طرح التباين الأميركي الصيني المتصاعد إثر صفقة الأسلحة الأميركية
الكبيرة لتايوان جملة تساؤلات لدى المراقبين حول مدى ونتائج هذا
التباين، وهل سينعكس ذلك على الملفات الدولية الساخنة كملفي إيران
وكوريا النووّيين؟ وهل هو اختبار قوة بين الطرفين "الصديقين"، حيث بلغ
حجم التبادل التجاري بينهما 300 مليار دولار أمريكي في العام المنصرم،
وحيث حصة الصين في السندات المالية الأمريكية بلغت 798.9 مليار دولار
أمريكي في شهر أكتوبر من السنة نفسها، وحيث تحتل الصين صدارة الدول
التي تشتري السندات الحكومية الأمريكية الطويلة الأجل، مايعزز موقعها
كأكبر مقرض للولايات المتحدة الأمريكية؟.
لقد زار الرئيس الأميركي باراك أوباما الصين قبل أشهر على وقع
تصريحه المتفائل غداة دخوله البيت الأبيض من أن العلاقات الصينية –
الأميركية: «ستطبع القرن الحادي والعشرين». ولعل ذلك مادفع ببعض
المحللين، لاعتبار أن مايجري لايعدو كونه «تصعيدا تحت السيطرة»، وأننا"
فيما يشبه لعبة بوكر"، حيث «سنشهد مزيدا من التوترات لفترة من الوقت»
فقط.
فيما ذهب آخرون إلى اعتبار هذا التوتر اختبارا للقوة، فالولايات
المتحدة الأميركية، تحاول اليوم أن " تبرهن أنها قوة عظمى" وفق رأي جان
فيليب بيجا الباحث في مركز الدراسات الفرنسية في بكين، وذلك استنتاجا
من أن الإدارة الأميركية طرحت خلال يومين متتاليين موضوعين متفجرين
حساسين جدا بالنسبة للأمة الصينية، التي ترفض التنازل عن شبر واحد مما
تعتبره أرضها الوطنية: موضوع صفقة السلاح لتايوان، ذات الستة مليارات
ونصف المليار دولار، والإعلان عن استقبال الدالي لاما، بعد أن كانت قد
أثارت سابقا التصدي الصيني لعملاق الإنترنت الأميركي "غوغل".
بالمقابل يرى آخرون، -ونحن منهم-، أن مايجري يؤسس لاختبارات قوة
متتالية لن تنتهي قبل الاعتراف الأميركي والعالمي بدور الصين الكبير،
كبر شعبها البالغ مليارا و300 مليون إنسان وكبر اقتصادها المتنامي في
كل القارات ومنها بالطبع أميركا.
مايدفعنا إلى هذا الاعتقاد جملة الحقائق الموضوعية التالية:
1- لم يعد مجال للشك من أن الولايات المتحدة الأميركية في تراجع، من
موقع القوة الإمبراطورية العظمى الوحيدة في العالم، إلى موقع إحدى
القوى الكبرى عالميا بعد فشل احتلالها للعراق، واستمرار تخبطها في
المستنقع الأفغاني، وبعد تنامي أزمتها الاقتصادية والاجتماعية التي لم
تنجح إدارة أوباما في التخفيف من آثارها كما وعد في حملته الانتخابية،
وقد أدى ذلك إلى تراجع واسع في شعبيته. نقول أزمتها الاقتصادية والكل
بات يعلم حجمها، ونضيف الاجتماعية لأن عشرات الملايين من الأميركيين
باتوا يعيشون على المساعدات الغذائية للحكومة، فيما عشرات ملايين أخرى
يعيشون بلا أية ضمانات صحية.
لقد تنامت قوة الصين سياسيا واقتصاديا في آسيا وأوروبا وفي أميركا
نفسها، وهذا مايزعج الإدارة الأميركية بطبيعة الحال. وهي في تطورها
تحتاج إلى الطاقة بمصدرها الأساس، حتى الآن، أي النفط. وهذا النفط
تحاول أميركا إحكام سيطرتها عليه، وهذا مايفسر حقيقة الاحتلال الأميركي
للعراق وأفغانستان.
لقد سبق أن نبّه هارولد إكس وزير داخلية الرئيس الأميركي السابق
روزفلت إلى أن النفط هو السلعة " الحيوية في الحرب، الضرورية في السلم،
اللازمة للنفوذ الأجنبي ". وبالتالي فإن حاجة الصين للنفط، تدفع
بالقيادة الصينية لأن لاتسلم زمام رقبتها النفطية للولايات المتحدة
الأميركية. وإذا كانت قد سايرت الركب الأميركي في مرحلة اندفاعه "
البوشي" فليس من المنطق أن تستمر ساكتة في مرحلة التراجع الأميركي
الأكيد.
2- لقد زادت مبيعات الصين من السيارات بنسبة 70% العام الماضي، كما
زاد استهلاكها للنفط بنسبة 30% قياسا بالعام السابق، ما جعلها تحتل
الموقع الثاني بعد الولايات المتحدة الأميركية في استهلاك النفط.
