مجتمعنا والحاجة إلى البرامج الفكرية والروحية

أديب أبو المكارم

يبتلى الإنسان بآلام ومشاكل مختلفة الدرجات، وتتفاوت نسب هذه المعاناة من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر. ولاشك أن هذه المعاناة لها مسببات ولها آثار عكسية على الفرد والمجتمع. كثيرة هي تلك المعاناة والآلام بكثرة أسبابها، وكثرة آثارها العكسية، ولهذا فسوف نذكر بعضًا من تلك الأسباب، وبعضًا من تلك الآثار بما هو مناسب لموضوعنا(1) ونرى ما هو الحل الناجح لمثل هذه الأمور.

النقطة الأولى: معاناة وآلام:

هناك عدة أسباب تؤدي إلى معاناة البشرية وآلامها ومنها:

الوضع الاقتصادي: حين يعيش الإنسان في بلد يعاني ضعفًا اقتصاديًا تزداد فيه التكاليف المعيشية، ويعاني صعوبة في ترتيب أوضاعه من دراسة وتكوين أسرة والحاجات الأساسية كالمأكل والمشرب والعلاج فإن ذلك في كثير من الحالات يصيبه بالشعور بالعجز ونقص الحيلة، ويحسب أن كل عمل سيقوم به سوف يصاب بالفشل، وهذا بلا شك له أثر سلبي على الفرد ومن ثم إذا زادت هذه الحالة في المجتمع تأثر المجتمع بأكمله.

 وبالمقابل أيضاً فإن التضخم الاقتصادي وازدياد القوة الشرائية عند الناس بحيث تكون هناك حالة من الترف والرفاهية الزائدة عن الحاجة، فإن ذلك يؤدي إلى الانغماس في الملذات والشهوات، وبالتالي التشتت والضياع والفشل.

الوضع الاجتماعي: كثيرة هي الأسباب التي تندرج تحت هذا الجانب. والمجتمع هو الحاضن الثاني للشخص بعد البيت، ويلعب دورًا فاعلًا في تكوين شخصية أفراده، كما أن أفراد المجتمع هم الذين يشكلون ويبنون نوع المجتمع الذي يعيشون فيه. والمشاكل الاجتماعية كثيرة نذكر منها:

البطالة: فحين يتخرج الطالب ولا يجد له مقعداً دراسيًا، أو حين يتخرج من الجامعة ولا يجد له عملاً مناسباً، فإنه يعيش في فراغ دائم يكون له أثر في فساده كما يقول الشاعر أبو العتاهية:

إن الفراغ والشباب والجدة            مفسدة للمرء أي مفسدة

يشعر بأن لا أهمية له ولا قيمة، ولا يستطيع أن يلبي متطلبات الحياة، فيحس بالنقص والقلق لما هو آت. وبالمقابل أيضاً الانغماس في العمل بشكل يحجب صاحبه عن أي شيء آخر هو أيضاً له أثر عكسي.

التمييز بين أفراد المجتمع: من أسوء المشاكل الاجتماعية، فوجود حالة من الطبقية والعرقية والانتمائية في المجتمع يولد كثير من المعاناة لأفراده. الطبقة المدللة سيكون عندها إفراط في حقوقها، والطبقة المحرومة سوف تعاني من وجود تفريط في حقوقها.

انعدام روح التعاون والتكاتف الاجتماعي: هناك آيات كثيرة تركز على هذا الجانب: (وتعاونوا على البر والتقوى)(2)، وأحاديث كثيرة أيضًا تؤكد على الاهتمام بهذا الأمر ومنها حديث رسول الله (ص): مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. المجتمع الذي تنعدم فيه هذه الميزة، وتكثر فيه العداوة والبغضاء يتضعضع: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(3).

الحرمان العاطفي: إبداء العواطف والمشاعر لمن نعيش معه أمر مهم وضروري ولا عيب فيه. وقد أكدت تعاليم الإسلام على هذا الجانب حتى تضمن للإنسان عيشة سليمة هانئة. فالزوجة مثلاً تحتاج أن تلمس حب وعطف زوجها عليها ومنها الكلمة الطيبة، ولهذا ورد في الحديث عن رسول الله (ص) قوله: قول الرجل للمرأة أني أحبك لا يذهب من قلبها أبداً.

تحتاج الزوجة الكلام العاطفي من زوجها وكذلك التصرف الذي يشعرها بحبه لها كالجلوس معها في أوقات معينة، لا أن يقضي نصف يومه في العمل ونصفه الآخر مع أصحابه ويتركها تعاني من الجفاف العاطفي. وكذلك الزوج يحتاج هذا الأمر من زوجته.

