سوق مريدي.. بانوراما عراقية تبرز المتناقِضات

 

شبكة النبأ: سوق مريدي، أحد أهم وأشهر أسواق مدينة الصدر، حمل هذا الاسم نسبة الى مريدي صاحب أول  كشك في السوق الذي تأسس عام 1972 أي بعد عشر سنوات تقريبا من بناء المدينة في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم.

ويتوسط سوق مريدي مدينة الصدر المقسَّمة إلى قطاعات، حيث يحتل السوق ثلاثة من قطاعاتها الـ 97، ويبدأ من منطقة الاورزدي بشارع الجوادر انتهاء بمستشفى الإمام علي، بطول يصل إلى 1500 متر وبعرض 60 مترا.

يذكر الحاج جواد أموري (60 عاما) وهو احد سكنة مدينة الصدر والذي يعيش فيها منذ أربعين عاما، تاريخ ظهور السوق وتوسعه حتى أصبح واحدا من أشهر أسواق العراق، قائلا “أنا أعيش هنا منذ توزيع الأراضي من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم وإنشاء البيوت الأولى في المنطقة، وشهدت بدايات ظهور السوق واتساعه تدريجيا، وأتذكر جلساتنا حين كنا شبابا قرب المحال الأولى التي ظهرت وكان أولها محل صاحب البار مريدي، حيث كان الشخص الوحيد الذي يبيع في هذا المكان فأصبح الموقع معروفا نسبة اليه”.

وأضاف أموري “كنا حين نعود من أي مكان خارج مدينة الصدر نطلب من صاحب السيارة ان توصلنا او أن تتوقف عند بار مريدي، وهكذا انتشر اسم مريدي على السنة الناس ومع توسع المدينة وتزايد حاجات الناس الى سوق قريب بدأت المحال تنتشر بالقرب من محل مريدي والتي ابتدأت بعرض بعض الحاجات الأساسية قبل ان يكبر السوق ويصل الى ما هو عليه الان”.

جاءت شهرت سوق مريدي في عموم العراق من كونه مركزا لتزوير الوثائق والمستمسكات التي كان يلجأ اليها آلاف العراقيين لانجاز معاملة معينة او الحصول على فرصة عمل ما او للاستفادة منها عند الهروب واللجوء الى خارج البلاد، فقد انتشر في جنبات السوق أشخاص امتهنوا التزوير، وصار بامكانك وفي غضون دقائق الحصول على اهم الوثائق التي تصدرها الجهات الرسمية بدءا من رخص قيادة السيارات والى المستمسكات الشخصية والجوازات وانتهاء بالشهادات العلمية المزورة، نسخ مطابقة او مشابهة لا يمكن بسهولة اكتشاف انها غير اصلية.

احد العاملين في هذه المهنة، الذي رفض الاشارة الى اسمه مكتفيا بذكر الأحرف الأولى (ح.م)، قال لوكالة اصوات العراق “انا اعمل في هذه المهنة منذ نحو 14 عاما، وقد تعلمت المهنة من احد اصدقائي المقربين بعد وفاة والدي واضطراري لترك الدراسة والعمل من اجل تأمين مصدر رزق للعائلة”.

وأضاف “قمت بالعمل في مجال البناء كعامل بناء، وفي أحد الأيام سقط علي سقف منزل كنت أعمل على ترميمه، فأصبت بالحادثة بشكل بالغ وبترت إحدى قدماي، واضطررت بعد الاعاقة للبحث عن عمل آخر مناسب ولم أجد بعد نصيحة صديق لي غير مزاولة هذه المهنة معه”، مشيرا الى ان مهنته تدر عليه “أرباحا معقولة”.

وتحدث (ح.م) عن طبيعة عملهم وأسعار المستمسكات التي ينجزونها، قائلا “هناك نوعان من المستمسكات، العادية التي نستخدم بها الختم العادي وتتراوح أسعارها بين خمسة آلاف دينار لهوية الأحوال المدنية مرورا بشهادة الجنسية العراقية التي يصل سعرها الى 25 الف دينار، والنوع الثاني هي المستمسكات شبه الرسمية والتي نستخدم فيها الختم الأصلي للدائرة المعنية بالوثيقة او المتمسك، حيث نأتي بالختم من دوائر الدولة مباشرة وعن طريق التعامل مع احد الموظفين الذين يعملون في الدوائر المعنية، والذي يكون في بعض الأحيان شريكا في المكاسب المادية، وتختلف الأسعار هنا من وثيقة الى اخرى، فهوية الأحوال المدنية شبه الأصلية بـ 25 الف دينار وشهادة الجنسية بـ 50 الف دينار، أما سعر جواز السفر فيصل الى 200 دولار”.

وتابع “هذه الأسعار غير ثابتة وهي في النهاية تتعلق بامكانات الشخص فاذا كان متمكن ماليا فالاسعار ترتفع”، مبينا أن هناك “نوعا ثانيا من التعامل وهو ما يسمى بالتقفيص، وحينها بدلا من أخذ 25 الف دينار للمستمسك نأخذ منه ضعف المبلغ”.

