تتصاعد في بلادنا حاليا سجالات سياسية حامية الوطيس حول مشاركة
أشخاص في الانتخابات العامة القادمة، يشك بصلتهم بحزب البعث المرتبط
بالنظام السابق والذي يعادي السلطة الحالية ويتوعد بإسقاطها وإلحاق
الأذى بالشعب العراقي. لقد شارك في هذه السجالات كل من الولايات
المتحدة والأمم المتحدة وكان لهم رأيهم الذي على ما يبدو لم يرضي
الأحزاب الحاكمة.
ويوجد شبه اجماع شعبي على رفض مشاركة البعثيين في النشاط السياسي
وخاصة للترشح للانتخابات ووظائف حكومية حساسة. والغريب أن المتقدمين
للترشيح الذين استثنتهم هيئة المساءلة والعدالة من حق الترشح يقودون
حملة تضامن عراقية وعربية تنادي بضرورة مشاركتهم في الانتخابات وأخذ
دورهم في العملة السياسية، معتبرين الحكومة الحالية صنيعة إيران وتخدم
مصالحها في العراق.
بعض وربما أكثريتهم يؤيد ممارسات النظام السابق وأيد سياساته
الاقصائية ضد الخصوم السياسيين واستئصالهم، فكانوا جزء من نظام تقطع
فيه ألسن الناس لمجرد زلة لسان.
إن السجال بحد ذاته ومشاركة الاطراف المبعدة من الترشح فيه هو
باعتقادنا أحد إيجابيات الديمقراطية التي باشرناها في بلادنا من مستوى
العدم والتي لم يشهد السادة المبعدون بعضا يسيرا منها إبان نظامهم
السابق، وهو ما يفرض عليهم احترام قرارالهيئات المسئولة التي يجاهرون
بعدائهم وعدم احترامهم لها. ويظهر أنهم لم يدركوا بعد أن الجرائم التي
اقترنت بالنظام السابق غير قابلة للنسيان أو التلاشي من ذاكرة التاريخ.
المجموعة المستبعدة من الترشح لها على ما يبدو سجلا مشينا من
الممارسات لا تتناسب وشخصية ممثل الشعب في البرلمان العراقي، وأولها
أنها لم تقطع على ما يبدو حبلها السري بنظام لم تكتمل بعد قائمة الأدلة
الجرمية التي ارتكبها بحق الشعب، وهو أمر إن غفرته لها هيئة المساءلة
فلن يغفره لها ذوي الضحايا الذين خضبت دمائهم كل الأرض العراقية،
وسيكون مبكرا جدا قلب صفحة ذلك التاريخ الملطخ بالجريمة والخزي والعار.
لقد أخطأ العديد من أيتام ذلك النظام عندما اعتبروا أن الوقت قد
حان لهم ليشمروا عن سواعدهم، ويخوضوا معركة سياسية بأمل العودة إلى
السلطة عبر آليات الديمقراطية بعد أن تعذرعليهم السطو عليها بالانقلاب
والتآمر. لا أعتقد أن الوقت ملائم لمثل هذه المغامرة، فلا السياسيون
الحاليون المهيمنون على السلطة الحاكمة على استعداد لقبولهم ندا سياسيا،
ولا الشعب الذي ما يزال يرتدي ملابس الحداد على أبنائه البررة الذين
غيبوا في سجون النظام السابق ومقابره الجماعي سيقبلهم أيضا.
لكن على السادة المستبعدين أن يشكروا الديمقراطية التي بفضلها
يتمتعون بحقوقهم في إبداء أرائهم والدفاع عنها عبر وسائل الاعلام
والمؤسسات الدستورية، وهو ما لم يكن متصورا حتى في أحلامهم إبان النظام
السابق الذي ما يزال كثير منهم يمجده وغير مستعد للاعتذار عن ممارساته.
