بادية جنوب العراق

مصائر مجهولة و ثروات مهدورة

جاسم العايف

يمتد الموقع الجغرافي للبادية الجنوبية العراقية شمالا من البصرة إلى محافظة المثنى، وجنوبا إلى الحدود الإقليمية للعراق ودولة الكويت وبمحاذاة الحدود مع المملكة العربية السعودية من جهة صحراء حفر الباطن. والبادية العراقية الجنوبية امتداد طبيعي للعراق من الجهة الغربية الجنوبية، وبوضعها هذا فإنها تحادد على طول مئات الكيلومترات دولتين مجاورتين للعراق، من دون حواجز طبيعية فاصلة، فهي اراض منبسطة، دفع وضعها الجغرافي، بالترافق مع الظروف التي ميزت عقود حكم النظام المنهار والحروب المتواصلة والحصار والعنف الدكتاتوري، سكانها للهجرة إلى السعودية والكويت.

وبسبب ما جرى بعد 9 /4 3003، والأوضاع الراهنة، فإن اختراق الحدود العراقية بات سهلا ويسيرا، وغدت محطة لانتقال الإرهابيين القادمين إلى العراق حاملين معهم أحلاما وخططا ونوايا مشاريع جهنمية لموت العراقيين، كما اصبح انتقال الممنوعات وتهريب الثروة الحيوانية وكل ما هو غال ونفيس في العراق قائما ليلا ونهارا، وتشكلت لذلك عصابات ومافيات متخصصة مسلحة ومجهزة بأحدث وسائل النقل والاتصال بالاضافة الى خبراتها السابقة التي نمّاها جهاز المخابرات العراقي !

 عندما عمد إلى احتكار تهريب المخدرات إلى دولتي السعودية والكويت، خلال التسعينيات، كشكل متعمد من أشكال تخريب البناء الاجتماعي فيهما.

  منذ أواخر السبعينيات والثمانينيات ارتحل مئات العراقيين عبرها هربا من بطش النظام أو حروبه، وقسم منهم تجاوز مفازاتها وبعضهم لم يعثر له على اثر وتبخر كأنه لم يوجد قط، وثمة أسرار عدة خلف ذلك منها ان بعض المهربين كان يتعاون مع اجهزة النظام الامنية وقام بتسليمها الهاربين وهي التي اخفت آثارهم وستظل مجهولة مصائرهم وهوياتهم وأعدادهم إلى الأبد. وثمة من ضاع بين مفازات الصحراء الغربية طعاما سهلا شهيا لبعض الضواري التي تجوبها.   بعد حرب السنوات الثماني العبثية التي أنتجتها النزعة الفردية المتجسدة بثقافة التخلف وقيمها الدونية، المستهينة بالحياة الإنسانية،والمتشحة بالنظرة العنصرية وبضيق الأفق السياسي، معتمدة القوة ومنطقها كحل وحيد لأزمات ومشاكل البلدان والشعوب المتجاورة ودفعت مئات الآلاف من الشباب العراقي إلى أن يتحولوا وقودا لحرب سحقتهم وسرقت آمالهم وعطّلت قدراتهم في البناء والأحلام.

 بعد تلك الحرب وخسائرها المرة..استقبلت البادية الجنوبية العراقية شباب العراق وقودا لحرب أخرى أحدثت خللا مضافا في ما تبقى من الحياة الاجتماعية العراقية وقيمها السلمية من خلال النزوع الفعلي المتجدد لتكريس قيم العسكرتاريا وعنف جنرالاتها الفاشلين المهزومين الذين لا يجيدون غير حوار البنادق والمدافع والراجمات والدبابات والصواريخ وهندسة الخراب والفناء واختفى، طمراً، في رمال البادية الجنوبية ما لا يمكن أن يعرف من الضحايا حتى الآن، و ما يزال الغموض يخيم على العدد الحقيقي لضحايا حرب الكويت، التي كان مسرحها الفعلي البادية الجنوبية، وابتلعت رمالها شباب العراق الذين عافتهم،صدفة، سنوات الحرب الأولى، وأخفى النظام عددهم بصفتهم "مفقودين أو مجهولي المصير" محملاً الكويت وقوات حرب تحرير الكويت مسؤولية ما حصل لهم وما آلت إليه مصائرهم والتي تنصل عنها !!.

