عراق الغد ووطنية اليوم

أ.د. إقبال المؤمن

كثرت في الآونة الأخيرة صرخات مدوية تشكك بوطنية سين او صاد من المسئولين او السياسيين في العراق واختلطت الاوراق في خضم الصراع السياسي القائم بين رجالات السياسة حول الكراسي البرلمانية والرئاسية معا وبقصد او دون قصد اخذ التشيك بوطنيتهم كصفة معيبة يتداولها الجميع للنيل من الاخر.

 فهل ياترى الوطنية صفة او مهنة او غريزة او سلوك او مصطلح سياسي جاهز! يتغنى به كل من يريد ان يصل الى اعلى المراكز ويكسب الود الشعبي!

فما هي الوطنية وما علاقتها بالمواطنة؟ وهل لنا ان نفهمها بمنعزل عن الوطن والهوية والمحيط الخارجي؟!

في معجم الفكر السياسي (روجر سكرتون) يعرف الوطن على انه دولة مستقلة ذات سياسة على ارض محددة يسكنها بشر متحدو اللغة واللهجات المتفرعة عنها تصل بينهم عادات وتقاليد مشتركة وموروثات يجمعها تراث واحد يغدو اساس القانون الذي يحدد المصالح والاماني المشتركة التي تسهم في رغبة الاستقلال والسيادة على الارض التي تغدو وطنا تربط بين مواطنيه قيم المواطنة التي تستند الى تاريخ واحد.

اما الوطن في اللغة العربية يعرف على انه المنزل الذي تقيم به وهو موطن الانسان ومحله.

اذن لو ربطنا بين التعريفين يتضح لنا الوطن بأنه الارض التي يسكن عليها مجموعة من الناس تربطهم موروثات مشتركه في كل مجالات الحياة وهذه الموروثات المتضمنة للعادات والتقاليد والدين والاقتصاد وغيرها يصاغ منها القانون او الدستور الذي يسير امور البلاد والعباد وتصبح لهم هذه الارض بمثابة السكن آلآمن من خلال اتحاد الجميع على مشتركات اساسية ثابتة..

اما المواطنة فهي انتساب جغرافي ,اي انتساب شخص ما الى ارض معينة بغض النظر عن مولده اوعقيدته.ويرجع اصل استعمال مفهوم المواطنة من الناحية التاريخية الى الحضارتيين اليونانية والرومانية وقد استعملت Civilian مواطن وCitizenship مواطنة للدلالة على وضعية قانونية الفرد, ويقصد به غرس السلوك الاجتماعي المرغوب به حسب قيم المجتمع من اجل ايجاد المواطن الصالح.

فالمواطنة اذن هي علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي.وعرفتها دائرة المعارف البريطانية بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة نفسها وبما تتضمنه من حقوق و واجبات في تلك الدولة.

وهذا يعني ان مفهوم المواطنة ظهر بعد ما انتقل الفرد من الحياة الفردية الخاصة الى الحياة الاجتماعية العامة ومشاركة الاخريين في تنظيم الحياة وتأسيس الحكومات. وبالمختصر المفيد المواطنة هي العلاقة المتمثلة بالمساواة بين جميع المواطنيين مهما كانت مكانتهم او ثقافتهم او اماكن ولادتهم او عقائدهم! وبهذا التعريف تكون المواطنة لها قاسم مشترك مع الديمقراطية فكلا المفهومين يشمل على حقوق مدنية وسياسية يجسدها العقد الاجتماعي بين الدولة والفرد.

اما الهوية هي انتساب تقافي ,اي انتساب الفرد الى معتقد وقيم معينة.وهذه المعتقدات والقيم كثيرة ومتشعبة لانها تتصل بالفكر والثقافة والاديان وهي تتبع الحرية الشخصية لمن يعتنقها او يؤمن بها ولا يحق لاي من كان دولة او سلطة او حزب او اي قوة اخرى ان تفرضها على الشعب بالقوة او التهديد او الاغراء لانها قناعات شخصية بحتة.

ولكن كيف نفهم الوطنية في الوقت الحاضر بعد الثورة التكنلوجية والمعلوماتية وكل ما ذكرناه؟

هناك اشكالية في تحديد مفهوم الوطنية , وتعود هذه الاشكالية لتعدد المستويات التى تحملها في ابعادها الايديولوجية والسياسية والثقافية.

فالغموض يكمن في تداخلها مع مفهوم الامة والوطن وتكامله مع معاني البناء الوطني! فمثلا في اوربا الوسطى وفي القرن 19 بدء الاهتمام بالوطنية بعد صعود الفاشية للسلطة وبدء الشعور بالخطر من الداخل والخارج بسبب العدوان الذي شكلته الفاشية على الجميع.