الأولاد أيضاً يحتاجون حب وحنان آبائهم والجلوس معهم وتربيتهم وتوجيههم، جاء في الحديث عن رسول الله (ص): لجلوس أحدكم مع عياله ساعة، أحب وأفضل من عبادة في مسجدي هذا. ونصوص أخرى جاءت تحث على إهداء الطفل لعبة مثلاً أو فعل وقول أي شيء يشعره بحب والديه له، ملاعبته، تقبيله، واحترام مشاعره وشخصيته.

الخواء الفكري: إذا لم يتسلح الإنسان بالفكر والعلم، يفقد كثيراً من إنسانيته، فيحس بأن لا قيمة له في المجتمع سيما مع تقدم العلم والانفتاح على العلوم الأخرى، ومع تزايد أعداد المتعلمين والمثقفين. ولكن هذا الجانب يحتاج إلى عناية وحذر. فمع تمازج الحضارات وتعولمها ومع وجود السبل التي تسهل تمازج هذه الثقافات والحضارات كالانترنت والاتصالات وغيرها، ستجد ظواهر عديدة دخيلة على المجتمع منها ما هو مقبول ومنها ما هو محل رفض وخطر. ولهذا ينبغي على المجتمع الواعي أن يتنبه لمثل هذه الأمور ويعالجها بالشكل السليم.

الأثار: تلك كانت بعض المسببات للمعاناة والآلام البشرية والتي لها آثار عكسية على الفرد والمجتمع، ومنها:

ضعف الكفاءة الذاتية: من حيث الفشل في التحصيل الدراسي، وضعف الأداء الوظيفي، وقلة أو انعدام الحراك الاجتماعي. وتزايد هذا الأمر في المجتمع يعني انخفاض في الكفاءة العامة له. حيث تقاس المجتمعات بكفاءة أفرادها وتقدمهم.

انتشار الأمراض النفسية: كثير من الأمراض النفسية بدأت تنتشر بشكل كبير كالإحباط والقلق والتوتر، وغيرها. هذه أمراض تقض راحة المجتمع، فكثير من التقارير تشير إلى أن حالة اليأس والإحباط تؤدي إلى الإقدام على الانتحار بشتى الطرق. وتزايد عدد المصابين بهذه الأمراض يعني تزايد عدد حالات الانتحار. في تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 500 مليون شخص في العالم مصابون بهذه الأمراض النفسية. وقد وصلت حالات الانتحار إلى مليون شخص في كل عام بمعدل كل أربعين ثانية حالة انتحار محققة وإلا فمحاولات الانتحار الفاشلة فتصل إلى عشرين مليون حالة. وهذا يحصل في البلاد الفقيرة بسبب الوضع الاقتصادي وكذلك في البلاد الغنية بسبب الفراغ وانعدام الغايات كما يقول المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي: الناس في البلاد الفقيرة ينتحرون لانعدام الوسائل، وفي البلدان الغنية ينتحرون لانعدام الغايات.

طبعاً نسبة الانتحار في الدول غير المسلمة أضعاف ما عند المسلمين ولله الحمد ولكن بدأ الأمر يتسلل إلى هذه البلاد المسلمة، وبشكل متزايد كما كانت احصائية 2007 في السعودية حيث سجلت 596 حالة انتحار. أكثرها فاشلة طبعاً ولكن بالتالي هناك بوادر للانتحار(4).

العنف: إذا حرم الولد من العطف والحنان من أسرته، ومن مجمتعه، أو إذا فقد رعاية وتوجيه والديه، أو إذا فقد وجود قانون ضابط، فإن حالة من العنف والقسوة واللا مبالاة تنشأ عنده وتكون جزءًا من سلوكه وطبيعته. كذلك الثقافات الدخيلة على المجتمع تؤدي لمثل هذا الأمر. وحالات العنف والاستهتار بالأرواح واستراخص الدم البشري أصبح في تزايد على المستوى العالمي والمحلي: عالمياً كما نرى كثرة الحروب هنا وهناك بسبب المشاكل السياسية والدينية وغيرها، ومحلياً كما نلحظ تزايد حالات العنف وانتشار الأسلحة التي أصبحت في متناول الجميع. حتى مجتمعاتنا المسلمة المسالمة التي كانت تهنأ بالأمن والاستقرار، بدأت تتحول إلى مجتمعات قاسية منحرفة ينتشر فيها القتل والنهب والضرب وشتى أنواع العنف واللامبالاة بالآخرين ومشاعرهم واستقرارهم. السلاح أصبح في متناول الأيدي حتى الأحداث!