غير ان بعض المصادر الأجنبية المطلعة ترى ان عددا كبيرا منهم ما زالوا مطمورين هياكل عظمية في رمال البادية الجنوبية.

 بعد هزيمة النظام واذلاله في (خيمة سفوان) واشتعال فتيل انتفاضة 2 / آذار/1991 المغدورة، وما حصل للمنتفضين بعدها،إذ تركوا عُزلاً يواجهون نظاما مهزوما، عمد للثأر من هزيمته وعاره وذله منهم. ومع قساوة وضراوة الحصار عمد النظام لتشجيع شراء الأسلحة التي بقيت مطمورة في رمال البادية الجنوبية معتمدا تجارا ودلالين موالين له، وإزاء البطالة والحرمانات المتواصلة توجهت مجموعات من المجندين السابقين و الذين خبروا عن كثب ومعايشة ما تضمه البادية من أسلحة ومعدات عسكرية، متسللين ليلا، بعيدا عن فرق المراقبة الدولية، لغرض جمعها وبيعها لتجار الموت ومعتمديه، فمزقت الألغام أجسادهم وتناثرت بقاياهم في رمالها، أو عاد بعضهم خائبا وفاقدا جزءً من اطرافه او عيونه.

 لقد طمس النظام المنهار هوية هذه المنطقة وسخرها لأغراضه وهواجسه المخابراتية الامنية عبر زمر وعصابات إجرامية مرتبطة بأجهزته الاستخباراتية وساهمت المعارك الحربية التي حشد لها وجيوش التحالف آلاف المعدات العسكرية خلال حرب الكويت في تخريب وتلويث البيئة الطبيعية فيها.

 تضم البادية الجنوبية العراقية مناطق رعوية طبيعية شاسعة وقرى موزعة هنا وهناك على شكل مجمعات سكنية ليقطنها البدو من اصول عراقية. وبسبب سنوات الحروب وتوقف التطور العمراني في العراق، أهملت هذه المجمعات حتى تلاشت وتحولت الى خرائب واثار ينعق فيها البوم شاهدا على توقف الحياة العراقية واندثارها. ومن هذه المجمعات: " الصليحة،اللجة، خضر الماء، فرانج، حزنج، العظمى، شكرة وهلبية".

 منذ مئات السنوات والبادية الجنوبية العراقية تستوطنها قبائل عراقية تجوب مناطقها بحثا عن الماء والكلأ تمتهن رعي الابل والاغنام والماعز، وتتواجد حول الآبار الارتوازية. وبسبب الحروب وهواجس النظام الامنية والمضايقات اضطر بعضها إلى ترك البادية وتوجه قسم منها الى المدن القريبة، منها، كـ"ذي قار والمثنى والبصرة"،كائنات غريبة مغتربة فيها، تحيا في منازل اسمنتية بدلا من الخيام وبيوت الشعر، واخذ بعضهم يمارس ما اعتاد عليه من قيم وطرق معيشية في المدن وقسم منهم بقي على علاقته بحيواناته التي اعتاد تربيتها فخصص لها مكانا في مسكنه وغدا يستصحبها في شوارع المدن لتعتاش على النفايات، إضافة الى احتفاظه بما تشكل عليه من قيم، متدرعا بها في حياته اليومية و محافظا حتى على لكنته مورثا اياها لذويه.

 وبعض سكان البادية الجنوبية العراقية توجه نحو الكويت ليظل فيها كـ "بدون" وقسم آخر ارتحل نحو السعودية.. وهم ينتمون الى قبائل عربية – عراقية منها "الجشعم والشريفات والبدور والرفيج". لقد دمرت سلطات النظام المنهار عبر سياسة منظمة النسيج الاجتماعي لهذه القبائل فاضطرت مكرهة الى الارتحال بعيدا عن موطن الاباء والأسلاف.

