون أي اعتبار آخر يميزه عن الآخرين.

بل في كثير من الأحيان يلزم الإسلام الحكام بواجبات وشروط متشددة بما يلزم به أي مواطن آخر الأمر الذي يجعل مكانة الحاكم في المجتمع أدنى من مرتبة المواطن العادي من حيث الحقوق، وأعلى مرتبة من حيث الواجبات، وعلى أي حال فقد أسقط الإسلام حصانة الحاكم عبر طرق وأساليب تتمثل في:

1-أنه ألغى البنود والاعتبارات السياسية والقانونية التي تحمي الحاكم سواء كان ملكاً أو رئيساً للدولة من الاعتراض والنقد، بل والسب والذم وأمثالهما في بعض الأحيان.

فحصانة الحاكم وحرمته تعتبر ساقطة إذا ثبت أنه ظلم الناس، وتعدى على حقوقهم، فإن الأصل في السب والذم للمسلم محرم في الشريعة إلا إذا ارتكب ظلماً فإنه يصبح جائزاً للمظلوم أن يذم ظالمه، أو يسبه، فالله تعالى يقول: (لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً)(18).

فالمواطن المظلوم معفو من أي نوع من العقاب في الإسلام إذا جهر بشكواه أو أساء إساءة معفو عنها إلى ظالمه لدى عرض ظلامته.

وقد طبق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المبدأ العظيم، فكانوا لايغضبون من صاحب الحق والشكوى، ولايقابلونه بأي ردة فعل قد تؤلمه أو تؤذيه حتى لو أساء هو الأدب في عرض قضيته وشكاية مظلوميته.

فكانوا يصغون إلى كل شاك ومتظلم، فإن كانت شكايته بحق رفعوا عنه ظلامته، ولبوا له حاجته، وإن كانت عن باطل لجهل أو قصور فيلاطفونه ويرشدونه إلى خطئه، ويقابلونه بالإحسان والعطف والمحبة وتطييب الخاطر.

وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهى عن التعرض لصاحب الشكوى مهما كان غليظاً، ويقول لأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم): ((دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً))(19).

وأمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً فإن أشد موقف كان يتخذه في قبال السبابين هو كلمة فقط يقول فيها: ((رويداً إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب)) (20).

فقد جاءه أبو هريرة يوماً وكان قد تكلم فيه وأسمعه في اليوم الماضي – أي تكلم ضده كلاماً شديداً – يسأله حوائجه، فقضاها له الإمام (عليه السلام)، فعاتبه أصحابه على ذلك فأجابهم: ((إني لأستحيي أن يغلب جهله علمي، وذنبه عفوي، ومسألته جودي)) (21).

2-وأيضاً منع الإسلام الحاكم من تخويف المواطن أو إرعابه بسبب رأيه السياسي، أو موقفه تجاه السلطة بأي نوع من أنواع الإرعاب كالسجن والقتل والتعذيب والمحاربة في الرزق وأمثالها، ولم يضع أمام الحاكم سبيلاً أمام النقد والمعارضة والرأي المخالف سوى الاستماع، فإن كان حقاً عمل به، وإن كان خطأ فلا يملك غير المنطق والحجة والمقابلة بالإحسان في رده.

فهناك نصوص شرعية صريحة تبطل الإرهاب، وتمنع من التهديد، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((لايحل لمسلم أن يروع مسلماً)) (22) و: ((لاتروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم)) (23).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إن أبغض الناس إلى الله عزوجل رجل جرد ظهر مسلم بغير حق)) (24).

وأكثر من ذلك فقد بلغ من تقديس الإسلام لحرمة المواطن أن يمنع من إخافته ليس بالسجن أو وسائل التخويف الأُخرى، بل منع من التخويف حتى لو كان عبر نظرة قاسية لايتحملها الإنسان ((من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله تعالى يوم القيامة)) (25).

3-كما أسقط الإسلام حصانة الحاكم حينما كلفه برفع احتجابه عن الناس وإلغاء كل الموانع والحواجز التي تمنع من الوصول إليه؛ لأن برفع الحجاب يتمكن كل مواطن من أن يصل إلى الحاكم، ويعرض عليه مشكلته، أو يبدي له رأيه مباشرة وبدون وسائط، وبدون ذلك سوف لايستطيع الحاكم من الاطلاع على أوضاع دولته وآراء الناس ومعرفة مشاكلهم عن قرب، وبذلك يصبح الحاكم معزولاً تماماً عن الشعب.

