شبكة النبأ: حين تعود بنا حافظة الشعر
العراقي الى الوراء، الى تلك الاجواء الجيلية المنظورة التي ضجت بالشعر
وتوابعه، ربما نُصاب الآن بالقنوط والأسى لا لشيء سوى الافتقاد الواضح
لتلك الحماسة الشعرية الهائلة التي ضجت بها عقود الستينيات والسبعينيات
وما تلاها على نحو أقل، حتى يبدو التساؤل مريرا، فأين تلاشت تلك
الحماسة وذلك الفوران الشعري الصاخب في الاتحادات الادبية وفي المقاهي
والفعاليات والبيانات ذات الطابع الجيلي والفردي بل وحتى اللقاءات التي
تتم في بيوت الاصدقاء الادباء شعراء كانوا او غيرهم، تُرى لماذا نسمح
بحدوث ذلك ؟!
وهل تنازل الشعر العراقي عن قيادته الراسخة للشعر العربي، ولعل
بعضهم يقول إن هذا الكلام ما هو إلا ضرب من الحنين الى الماضي، ولكن من
يأتي لنا الآن بجيل ستيني حمل في أحضانه جمرات الشعر وراح يوقد ناره
اللهّابة هنا وهناك، تلك النار التي ظلت مشتعلة حتى اللحظة وربما لن
تنطفئ قط، ومن يأتي بخزعل او زاهر او كمال او أديب او شاهر جديد تأبط
نار الشعر وراح يديم اشتعالها بروحه التي لا تعرف الانطفاء، هل يا تُرى
ثمة الآن ما يُشبه تلك الموجات الشعرية الصاخبة؟!.
إن هذا التساؤل يحيل الى آخر أكثر ضرورة، ترى هل انقطع نسل الشعر
العراقي، فبات الرحم عقيما لا يقوى على الانجاب كما هو ديدنه، ولعل
الخطورة كلها والتحرّج كله والمخافة كلها تكمن في الجواب!!!...
وبكلمة أكثر ضراوة، ترى هل خلت ساحة الشعر العراقي من الشعراء الجدد
أولئك الذين ينبغي أن يتوالدوا عن آبائهم واجدادهم وجذورهم الشعرية
الضاربة في الاعماق؟، وسأجيب من وجهة نظر شخصية، فأقول:
كلا لم يصِبْ العقمُ الشعراء الآباء، لكنني ولعل كثيرون يتفقون معي،
أجزم بأن من وُلدوا جديدا أقل حماسة وصخبا وفورانا ممن سبقهم، كما أن
من يهمهم أمر الشعر تركوا الحبل على الغارب، وسدوا اذانهم وافواههم بل
وأغمضوا حتى عيونهم عن الجديد وفضلوا عزلة الذات الكارثية من دون ان
يتنبّهوا الى ان التاريخ الشعري لا يغفر لهم هفواتهم مهما قل حجمها،
لأنهم مسؤولون عن (الغرس) غرسهم الذي شبّ وسيشبّ طالما بقي الشعر على
قيد الحياة.
والآن أتساءل من منا لا يتذكر ما قاله مدني صالح عن عدنان الصائغ
حين كان الأخير لا يزال يداعب جمرات الشعر بخوف وتردد، ألم يقل مدني ان
الصائغ (رغم خفوته آنذاك) ثالث أشعر شعراء العرب إذا لم تخني الذاكرة،
تُرى من ذا الذي يمتلك مثل هذه الجرأة الآن!!! ولماذا غادر النقاد
والشعراء (صخبهم وحماستهم وهيجانهم) الذي كان ينتج شعرا ينتمي الى
الشعر؟ او يسهم بذلك في أضعف الايمان.
هذه التوطئة تقودني الى القول بأن الجديد من شعراء العراق أطلق صوته
وحفر بالقلم مكانه في خارطة الشعر، لكن ثمة خفوتا يشترك فيه السابقون
واللاحقون، ومع ذلك تبرق ومضة هنا او اخرى هناك فتشع من هذا النسغ او
ذاك، ولنا في احمد عبد السادة وزاهر موسى وعلي وجيه أمثلة ساخنة على ما
ذهبت إليه، لقد قرأت قراءة قارئ يحب الشعر مجموعة عبد السادة المعنونة
(ثريات الرماد) فوجدت فيها شعرا أعادني الى صخب الشعر العراقي حين كان
يولد ساخنا شهيا في الستينيات وما تبعها لاحقا واستشهد أيضا بشعر
التسعينيات وجيله الذي ما زال يقف في قلب المشهد.
في ثريات الرماد جمرات شعر متقدة تشي بشاعرية تأخذ امتدادها من خزين
الشعر العراقي بوضوح، يقول احمد عبد السادة في قصيدة تداعيات إنكسار
بديهي:
(مرغما..
أعذب نفسي بصمت الكلام!