(ح.م) نفى أن يكون السوق قائما على أساس الاستغلال السيء لحاجات الناس، ولجوئهم الى التقفيص، مشددا على أنهم ساعدوا الكثيرين على “اكمال معاملاتهم المتوقفة لعناد موظف او غيابه والمرتبطة بتوقيع أو ختم بسيط او هامش”، موضحا “قبل أيام جاءتني امرأة طاعنة في السن، ارجعوا معاملتها في احدى دوائر الدولة وقالوا لها ان جنسيتها مزورة مع العلم انها أصلية، فقمت بتزويدها بجنسية مزورة لعدم مقدرتها على مراجعة دائرة الجنسية في مدينة الصدر بسبب الروتين المتعب، فأنجزت معاملتها بكل يسر رغم انها مزورة!”.

وأشار (ح.م) الى ان “الأجهزة الأمنية تعمل بين فترة واخرى على ملاحقتهم لكن ليس بشكل مستمر وبالحد الذي يعطل عملهم”، مبينا “نحن تعودنا على القيام بعملنا وفق اجراءات احتياطية مناسبة، فعند التعامل مع الزبون مثلا نقوم بايقافه في مكان بعيد بعض الشيء لتلافي القبض علينا، ونقوم بتجهيزه بكافة المستمسكات المطلوبة بعد عشرة دقائق في مكان قريب من السوق”.

وفضلا عن الشهرة التي حصل عليها السوق من عمليات تزوير المستمسكات، فأنه يعتبر من أهم أسواق مدينة الصدر بالنسبة لسكانها بسبب تنوع البضائع المعروضة فيه ورخص أسعارها مقارنة بباقي اسواق بغداد.

وتحدث أبو سيف، صاحب احد محلات بيع المواد الكهربائية المنتشرة في السوق، قائلا “الزبائن يتهافتون علينا من بغداد والمحافظات لرخص أسعار السوق، مقارنة بالأسعار في أسواق الشورجة ومحلات الكرادة”.

وأشار ابو سيف الى ان “اصحاب المحلات في بعض احياء بغداد، يضيفون على سعر السلعة الكهربائية المستوردة نسبة أرباح كبيرة بسبب ارتفاع أسعار ايجار المحلات هناك، فبدلا من أن يربح بالسلعة الواحدة 10الاف دينار يأخذ ضعف هذا المبلغ، بينما المحلات المتواجدة في هذا السوق لا تضيف على سعر استيراد السلعة أكثر من 5 الاف دينار”.

ورأى أن “رخص أسعار السوق تعود الى تواجده في منطقة فقيرة نسبيا، مع كثرة المحلات المتواجدة في المكان وأسعار الايجارات المقبولة”.

لكن ابو سيف شكا من تراجع في الحركة التجارية بعد غلق الشارع الرئيسي المؤدي الى المنطقة، وقال “منذ اغلاق الشارع الرئيسي في المنطقة ونحن نعاني من تراجع كبير في حركة البيع والشراء لعدم مقدرة المتسوقين من الوصول الى السوق بسياراتهم، ما أثر على مبيعاتنا وأرباحنا اليومية، خاصة ان السوق يعتمد بدرجة كبيرة على الزبائن القادمين من خارج المدينة ومن بغداد المحافظات”، داعيا الحكومة والأجهزة الأمنية الى مساعدتهم وفتح الشارع المؤدي الى السوق.

ورغم اغلاق الشارع الرئيسي المؤدي للسوق التقت اصوات العراق بأكثر من شخص كان يتبضع من السوق، وقال محمد هادي (29عاما) “أنا أتسوق من سوق مريدي منذ نحو عشر سنوات رغم كوني أسكن في منطقة شارع فلسطين (مجاورة لمدينة الصدر) حيث تجد هنا كل ما تحتاجه العائلة من ملابس وخضروات ومستلزمات منزلية وباسعار تنافسية لايوجد مثيل لها في أي سوق آخر ببغداد”، مشيرا الى ان “استتباب الأمن في المدينة عامل اضافي مشجع على التسوق هنا”.

وما عدا ما تضمه السوق من محال لبيع مختلف المواد المنزلية والغذائية والكهربائية، فان السوق يضم الكثير من أصحاب المهن مثل مهنة الخياطة والحياكة وصناعة العقال العربي.

عادل الماجدي، العامل في مهنة صناعة (العكل)، قال “انا اعمل في هذه المهنة منذ نحو ثمان سنوات، وقد تعلمتها من احد اصدقائي وصرت اتقنها بشكل جيد، وهي ترد علي بربح مقبول”.

واعتبر الماجدي ان “العقال العربي لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه رمز لشيوخ العشائر ولكبار السن في هذه المدينة التي تعتز بالتقاليد العشائرية”، نافيا ان تكون مبيعاتهم قد شهدت تراجعا.

واضاف “مهنة صناعة (العكل) تدخل فيها الكثير من الصناعات الرديفة كصناعة الصوف والخيوط من شعر الماعز”، لافتا الى ان “سعر العقال الواحد يختلف حسب نوعه وجودة صناعته، فالعقال المصنوع يدويا بالسوق يصل سعره الى خمسة آلاف دينار، ثم يأتي بعده نوع التسكا الذي يصل سعره الى 15 الف دينار، ثم العقال ذو الخيط الانكليزي بـ 45الف دينار، ثم العقال البريطاني فيصل سعره الى 75 الف دينار”.