وبحلول عام 2030 يتوقع أن يكون للصين عدد أكبر من السيارات مما تملكه
الولايات المتحدة، كما يتوقع أن تستورد الكمية نفسها من النفط التي
تستوردها الولايات المتحدة حاليا.
3- وهنا تبرز دلالة توقيع الصين وإيران لاتفاق طاقة عملاق يمتد لمدة
25 عاما بدءا من تشرين الأول 2004 وبقيمة 70 مليار دولار. وبموجب هذا
الاتفاق تزود إيران الصين بالغاز السائل وبالنفط، وتتولى مجموعة "
سينوبك " الصينية ثاني أكبر شركة صينية في صناعة النفط تطوير حقل
يداوران الإيراني العملاق، والذي تقدر احتياطياته بنحو ثلاثة مليارات
برميل، إضافة إلى اتفاق آخر لبناء مصفاة تكثيف غاز في مدينة بندر عباس،
جنوب إيران.
4- لقد استطاعت روسيا أن تلوي ذراع الولايات المتحدة الأميركية
وتجبرها على التراجع عن الدرع الصاروخي في أوروبا، ولا شيء يمنع الصين
من تكرار الدرس الروسي، مع الإشارة الى أن كليهما يُعتبر قاعدة أساس
لمنظمة شنغهاي المتصاعد دورها منذ سنوات.
ومن المؤشرات على مصداقية مانعتقد مايلي من أحداث وتعليقات:
1- لم تكتف بكين بالاحتجاج بشدة على الخطوة الأميركية المتعلقة
بتسليح تايوان، ولا بتعليق تعاونها العسكري مع واشنطن، بل هددت بوقف
التعاون العسكري مع أميركا كما أعلنت عن فرض عقوبات على الشركات
الأميركية المعنية بصفقة السلاح لتايوان. وقد كتبت صحيفة «غلوبال تايمز»
: «يبدو أن الولايات المتحدة فوجئت بعض الشيء برد الفعل الصيني، الذي
جاء أقوى مما كان متوقعا»، في حين أعرب مسؤول عسكري أميركي كبير عن «الأسف»
لرد الفعل الصيني.
2- يقول جان بيار كابيستان من جامعة هونغ كونغ المعمدانية: إن
الصينيين «يعتقدون أن بإمكانهم الذهاب أبعد قليلا» في اختبار القوة
بينهم وبين الولايات المتحدة التي تعاني وضعا اقتصاديا صعبا".
3- تركت الصين الحبل على غاربه لمتصفحي الإنترنت لديها، ليكيلوا
الاتهامات «للعم سام»، في حين انبرت وسائل الإعلام الصينية الناطقة
بالإنجليزية تندد بـ «عنجهية» الولايات المتحدة و«نفاقها». ويقول أستاذ
العلاقات الدولية في جامعة بكين جيا كينغوو: إنه «من المؤكد أن الأحداث
الأخيرة سيكون لها تأثير سلبي على العلاقات الصينية - الأميركية
والاحتكاكات يمكن أن تتزايد».
4- اصرار الحكومة الصينية على استمرار تخفيض قيمة عملتها، إضافة إلى
رخص اليد العاملة فيها، ما مكّنها من غزو الأسواق العالمية، سيما وأن
باستطاعتها تنويع نوعية إنتاجها حسب متطلبات كل سوق. وهذا مايجعلها
منافسا قويا للمنتجات الأميركية والأوروبية واليابانية، بعد نكسة
سيارات التويوتا والهوندا في اليابان.
إن التاريخ يقول إن القوى الكبرى تجد صعوبة في التعايش عندما يشب
بينها النزاع حول الموارد الشحيحة، والنفط آخذ في الشح بطبيعة الحال،
لذلك فإن الكباش الصيني الأميركي سوف يتصاعد، ولن تكون الغلبة فيه
للحكومة الأميركية بفعل المتغيرات الدولية التي أشرنا إليها. وعليه فإن
نقطة التجاذب بين الطرفين،سيكون الملف الإيراني النووي. وإذا مااستمرت
الصين، -وهو المرجح-، في الوقوف ضد العقوبات الغربية على إيران، فإن
هذه العقوبات لن يكون لها الأثر الحاسم في إضعاف الموقف الإيراني وقد
كان لافتا تحذير الرئيس أحمدي نجاد لروسيا من أن دعمها للعقوبات
الأطلسية، سيكون له انعكاسات سلبية على روسيا نفسها.
ملخص القول إن اختبارات القوة بين الصين وأميركا سوف تتوالى، وليس
بالضرورة أن تأخذ منحىً دراماتيكياً، لكن من الصعب جدا أن تبقى أميركا
الحالية تتصرف وفق المنطق الذي اعتقدته عشية سقوط الاتحاد السوفياتي،
من أنها بلغت نهاية التاريخ، وأنها القوة الأعظم في العالم بلا منازع.
* بيروت مُدير المركز الوطني للدّراسات-مدير
مجلة الموقف
[email protected] |