لماذا بدأت تنتشر عندنا مثل هذه الحالات سيما في مجتمع كالقطيف الذي كان يفخر بالأمن والاستقرار وطيبة أهله، أصبح الآن يواجه 30 حكمًا بالقصاص(5)! لماذا كل هذا يحدث سيما في هذا الشهر المحرم الذي يحفل ببرنامج عظيم وشعيرة مقدسة وهي إحياء ذكرى شهادة سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين (ع) الذي ضحى من أجل إصلاح ما فسد من أمر أمة جده المصطفى (ص)، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر؟ مجتمعاتنا أصبحت مخيفة لا أمن فيها ولا استقرار، قتل وسرقة واعتداء على النساء والأبرياء.

وهناك عنف آخر غير جسدي وإنما هو نفسي، يعني له أثر على النفس كإيذاء الآخرين بالسب والشتم وتجريح مشاعرهم بالتشكيك في نواياهم وتكفيرهم وتخريجهم من أديانهم. هذه الأصوات النشاز بدأت تنتشر في المجتمعات الإسلامية ويعلو صوتها وهي بحاجة إلى أن تُخرس. قبل أيام تعدى شيخ ينتسب إلى المنهج السلفي وهو الشيخ محمد العريفي، على شخصية ورمز شيعي محترم وهو آية الله السيد علي السيستاني دام ظله. ولم يحترم شيبة ومكانة هذا الرجل، ولم يبالِ بمشاعر الناس الذين يحترمونه ويجلونه من الشيعة والسنة وغيرهم. وهذا يعطينا درسًا بأن على الجميع احترام رموز الآخرين، فالتعدي على رمز من رموز الآخرين يعني جرح لمشاعرهم وكما لا يرضى كل شخص هذا الأمر لنفسه فعليه أن لا يرضاه لغيره. ولهذا يقول تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم، كذلك زينا لكل أمةٍ علمهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)(6).

الانحراف الأخلاقي: وهذا ما نلحظه جلياً في الآونة الأخيرة أيضاً من تزايد انتشار الجريمة كالقتل، والاغتصاب، والسرقة، والمخدرات، والميوعة، وكثير من أشكال الانحلال الأخلاقي.

النقطة الثانية: البرامج الفكرية والروحية هي الحل

هذه المعاناة التي تعانيها البشرية، بما تحوي من أسباب وآثار، علاجها الناجع هو التوجه للبرامج الفكرية والروحية. البرامج التي تجعل الإنسان قريبًا من ربه، تجعله يتأمل في ذاته ومآله إلى أين. وهذا هو العلاج الذي استخدمه الإمام المبجل سيد الساجدين وزين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام. في العصر الذي عاش فيه الإمام السجاد (ع) كان عصرًا مزدهرًا بالنسبة للمسلمين، حيث الفتوحات الإسلامية وازدياد رقعة الدولة الإسلامية. هذا الأمر أدى إلى تمازج الحضارات وتناقلها وذلك عن طريق التزاوج حيث يؤتى بالأسارى والجواري، وكذلك الاندماج السياسي حيث تندمج دولة مع أخرى تحت حكم واحد يسهل التنقل بينهما فتتمازج الحضارات والثقافات. وكذلك استعانة الحكام بأصحاب الخبرات من الدول الأخرى كالفرس مثلًا. وكان هناك بالتالي ازدهارًا اقتصاديًا، كل ذلك أدى إلى انتشار حالات من المجون والطرب، وهذا صاحبه تفسخ ديني وانحلال أخلاقي وهنا جاء دور الإمام زين العابدين (ع) ليتصدى لهذه الظواهر ويعالجها بالشكل السليم. فاتخذ سبيلين لإصلاح الوضع الذي عايشه وهما:

السبيل الأول: نشر العلم والفكر الديني الأصيل:

أسس سلام الله عليه مدرسة علمية وفكرية أصيلة، وإذا قيل بأن الإمام الحسن كان هو من وضع اللبنة والأسس لقيام ثورة أخيه الإمام الحسين (ع)، فإن الإمام زين العابدين هو من وضع الأسس لمدرسة أبنيه الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه. فكان يعطي دروس العلم والفقه وغيرها في مسجد رسول الله (ص) ويحضر حلقات درسه كثير من الأفاضل الذين نهلوا من علومه واستفاضوا من هديه، ولهذا شهد له الكثير بعلمه وفقهه فقد عدّه الإمام الشافعي بأنه أفقه أهل المدينة. وقال عنه سفيان بن عيينه: ما رأيت هاشميًا أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه. حتى عبد الملك بن مروان قال له: ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك(7).