وذاكرة القلق السحري
وفوضى الخصوبة في قلبي البدائي)
ولعل مسارات التأويل تبقى متاحة لمن يتعاطى مثل هذا الشعر، فهو صاحب
الحرية المطلقة فيما يراه او فيما يصل إليه، لقد ألقت بي هذه الكلمات
كقارئ في دوامة مشاعر متضاربة، لا أعرف بالضبط لماذا ازدادت حيرتي
وقلقي وانا أضع نفسي بديلا لقائل الكلمات (أعذب نفسي بصمت الكلام)
وربما تمر هذه الكلمات على غيري من دون أن يتنبّه لها وربما ينادمها
ثالث فيبكي او يفرح، يقول دايفد جاسبر في كتابه (مقدمة في الهرمينوطيقا/
قد يقرأ شخصان نفس الكلمات فتجد واحدا منهم يضحك بينما تجد الآخر يبكي،
ولن يفهم أيا منهما الآخر) ولعلها ميزة فنية تندرج ضمن سمات الكتابة
الشعرية لاحمد عبد السادة، فقصائده لا تصل بك الى مرفأ ولا تتركك معلقا
في الهواء، فلا أنت ثابت مستقر ولا أنت قلق متشظي، ولعل المستويات
المتعددة للتأويل او (الهرمينوطيقا) هي التي تقف وراء ذلك، لأن الاخيرة
كما يقول جاسبر ايضا (تعلمنا أن نعيش الابداع عبر الاختلاف مع بعضنا)
في رؤيتنا لفحوى النص الشعري.
وفي قصيدة ثانية من ثريات الرماد نقرأ:
(هشمت صوتي داخل حنجرتي
وألقمت دمي ثدي جنازة
وألغيت انتمائي للندى!
وأعلنتُ،
أمام سطوع الغياب بقبوي،
أمام ذبول الربيع في ساعتي،
هشاشة صمتي المستغبث). من قصيدة/ قبو الغياب
إن أجواء مثل هذه تحيل الى صراخ صامت بيد أن الامر لا يقف عند هذا
الحد، وربما سنتجاوز على النص حين نضعه تحت مجهر هواجسنا او تفسيرنا
الذي يتوافق مع ما نربو إليه، إن الشعر هنا يمثل هوية ذاتية للشاعر
أثناء كتابته لنصه فيبدو الاحتدام ضاريا بين ذاته وهويته وثمة صراع بين
الانتماء للحياة/ الندى، وبين أن يبقى شريان الدم متدفقا في ثدي جنازة
ليُرضع الآخرين موتا تعانيه الذات، ومع اننا لا نتفق مع تفسير النص
الشعري، فهو لا يخضع لآليات التفسير كما هو متفق، لكن الكلمات
بارتصافها الى جانب بعض وتشكيلها للصور الشعرية تحيلنا بالنتيجة الى
التفسير وربما يكون خاطئا بل غالبا ما يكون كذلك، يقول افلاطون: (ان
النصوص في خطر دائم من سوء التفسير، لأنه لا يوجد قارئ كامل، كما لا
يوجد كاتب في حالة تحكم كاملة) فكيف سيكون الامر اذا كان ناتج الكلمات
شعرا، ولكن يبقى المطلوب أن يحدث مثل هذا التضاد بين ما يعنيه الشاعر (إذا
كان هناك ثمة معنى) وبين ما يتعرض له القارئ من موجات شعورية ربما
تتحكم به طيلة تواصله مع النص الشعري وقد يمتد الامر الى ما بعد ذلك.
وهكذا ليس بمقدور القارئ أن يصل الى نتائج عادلة في الغالب في
معركته مع النص او من أجله، فحين نقرأ في قصيدة أخرى من ثريات الرماد:
(من قمري المتوحد في مدارات الرؤى
ومن أعاصير مروري..
بأزمنة أسمائي الكثيرة.
أفتح خزائن الغموض المثالي
وأمنح قلبي لوقت النبيذ). من قصيدة/ يقظة
إن هذا الخوض في متاهات اللغة غالبا ما يسبب نوعا من العسرة
للمتلقي، مع انه يتعامل مع مفردات ناعمة سلسة توحي بالرقة والميل الى
الجانب المضيء من تجربة الذات المنتجة للنص، فمفردات القمر والرؤى
والخزائن والقلب والنبيذ تداعب ميول المتلقي برقة لكنها في الوقت نفسه
تزجه في اتون التناقض الصاخب، حيث الاعاصير والازمنة والغموض وهي تقارع
نعومة المفردات الاخرى، وفي قلب هذه الجعجعة الشعرية التي (زخرفها)
الشاعر بقصدية فنية لا تخفى على الذائقة المدربة، يبقى القارئ في حالة
صراع مع النص لاستكناه عصارته والوصول الى اقصى المديات الشعورية أيا
كان مسارها او نتائجها، فقد وصف الناقد الأدبي جيفري هارتمان القراءة
بأنها (صراع من أجل النص) ثم استدرك وقال بل (صراع مع النص). وصولا الى
النتائج المبتغاة والتي تتمثل بإقامة جسور تواصل بين تشكيلة المفردات
وما تنتجه من شعور وبين القارئ الذي بذل جهدا في صراعه مع/ او من أجل
النص..
لهذا أقول إن الخروج من معركة قراءة ثريات الرماد ستصب في صالح
جمرات الشعر التي توقدت هنا وهناك واشتعلت في هذه القصيدة او تلك ومنحت
قارئها لذة من نوع خاص هي لذه القراءة المنتِجة، أو القراءة التي خاضت
حربا مع النص لكنها توصلت بالنتيجة الى نوع من الوئام الشعري مع الشعر
وكاتبه في آن.وهذا ما يقودنا الى القول بأن هذه الجمرات التي اشتعلت من
جديد في ثريات الرماد ربما تشكل خطوة هامة لاستعادة صخب الشعر وحماسة
الشعراء وهم يتدافعون بالمناكب ليس من اجل السبات او الحراك الذاوي في
افضل الحالات، كما اراه اليوم، ولكن من أجل الخروج من هذا الطور حتى لو
كنا نعيش شتاءاتنا التي قد لا تنتهي. |