 تشتهر البادية الجنوبية العراقية بالثروة الحيوانية لانتشار المراعي الطبيعية فيها ويقدر بعض المختصين* ان عدد الإبل في المنطقة بحدود تتجاوز الـ( 90 ) الف واضعاف هذا العدد من الأغنام والماعز، وهذه الثروة الحيوانية يمكن ان تتضاعف، ان وجدت الرعاية والاهتمام، وتتوسع وتساهم في النمو الاقتصادي المتوقع في العراق، وللحفاظ على هذه الثروات وتطويرها يرون الاهتمام بالبادية الجنوبية وسكانها وفي مقدمة ذلك القيام بحملة دولية- وطنية من اجل تنظيف الاراضي الرعوية وكل اراضي البادية الجنوبية من مخلفات الحروب مثل الالغام بكافة انواعها والقذائف غير المنفلقة والاليات العسكرية المحترقة والمطمورة سالمة بكامل اعتدتها وما تحويه من مخلفات اشعاعية لليورانيوم المنضب الذي فتك بسكان الجنوب العراقي ومازال، ويمكن ان تساهم منظمات دولية في هذه الحملة الانسانية لإزالة مخلفات بشاعات الحروب، التي دمرت حياة العراقيين ومن تبقى من سكان باديته الجنوبية.

ويمكن ان تتحول بعض مناطق بادية الجنوب العراقي بعد تطويرها وتطوير مواردها بإتجاه جعل بعضها محميات طبيعية محمية بالقوانين وهو ما سيعود بالنفع على الاقتصاد ويحافظ على الثروات العراقية الطبيعية والحيوانية ويمكن عمل مسيجات للمراعي الطبيعية لانها موارد غذائية للحيوانات في البادية وتطوير تلك المحميات بزراعة اصناف من النباتات الرعوية مثل "الدغل الشجيري والدغل ذي النمو العمودي" والتوجه للجهات الدولية التي تشبه ظروفها المناخية ظروف البادية للاستفادة من تجاربها في تطوير المراعي الطبيعية الشاسعة والاستخدام الامثل للموارد المائية واهمها الآبار الارتوازية والعمل عليها عبر احدث التقنيات العلمية وزيادة اعدادها واستغلال نهر ما يسمى بـ"ام المعارك" لتوسيع رقعها الرعوية.

ويقتضي وضع البادية الجنوبية العراقية تحت نقاط مراقبة دائمة وتسيير دوريات حدودية مسلحة تمتلك وسائل النقل والاتصالات الحديثة و الفعالة، لمواجهة المتسللين وعمليات التهريب بكل انواعه خاصة تهريب إناث الاغنام والماعز والإبل، وإعادة النظر بالمجمعات السكنية المهملة واعمارها  وتحويلها الى مجمعات سكن لائق بالترافق مع الخدمات الاجتماعية والطبية والتعليمية وانشاء مراكز علمية بحثية للبحوث الرعوية مرتبطة بكليات الزراعة في جامعات البصرة وذي قار والمثنى او غيرها وإنشاء مخازن حديثة لحفظ الاعلاف وتوفيرها لمربي الحيوانات مع انشاء مستشفى بيطري متكامل ورفده بالمعدات والملاكات البيطرية العراقية العاطلة حاليا وانشاء وحدات زراعية مجهزة بالاليات وذات موارد مالية-إدارية مستقلة واستغلال شبكات كهرباء الضغط العالي التي تمر بها والاستفادة منها للمجمعات السكنية والمنشآت والقيام بحملات مكثفة لمحو الأمية خاصة بين الأطفال والنساء وإنشاء جمعيات تعاونية و ثقافية.

 وهنا يكمن دور مؤسسات المجتمع المدني العراقية الكثيرة جدا حاليا. هذه المقترحات وأخر غيرها ستبرز حتما، عند العمل لتطوير الحياة في بادية العراق الجنوبية لدواع انسانية، ولما تكتنزه من ثروات طبيعية-حيوانية وما تشكله من ضرورات وهواجس وطنية-أمنية عراقية الآن وفي المستقبل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 21/شباط/2010 - 6/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م