وبهذه العزلة تتولد المقدمات الأُولى للسقوط، حيث تزداد المظالم، وتتسع المشاكل، وتتفاقم الأزمات جراء تفرد أجهزة الحكومة بالأُمور وتلاعبها بالقانون وبمقدرات الناس على حد سواء؛ إذ تستغل جهل الحاكم بالأوضاع وعزلته عن الناس، أو هي تعمد إلى تجهيله وتدليس الحقائق عليه؛ إذ ترفع له تقارير كاذبة أو مبالغ فيها، وتوحي له بآراء سلبية عن الشعب ومواقف المواطنين تجاه الدولة مما يضطر فيها الحاكم إلى القمع والاستبداد.

ومن هنا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) على احتكاك مباشر مع الناس، ويحضرون بينهم دائماً حتى صارت سنة متبعة بينهم لدى الخلفاء؛ إذ كانوا يجلسون في مواعيد معينة من الأُسبوع في مجلس عام ليتمكن كل مواطن من الوصول إليه ورفع قضيته مباشرة.

ذكر المؤرخون أن معاوية بن أبي سفيان قال لضرار بن ضمرة – وكان من تلاميذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) -: صف لنا علياً، فقال ضرار: اعفني، ولكن ألح عليه معاوية ولم يقبل إعفاءه، فقال: إذا كان لابد من وصفه فإنه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة،طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ماخشن، ومن الطعام ماجشب.

ثم يضيف: وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبئناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لانكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين،لايطمع القوي في باطله، ولاييأس الضعيف من عدله.

ثم يقول لمعاوية: واشهد الله يامعاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين وهو يقول: ((يادنيا غري غيري، أبي تعرضتي أم إلي تشوقتي، هيهات قد بنتك ثلاثة لارجعة فيها، وعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

فقال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، ثم قال: ياضرار، كيف حزنك عليه؟ قال: حزن من ذبح ولدها بحجرها، فهي لاترقأ عبرتها، ولايسكن حزنها (26).

هذه هي حقيقة الحاكم المسلم وشخصيته.

وفي التأريخ أنه دخل ابن بلال مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمر بن عبد العزيز فوجد حاجباً بالباب، فاستأذن منه فأذن له، ورحّب به، فقال له: عظني، فقال: حدثني أبي بلال أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ((من ولي شيئاً من أُمور المسلمين ثم حجب عليه حجب الله عنه يوم القيامة)) فنادى عمر حاجبه وقال له: الزم بيتك، فما رئي على بابه بعدها حاجب.

وقالوا له: زدني، فقال: لاشيء أضيع للمملكة وأهلك الرعية من شدة الحجاب على الوالي، ولاأهيب للمسؤولين وللعمال من سهولة الحجاب؛ لأن المسؤولين اذا وثقوا بسهولة الحجاب أحجموا عن الظلم.

حقاً يحتار الإنسان عندما يسمع هذه الأحاديث المستلهمة من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومواقفه العادلة في إقامة نظام الإسلام السياسي هل هي حقاً صادرة من عبد أُمي فقير مثل ضرار وابن بلال أم حامل دكتوراه في الدستور والقانون في القرن العشرين ؟

ثالثاً: استقلال القضاء

كفل الإسلام للمواطن المسلم حق التقاضي ضد السلطة، ورفع الشكوى عليها إذا جارت عليه أو حرمته حقاً من حقوقه.

(إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)(27)، فإن القضاء في الاسلام لايختص بالخصومات الشخصية بين الأفراد، بل يشمل خصومات الشعب والحاكم والأزمات الناشئة عن مواقف الحكومة، وقد اصطلح الفقهاء على القضاء في أمثال هذه المواضيع اسم قضاء المظالم في قبال قضاء الحدود الشرعية وقضاء الحسبة باعتبار أن مهامه الكبيرة هو أنه يختص بمتابعة مشاكل أبناء الشعب والتوجه الى مظالمهم والأزمات الناشئة بين المواطنين وأفراد الدولة من الولاة والمسؤولين والموظفين الإداريين، وقد قابل الغرب الديمقراطي هذا النوع من القضاء بمجالس القضاء التي من حقها أن تحاسب الحاكم وتقضي في أزماته مع الشعب.