وتنتشر في سوق مريدي محال بيع الطيور التي تشهد بدورها اقبالا جيدا رغم ان المدينة المؤلفة من 79 قطاعا تضم بيوتا صغيرة تبلغ مساحتها  144 مترا مربعا، يعيش فيها محدودو الدخل والفقراء.

وعبر بائع الطيور جبار حسين (50 عاما) عن سعادته بمهنته، وقال لوكالة (اصوات العراق) ان “الطيور هي مرسال الحب في كل العصور، وقد زرع الله في نفسي حب هذه الطيور، فانا اعتني بها وكأنها أطفالي واحزن عندما ابيع طيورا عزيزة على نفسي”.

واضاف “أنا أزاول هذه المهنة منذ أن كنت في مقتبل عمري قبل أكثر من 20 عاما، وهي تؤمن مصدر رزق لي ولعائلتي يجنبنا مد أيدينا  للمال الحرام”.

وأشار حسين الى ان “هناك انواع  عديدة من الطيور، فمنها ما هو عادي ومنها ما هو اصلي، أما الطيور العادية كطير الحب والفنكس والملك فتتراوح اسعارها بين 10 الاف الى 35 الف دينار، أما الطيور الأصلية كطير الحسون وطير الكناري، فتتراوح أسعارها بين 100 الف دينار الى 150 الف دينار”.

سوق مريدي الذي يقصده عشرات الآلاف من المتسوقين يوميا، لا يقتصر على بيع المواد الجديدة، بل يضم محلات وساحات لبيع المواد المستهلكة والقديمة من اجهزة كهربائية ومنزلية وتحفيات.

وأشار علي عبود (28 عاما) وهو أحد العاملين في بيع وشراء المواد المستعملة ويملك احدى (البسطيات) القريبة من الشارع الرئيسي للسوق، الى ان “البسطيات يقصدها الكثير من المتبضعين لأنها تضم مواد قد تكون نادرة ولا تجدها في بقية الاسواق، فضلا عن بعض المواد الاصلية ذات الماركات المعروفة”.

وقال “نحن نشتري المواد من بعض مناطق بغداد الراقية او عن طريق المزادات، نقوم بشرائها بأسعار مناسبة وببيعها مجددا في هذا السوق وباسعار رمزية”.

وشكا عبود من اجراءات بعض الجهات الحكومية وتدخلات رجال الأمن الذين يعملون على عرقلة عملهم، مبينا “بين الحين و الآخر تقوم بعض الجهات باستعمال القوة لابعادنا عن الشارع وقطع ارزاقنا، وأحيانا يعتدون على كبار السن دون اكتراث، بحجة ان عملنا يعرقل الحركة في الشارع ويشكل تجاوزا عليه”.

وفيما تمثلت معاناة عبود في مضايقة بعض الاجهزة الامنية لعمله، شكا بائع السجاد والمفروشات سرحان وائل (34 عاما) من صعوبة ادخال البضائع الى السوق بسبب الاجراءات الأمنية.

وقال وائل ان “الشارع الرئيسي للسوق مغلق امام حركة المركبات، والبضائع التي اعمل بها تأتي من خارج البلاد ويتطلب وصولها الي المحل توفر طائرات صغيرة لأن الشارع الرئيسي مع جميع الأفرع المؤدية اليه مغلقة”.

واوضح “بدلا من ان تدخل السيارة بكل يسر، نحتاج الي يوم كامل لايصالها الى المحل، ناهيك عن أجرة العمال، فاذا بقينا على هذا الحال كلما حدث انفحار اغلق شارع سوف نعود الى مرحلة ما قبل الميلاد حيت تصل البضائع عن طريق الحيوانات”.

وناشد وائل الحكومة والأجهزة المعنية الوقوف الى جانبهم وايجاد بدائل لغلق الطرق والشارع الرئيسي، مشددا ان “ضمان الأمن لا يكون بغلق الطرق بل باعتماد وسائل اكثر  فاعلية”، معربا عن قناعته بوجوب “اقامة نقاط تفتيش متقاربة لايقاف السيارات الداخلة وتفتيشها بشكل دقيق بواسطة اجهزة السونار”.

لكن احد رجال الأمن في المنطقة اعتبر ان “غلق الشارع الرئيسي يعد الحل الأسهل والأفضل في الوقت الحالي لضعف الامكانات وعدم توفر اجهزة السونار الكافية”.

وقال ان “غلق الشارع جاء بعد تفجيرات دامية استهدفت المواطنين في السوق وبشكل عشوائي موقعة مئات القتلى والجرحى”، مضيفا “لمنع تكرر تلك الهجمات، لم نجد حلا غير غلق الشارع الرئيسي للسوق وعدم السماح للباعة المتجولين الذين يزاولون اعمالهم على حافة الأرصفة بمواصلة عملهم خوفا على حياتهم”.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/شباط/2010 - 3/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م