لماذا تتجدد منابع الفكر المتطرف في مجتمعاتنا؟

النبأ/علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: في الوقت الذي ينحو فيه العالم المعاصر الى مديات أبعد من الإنفتاح والتطور والسعي نحو درجات أعلى من الرقي والازدهار الانساني القائم على التحرر والتحاور ومراعاة التنوع وترسيخ مبادئ التعايش السلمي وتجفيف منابع وأسباب التوتر، في هذا الوقت –وهذا ما يثير الاستغراب حقا- تُُستثنى من هذا المنحى مجتمعاتنا الاسلامية والعربية، حيث تتجدد فيها منابع التطرف والتوتر على نحو يدفع بها الى درجات أدنى في مراتب العيش والى مزيد من التطرف الفكري والتوتر السلوكي وما الى ذلك من جوانب تؤثث حركة الحياة إجمالا، وما يزيد حالة الاستغراب هذه، توافر مقومات التطور في مجتمعاتنا كالثروات الهائلة وغيرها.

وفي نظرة متأنية تُلقى على حركة هذه المجتمعات سواء ما يتعلق بالفكر السياسي والديني والاجتماعي وغيرها، او ما يتعلق بالسلوك المستخلّص من هذه المجالات الفكرية العملية في آن، فإننا سنصل من دون عناء الى الاسباب الكامنة وراء هذا الانحطاط والتردي المتواصل في طبيعة الحياة فيها، حيث الدكتاتورية (وهي أسوأ السيئات) تهيمن على سلوكنا السياسي والاجتماعي بل وحتى العائلي والفردي، لتحول مجتمعاتنا الى بؤر كبيرة وصغيرة متنوعة تعاني من الاحتقان الذي يكون معدّا وجاهزا للانفجار في أية لحظة!!.

وهذا تحديدا ما يجعل مناطقنا ومحيطاتنا البشرية أكثر المناطق توترا في العالم وأكثرها هشاشة فيما يتعلق بالأمن والاستقرار، حيث التناحر بين الجميع ومن قبل الجميع حاضرا وجاهزا في أي وقت، لتغذيه أفكار طاعنة في الجهل والظلامية والاستبداد، لدرجة أن جميع البؤر تقول بالصحة المطلقة لرأيها، أما الآخرون فهم الخطّاؤون المكفَّرون المنحرفون عن جادة الرأي الصواب، ما يتطلب وأدهم بسيف الحق الذي نتشدق به جميعا وننكره على بعضنا جميعا في ذات الوقت.

لقد زُرِعت في نفوسنا نزعة التسلط منذ أن رضعناها مع حليب أمهاتنا، فصار الأب هو دكتاتور الأسرة الذي لا يُناقَش ولا يُعارَض ولا يُسمح بغيره في اتخاذ القرارات أيا كان نوعها، ومن هذه الخلية المصغّرة، إنتقلت عدوى الفردية الى القائد الأوحد الذي لا عقل غير عقله ولا رؤية غير رؤيته ولا نظرة ثاقبة للامور سوى نظرته!! وبهذا صودرت الحرية وانتعشت مساحات الاحتقان وتوسعت، لتبذر بذارها في أراض واسعة وبؤر متعددة ومتجددة للتكفير كما يحدث الآن في كثير من البلدان الاسلامية والعربية، حيث المسلم يكفّر أخاه المسلم فيهدر دمه (بسيف الدين) زورا وبهتانا، متوسلا بالفكر الأحادي العقيم وبتلك التربية السلطوية التي رضعها مع حليب الطفولة لتنمو معه فيكون قائد الامة وعقلها الاوحد الذي يحق له وحده أن يؤشر المكامن الصحيحة والخاطئة وإن أدّى ذلك بالرعية الى مهاوي الهلاك، فلا يجوز للشعب او من يمثله بالادلاء برأي معارض للأب المتسلط لأنه وحده الذكي الواعي والعارف ببواطن الامور من بين جموع الجهلة التي تلتف حوله خانعة مطيعة كقطعان الخراف.

وفي ظل واقع مأساوي كهذا الذي نعيشه حيث تتجدد منابع التطرف والتكفير هنا وهناك (ولنا في القاعدة وأنشطتها نموذجا) ليس لنا سوى تأشير غياب الفكر الديمقراطي التحرري في بلداننا، واعتماد الرأي الواحد وتحجيم الاختلاف ومحاربة القول المعارض تحت شتى السبل، حفاظا على المكاسب واستحواذا على المناصب في ظل توسع كارثي لمساحات الفقر المدقع بين الجموع الهائلة التي تنام في حضيض الجهل والمرض وانطفاء الوعي.

ولعل الكارثة تتمثل بأشد الوضوح ببعض رجال الدين والمفكرين الذين يطلقون بين الحين والآخر مجموعة من الافكار المتطرفة التي تمنح لنفسها بنفسها هوية الكمال وتسجل على غيرها أو ممن يعارضها أحكام التكفير والتفسيق وما الى ذلك مما يقود الى تفجير بالونات الاحتقان التي ورثناها منذ مئات السنين عبر رحلة شاقة ومريرة مع السلطوية الأبوية والسياسية والدينية ذات المظهرية المزيفة، والتي أدّت بدورها الى تكريس الدكتاتورية في معظم او جميع الدول والمجتمعات العربية والاسلامية، كما نلمس ذلك الآن من مطالعتنا للواقع السياسي الذي يؤكد (السلطة الابوية السياسية) على نحو لا يقبل التشكيك قط.

وفي أجابة قاطعة عن الاسباب التي قادت الى انتعاش التطرف والتكفير والتجهيل المتعمَّد، تكون الدكتاتورية هي بيت الداء، فكل ما تعانيه مجتمعاتنا الآن تقف وراءه السلطة الاحادية الشمولية الراكزة في عموم انظمتنا السياسية، وبهذا فإن خلاصنا يكمن في القضاء على هذه الدكتاتوريات التي آن الأوان كي نقتلعها من جذورها، من خلال تنمية الافكار المتحررة ومعاضدة الأنهاج الديمقراطية ونشرها كأساليب حياة بديلا عن أساليب القمع والمصادرة والتكفير.

ولعلها مهمة المصلحين والمثقفين والمفكرين وكل من يعتقد بأن سبب البلاء وبيت الداء لواقعنا الراهن، هو دكتاتورية الساسة الجاهلين المتسلطين على مصائر بسطاء الناس والفقراء وأولئك الذين يغذون التطرف ويزقونه للشباب وكأنه العلاج الذي لا علاج سواه، في حين كل الوقائع تدل على أن غياب الفكر الحر وتغذية بؤر الاحتراب والتكفير وترسيخ السلطة الفردية ومصادرة الحقوق والآراء من قبل السياسيين الأنانيين الجهلة، هي التي جعلت من مجتمعاتنا العربية والاسلامية أرضا خصبة لزراعة الجهل والانحطاط والتوتر، ومن ثم التخلف الأكيد عن الركب العالمي في مسعاه القويم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 24/كانون الثاني/2010 - 8/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م