إن ما شيد من مؤسسات ديمقراطية في بلادنا خلال السنوات القليلة
الماضية لم يحصل دون تضحيات أيضا، وما أكتسبناه من خبرة متواضعة عبر
ممارستنا السلمية لحرية التعبير يعتبر منجزا رائعا نادر المثال في بلد
خرج لتوه من ديكتاتورية دموية لا مثيل لها. من كان يتصور أن تتاح
للبعثيين حرية الحياة والحركة في بلد اختطفوه مرتين، مرة في عام 1963
ومرة ثانية 1968 حصدوا خلالها أرواحا يصعب حصرها، وساموا شعبنا الأعزل
خلالها الاهانة والبطش والارهاب والتهجير والتعذيب والقتل والاغتصاب
والتمييز العنصري والطائفي لما يزيد عن أربعة عقود طويلة من السنين.
لقد سمح للكثير ممن لم تلوث أيديهم بدماء أبناء وطنهم لمزاولة
أعمالهم والبقاء في بيوتهم ومناطق سكناهم دون خوف أو قلق من زوار الليل.
لم يعاقبهم الشعب جماعيا كما فعلوا، ولم يطاردهم في بلدان اللجوء التي
هربوا إليها مذعورين كما فعلوا،و لم يهانوا وينكل بهم كما أهانوا
ونكلوا بمعارضيهم السياسيين كما فعلوا.
لقد كتبت أكثر من مرة، حول حق البعثيين كحزب سياسي لمزاولة نشاطه
بين الشعب، وكان هدفي احترام حق ديمقراطي، مفترضا أن من سيقود نشاطه
ويضع برنامجه أناس وطنيون قد استفادوا من أخطاء أسلافهم. وافترضت أيضا
أن من سيقود الحزب ليسوا فقط لم يتلوثوا بالفكر الفاشي بل يدينونه،
ويشطبوا بخط أسود على تلك الحقبة من تاريخ الحزب الملطخ بالعار،
ويعتذروا لذوي الضحايا، ويتعهدوا بالعمل السلمي عبر المؤسسات
الديمقراطية ووفق الدستور العراقي، رافضين أسلوب التآمر والغدرالذي
أرتبط بتاريخ حزب البعث العربي منذ تأسيسه. وكنت دائما مع المتهم الذي
يظل بريئا حتى تثبت إدانته من المحكمة المختصة بعد أن يمنح حق الدفاع
عن نفسه دون ضغط أو إكراه، وما زلت عند هذا الرأي.
وعندما أصدرت هيئة المساءلة والعدالة قائمة المستبعدين، اتخذت جانب
المستبعدين معتمدا تصريحات مسئولين كثيرين، بأن من لم تلوث أيديه بدماء
العراقيين يتمتع بكافة حقوقه المدنية، ولأنه لم يعلن عن أي متورط بهذه
الجريمة فمن الطبيعي أن يكون لهم حق الترشح للانتخابات العامة القادمة.
وما زلت مع هذا الرأي بشرط تعهدهم التزام السبل الديمقراطية،
والاعتذار من الشعب عما اقترفه حزبهم من جرائم بحقه. يرى البعض أن
للبعثيين سابقة تعهدوا بها للحكومة القائمة حينها بعدم قيامهم بما يهدد
الأمن أو يقوض سلطتها، لكنهم لم ينتظروا طويلا حتى تآمروا عليها وسرقوا
السلطة عن طريق الانقلاب، وبهذا أراني متفقا مع الأخوة الذين لا يثقون
بتعهدات البعثيين، وبسبب ذلك لايسلمون وظائف حساسة في الأمن والشرطة
والقوات المسلحة.
وأجد نفسي غير متفق مع المسئولين الأمريكان وممثلي هيئة الأمم
المتحدة فيما ذهبوا إليه، بتأجيل البت في مصير المستبعدين إلى ما بعد
الانتخابات العامة، لأن هذا الاقتراح إذا ما طبق بالفعل فسيربك أعمال
المجلس النيابي ويشل حركته، وبالتالي سيؤثر على دوره الذي تنتظره
العشرات من مشاريع القوانين الواجبة البت. |