اما في الانظمة الشمولية اقترنت الوطنية بالعدائية تجاه الاخر لخوفها من التغير المؤدي الى اسقاط الحكم الاستبداي الذي ترتكز عليه فتبنت قمع كل حركة تحررية تدعو الى الديمقراطية والمساوات بين ابناء الشعب وبأسم الوطنية.

أما في الثقافات العالمية لا يوجد تفريق بين الوطنية والقومية واصبح للكلمتين معنى واحد بسبب المساوات بين الجميع وعدم الخوف من الافكار الاخرى.

لكن في البلاد العربية أبان الحكم العثماني التركي كان مفهوم الوطنية متمثلا في الانتماء القومي.

علما ان الدين لا يعترف بوجود حدود جغرافية او قومية وبحسب مفهوم المفكر محمد اقبال (الاسلام لنا دين وجميع الكون لنا وطن)!.

الوطنية والصدمة الثقافية

الا ان تطور الحياة السريع و اتساع مفاهيمها وتشعب الثقافات وتداخلها وحوار الحضارات المتبادل والطفرة الاعلامية السريعة المتمثلة بالشبكة العنكبوتية والثورة التكنولوجية المؤدية للعولمة والتى جعلت من العالم قرية صغيرة والانفتاح السريع على الثقافات المختلفة وخاصة في العراق بعد إنهاء الانغلاق المقيت وسيطرة الحزب الواحد وتطبيق مبدأ الديمقراطية ودخول سياسات وافكار جديدة لم يألفها الشعب من قبل احدثت ما يسمى بالصدمة الثقافية.

فالصدمة الثقافية هي تعبير يستعمل لوصف المخاوف والمشاعر من المفاجأة والحيرة والفوضى المحسوسة عندما يتعامل الناس ضمن ثقافة او محيط اجتماعي مختلف تماما عما كان عليه و كما هو حاصل الان في العراق من تنوع الثقافات والايديولوجيات ومفردات الديمقراطية الجديدة كليا على الاغلبية العظمى من الشعب والسياسيين على حد سواء ناهيك عن التغير في السياسة الداخلية للعراق وكثرة الاحزاب والسياسيين ومن ثم التغير في العلاقات الاجتماعية المستمر!

 وترتفع صعوبات الصدمة الثقافية من خلال استيعاب الثقافة الجديدة بكل مفرداتها , وتبدأ إشكالية التعرف وادراك ما هو ملائم من غير الملائم هي من اصعب المراحل كأزمة الثقة الحاصلة في الوقت الحاضر من كل الأحزاب والسياسيين الذي اصبح عددهم اكثر من 6000 كيان وشخصية وبمختلف الافكار والاتجاهات.

( الصدمة الثقافية كتعبير عرف لاول مرة عام 1954 بواسطة كلفيرو اوبيرج Kalvero Oberg ).

للصدمة الثقافية هذه العديد من التأثيرات الايجابية. فالتأثيرات الايجابية مثلا تكمن في تباين الثقافة وزيادة الكفائة الذاتية وتساعد على التحفيز الذاتي للفرد.اما التأثيرات السلبية اغلبها مؤقتة تكمن في كيفية الاستيعاب لكل ما هو جديد ومبهم ولكن بعد التعود على هذه الثقافة الجديدة وادراك معانيها ترجع الامور الى حالتها الطبيعية ويصبح التعامل مع هذه الثقافة الجديدة كأي مفردة من مفردات الحياة العامة والتي لا يمكن الاستغناء عنها لاحقا.

وهذه المفردات كأن تكون مادية او معنوية فمثلا في المفردات المادية اكثر الادوات المستعملة في اي بيت الان هي قبل فترة كانت من ضرب الخيال ومن الصعب اقتنائها او حتى استيعاب وجودها من الثلاجة الى الة المكيف واخرها الكمبيوتر والشبكة العنكبوتية( النيت) اما اليوم لا يمكن الاستغناء عن اي واحدة منها باي شكل من الاشكال او حتى في المجالات الاخرى العامة مثل الاعلام والصحة والتعليم والمرور وحتى في الترفيه.

 اما من الناحية الفكرية فالامور لا تحصى ولا تعد وعلى مستوى كل الادبيات سياسية , ادبية ,دينية,علمانية او تكنولوجية , فمثلا اخر مفردة ومبدأ نتغنى به هي الديمقراطية ومبدأ تطبيقها في العراق وكيف اصبحت وبزمن قياسي عصب الحياة للشعب العراقي والكل يقاتل من اجلها بكل قواه رغم الويلات التي صاحبتها من خلال اغلب منتخبينا وسوء فهمهم لها, بالاضافة الى محاصرتنا وتصدير الارهاب لنا من قبل دول الجوار.