ومن اختصاصات قضاء المظالم النظر في شكاوى المواطنين ضد الولاة أو عمال الخراج أو أي مسؤول آخر في الدولة يريد أن يتجاوز القانون، ولايعمل بحدود الإسلام حتى في المسائل الشخصية غير المرتبطة به كرئيس أعلى للدولة.

فإن من حق أي مواطن عادي من أبناء الشعب أن يقدم رئيسه إلى القاضي في أي أزمة أو خصومة أو نزاع قد ينشأ بينهم وبين الحاكم، وعلى القاضي أن يتعامل مع المواطن والحاكم معاملة واحدة في مجلس القضاء ويستمع إلى كليهما معاً، ويجلسهما في مستوى واحد، ويقسم نظرته بينهما بالسوية، ويطالب كليهما بالبينة والشهود أو القسم للفصل في القضية، وهكذا، ففي موضع القضاء لاتبقى للحاكم أي حصانة قد تمنع من تطبيق الحكم عليه، وفي كثير من الأحيان كان الحاكم هو الذي يتولى القضاء – قضاء المظالم-ومراقبة موظفين الدولة ومشاكلهم مع المواطنين؛ لأن منصب قاضي المظالم يتطلب إلى:

1-قوة نفوذ واطلاع على أعمال الدولة.

2-سلطة واسعة فوق سلطة الولاة والعمال والموظفين ليكون حكمهم نافذاً عليهم، وهذه القدرة الكبيرة لايمتلكها عادة إلاّ الحاكم الأعلى للبلد.

فإذا كانت الخصومة ضد الخليفة نفسه كان يتنحى عن النظر فيها، وترفع القضية إلى القاضي الأعلى ليحكم في المسألة، وكثيراً ماكان يحكم القاضي على الخليفة فيقبل الحكم عن رضا وطيب خاطر، وهذا المدى البعيد من العدالة الحقوقية لم يعرفه أي شعب من شعوب الأرض إلى يومنا هذا إلا من عاش في ظل الإسلام.

روي أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) – وهو الحاكم المطلق في وقته-وجد درعه عند نصراني، فأقبل إلى شريح قاضيه وجلس إلى جانبه يخاصم النصراني، فخاصمه رجل من رعاياه فقال: إنها درعي لم أبع ولم أهب. أي لم أكن قد بعتها ولا وهبتها لأحد، فقال شريح للنصراني: ماتقول فيما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) ؟ قال النصراني: ماالدرع إلاّ درعي، وماأمير المؤمنين بكاذب، فالتفت شريح إلى علي (عليه السلام) يسأله ياأمير المؤمنين هل من بينة ؟ فضحك علي (عليه السلام) وقال: ((مالي بينة)) فقضى شريح بالدرع للنصراني لقاعدة اليد التي يقول فيها الفقهاء: إنها أمارة على الملك، فأخذها، ومشى أمير المؤمنين (عليه السلام) ينظر إليه إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد ليقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه!! الدرع والله درعك ياأمير المؤمنين (28).

هذا هو موقف الحاكم الإسلامي تجاه الشعب، وهذه حصانته أمام الحق، وهذا هو سلطان القضاء في الإسلام على الخليفة الذي هو أرقى منصب في الحكومة عندما تستقل سلطة القضاء عن كل السلطات الأُخرى، أو تعلو عليهن، فمابالك بالولاة وسائر المسؤولين؟

إن سلطات القضاء في الإسلام لاتنحصر بالمسلمين أنفسهم أو في داخل البلاد الإسلامية، بل تمتد صلاحياته أيضاً لتشمل التحكم في مواقف الدول الإسلامية مع الشعوب غير المسلمة الأُخرى وتحديد علاقاتها بها إذا مانشب بينها نزاع أو خصومة.

فقد جاء في التأريخ أن الجيش الإسلامي عندما حرر مدينة سمرقند وقع خلاف كبير بين قائد الجيش الإسلامي قتيبة وسكان المدينة في الشروط التي تم بها الفتح، فرفع أهل المدينة شكوى إلى الحاكم الإسلامي يحتكمون إليه ويطالبونه بفصل النزاع، فأرسل إليهم قاضياً يحكم بينهم وبين جيش المسلمين فإذا بالقاضي يأمر بإخراج الجيش من المدينة، ويجعل مجلس القضاء خارج أسوارها؛ ليحفظ للجميع توازن القوى، ولايترك المجال للجيش المنتصر لأن يتعامل مع خصمه من منطق القوة، ويحضر قائد الجيش مع خصمه مندوب سكان المدينة وحاكمها، ويجلسان معاً أمام القاضي ليستمع إليهما(29).

فأي خكم في التأريخ عرف مثل هذا العدل الوسيع مع غيره من الشعوب وهو في جانب القوة والظفر لا في موقع الضعف؟ مما دعا سكان المدينة إلى اعتناق الإسلام لما رأوا عدله وإنصافه وحسن نواياه معهم.

كما لاتقتصر عدالة القضاء الإسلامي على المسؤولين المدنيين فقط، بل يشمل الجيش وجنوده وكل مراتبه العسكرية أيضاً، حيث يساوي القاضي الإسلامي بين القائد والجندي أمام الحق، لا أن يمتلك الضابط أو صاحب الرتبة كل الحصانات والخصائص التي تعلو به إلى ما لايناله حكم أو قضاء، وفي المقابل يفتقد الجندي إلى أبسط الحقوق والمميزات التي تمنحه قدرة الإدلاء برأيه أو المطالبة بحقوقه والدفاع عنها من دون أن يتعرض إلى الإهانة والضرب والتعذيب.

فقد شكى جندي إلى أحد الخلفاء من قائده لأنه قد ضربه أمام زملائه الجنود وحلق شعره، فأرسل الخليفة إلى ذلك القائد قائلاً له: إن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس فاقعد في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك، فلما عاد الجندي بكتاب الخليفة رجاه القوم أن يعفو عن أمير الجيش حتى لاتسقط هيبته، أو تضيع أمام العدو وقارته. فأصر الرجل بأن لايضيع حقه، فقعد القائد أمام جنوده ليقتص منه الرجل، فلما رآه الجندي جالساً بين يديه في مجلس القصاص رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم قد عفوت واسترحت(30).

بمثل هذه الأساليب والضمانات وأشباهها كفل الإسلام حرية الرأي السياسي لكل رعاياه، وحال دون طغيان الحاكم واستبداده بالأُمور واحتكاره العمل السياسي.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

.........................................................

(1) غافر: 29.

(2) ينابيع المودة: ج2، ص253.

(3) الخصال:ص 284، ح33.

(4) الأعراف: 157.

(5) عوالي اللآلي: ج1، ص129 ؛ كشف المحجة: ص 39.

(6) الأحزاب: 36.

(7) آل عمران: 19.

(8) آل عمران: 85.

(9) نظرية عدالة الصحابة: ص181.

(10) البحار:ج 2، ص 245، ح54 الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام).

(11) البحار: ج2، ص245، ح53 الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام).

(12) الدر المنثور: ج 2، ص 302.

(13) الحجرات: 12.

(14) سنن ابن ماجة:ج 2، ص 1297.

(15) انظر صحيح البخاري:ج 5، ص 111.

(16) كنز العمال:ج 11، ص300، ح31569.

(17) علي ومناوئوه: ص 13 ((بتصرف)).

(18) النساء: 148.

(19) مصباح الفقاهة: ج1، ص345؛ مسند أحمد: ج6، ص268؛ صحيح البخاري: ج3،ص30.

(20) نهج البلاغة:ج4، ص99، الحكمة 420.

(21) البحار:ج 41، ص 49، ح1.

(22) نيل الأوطار: ج6، ص62.

(23) الجامع الصغير: ج2، ص733؛ كنز العمال: ج16، ص11، ح43709.

(24) الوسائل:ج 28، ص 48، ح34182، باب 26 باب تحريم ضرب المسلم بغير حق...

(25) العهود المحمدية: ص 850.

(26) نهج البلاغة: ج4، ص16 ؛ الأمالي: ص724.

(27) النساء: 58.

(28) انظر الغارات: ج1، ص124-125 ؛ البحار: ج101، ص290-291، ح4.

(29) الحرية السياسية: ص 78 ((بتصرف)).

(30) أنظر المحلى:ج 9، ص 37 ؛ تاريخ المدينة:ج 3، ص 809.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 24/شباط/2010 - 9/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م