وبما ان هذه الثقافة الجديدة شئنا ام ابينا اصبحت مفرداتها تخص العامة والخاصة من الشعب اذن لابد ان تدخل ضمن مفردات القانون او الدستور وخاصة في مجالات السياسة والاقتصاد والتكنلوجيا وغيرها! وهنا تكمن الاشكالية وخاصة فيما يتعلق بالامن الوطني وكيفية الحفاظ على سلامة التكوين الوطني ومواجهة الاخطار المتوقعة منها وغير المتوقعة وحماية الوطن من الثغرات الواردة والمصاحبة لهذه الثقافة الجديدة! لأن من المحتمل دخول اجندات لها اهدافها الخبثة للنيل من العراق والتجربة العراقية الجديدة وهذا ما نلاحظه بين الحين والاخر من قبل أناس كنا نعتقد انهم أهلا للمسؤولية وحماية البلاد والعباد لكن الواقع اثبت لنا العكس!

وعليه اخذت الوطنية تحمل نزعة الدفاع عن الوطن ارضا وفكرا حين يتعرض لخطر ما خارجي كان ام داخلي.ولا يجب بأي حال من الاحوال ان تستغل الوطنية في الصراعات الطبقية و السياسية الداخلية وبالتالي لتصفية الخصوم.لانها سمة الانتماء للوطن وحبه. والوطنية في الغالب هي مشاعر حب وود ووفاء وخدمة تجاة الوطن ومن فيه.

اما ما نراه اليوم في عراقنا الحبيب لا يتلائم مع مفهوم الوطنية لا من بعيد ولا من قريب وخاصه بين الفرقاء السياسين على الساحة العراقية.

فالاختلاف في الرأي ليست له علاقة بالوطنية! والانفتاح على ثقافات الشعوب لا يؤثر على الوطنية بأي شكل من الاشكال!

والاستفادة من تجارب الاخرين وعلومهم المتطورة في خدمة ابناء الشعب المفروض يعمق الوطنية ويبين كم هو جليل من يخدم وطنه وينتقي لهم ما هو مفيد وضروري!

والتعامل مع كل من يخدم العرا ق ويدعمه لا تشوه صورة الوطنية!

لكن من يريد ان يدفع العرا ق للعودة للمربع الاول بعودة ازلام النظام المقبور هو ضد الوطنية وكل من يمجد بافعالهم الحقيرة فالوطنية براء منه ومن يختلس اموال الشعب ويشرع لمصالحه الشخصية ولا يحضر جلسات البرلمان ويتقاضى راتبا شهريا مليون دولارا بدون جهدا يذكر هو عديم الوطنية.

 والذي لا يرف له جفن عندما يرى المقابر الجماعية او الذبح الهمجي لمجرد الشبهات او البؤس والفقر الذي يعاني منه اغلبية الشعب العراقي هو عدو الوطنية.

 ومن يصرح ويفتخر انه يقاوم بقتل الشعب والابرياء هو الذي يجب ان يحاكم باسم الوطنية.

 والذي يسكت عن الحق هو متجرد من وطنيته هذا ناهيك عن النفاق السياسي والتعاون مع خصوم العراق ومن باعوا ذممهم من اجل المال او تعاونوا مع الارهاب بكل مسمياته هم من لفظتهم الوطنية العراقية.

 فالوطنية اذن هي الشعور الحقيقي بحب الوطن بدون عنصرية او طائفية او عدوات شخصية او حتى مصلحة خاصة.

فهل يا ترى ان الذي يصرح بعودة الارهاب والطائفية اذا لم يسمح لة بالترشيح للانتخابات وطني!. هل الذي يدعو العالم والدول العربية ليتدخلو في امور العراق لمجرد انه ابعد من الترشيح في الانتخابات هو وطني الا يجدر بهم ان يثبتوا برائتهم بدل التهديد والتوعيد وانتهاك حرمة الوطن والمواطنيين! الا يستحق الوطن منهم ان يكون اغلى من مصالحهم الشخصية واجنداتهم الخارجية.

فهل لساستنا ان يوحدونا بحب الوطن والتعاون المثمر مع العالم بغض النظر عن اجنداتهم النفعية ليكون لنا غدا مشرقا؟ او ان فاقد الشئ لا يعطيه!

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 17/شباط/2010 - 2/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م