كان علم الإمام سلام الله عليه وترسيخه لهذا الجانب واضح في مؤلفاته كرسالة الحقوق، وأدعيته التي اشتهرت بالصحيفة السجادية، وهي بحق كنز من كنوز المعرفة والعلم ومنارة هديٍ وفكر. فحين يقول (ع): سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور، سبحانك تعلم وزن الفيئ والهواء، سبحانك تعلم وزن الريح كم هي من مثقال ذرة. أو ليست هذه ظواهر علمية تدعو إلى التأمل والتفكر؟ وغيرها من الأدعية التي تنم عن وعي وإدراك علمي رصين.

السبيل الآخر: البرامج الروحية:

انتشار الرذيلة ينبغي أن يواجه ببرامج تطهر هذه الروح المتسخة بأدران الذنوب والمعاصي حتى تسمو وتصفو، وتتعلق بخالقها وتتوجه لما خُلقت من أجله. ولهذا ركزّ الإمام السجاد (ع) على هذا الجانب وقد تمثل ذلك في برامج الوعظ والإرشاد التي كان يقوم بها الإمام في المسجد وأماكن تواجد الناس، وكذلك بالدعاء والابتهال إلى الله عز وجل والتي نتج عنها الصحيفة السجادية العظيمة. يقول الإمام السيد محمد باقر الصدر في تقديمه لها: فقد استطاع هذا الإمام العظيم بما أوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنية ربانية تتفتق عن أروع المعاني وأدقها في تصوير صلة الإنسان بربه ووجده بخالقه وتعلقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات. فاستطاع أن ينشر من خلال الدعاء جوًا روحيًا في المجتمع الإسلامي يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات، وشده إلى ربه حينما تجره الأرض إليها(8).

كان يخرج في الليل ويصلي لربه ويدعو وهو يبكي ويضج ينادي: الهي لا تؤدبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندك؟ ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلا بك؟ ثم يقول: أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملاء. أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيده اجترى، أنا الذي عصيت جبار السماء... الهي أعني بالبكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري، وقد نزلت منزلة الآيسين من خيري. فمن يكون أسوء حالًا مني إن أنا نقلت على مثل حالي إلى قبرٍ لم أمهده لرقدتي، ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي؟ وما لي لا أبكي، ولا أدري إلى ما يكون مصيري؟ وأرى نفسي تُخادعني، وأيامي تُخاتلني وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت(9)... هكذا كان يدعو ويتضرع لله عز وجل، ويبكي ويغمى عليه من شدة بكائه والناس تراه وتتأثر به، كيف لا وهم يعلمون مدى إحسانه وقربه من الله، وهو سبط رسول الله (ص) ومستحق لشفاعته ومع ذلك يبكي بهذا الشكل ويجهد نفسه في عبادة الله، ورغم ذلك يعترف بالتقصير لله!

ومما يدل على تقبل الناس لبرنامجه، وتأثرهم بشخصيته واحترامهم له، ما يرويه التاريخ من التفاهم حوله، واحترامهم وتقديرهم له، فتلك القصة المشهورة حين أتى عبد الملك بن مروان يريد استلام الحجر الأسود في الحج ولم يستطع لكثرة الحجيج وازدحامهم فخرج يستريح على كرسيه، وإذا به يرى شخصًا تنفرج له الناس وتفسح له الطريق حتى يسلم الحجر، تعجب وسأل من هذا؟ فقيل له هذا علي بن الحسين. وكانت للفرزدق قصيدة جميلة في هذه الحادثة والتي كان يقول فيها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته                 والبيت يعرفه والحل والحرم

وليس قولك من هذا؟ بضائره                   العُربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجم

ويقول سعيد بن المسيب: إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب.

هكذا كان سلام الله عليه يهتم بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل وقد جعل لكل وقت دعاء، فهناك أدعية للأيام، وهناك أدعية للصباح والمساء. أدعية تعرّف بالحقوق كحق الوالدين وحق الأولاد. ودعاء لمكارم الأخلاق والتربية والذي يقرأ في الصحيفة السجادية ينهل منها الكثير، ويتزود منها الكثير ليوم المعاد.

البكاء على السبط الشهيد (ع) برنامج روحي:

ومن برامجه الروحية أيضًا توجيه الناس لتذكر مصاب أبي عبدالله الحسين (ع) لما في البكاء من ترقيق للقلوب ولما للبكاء على أبي عبدالله الحسين الشهيد (ع) من أثر عظيم في النفس. كان كل مشهد يراه يذكره بكربلاء فيبكي حتى عدّ خامس البكائين: وهم آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بن محمد (ص) وهو سلام الله عليه كما يروى عن الإمام الباقر (ع)، وقد كان يقول: «ولقد كان (ع) بكى على أبيه الحسين (ع) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: يا ابن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟

فقال له: ويحك، إن يعقوب النبي (ع) كان له اثنا عشرة ابناً، فغيب الله عنه واحداً منه، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حيًا في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟».

مرّ ذات يوم على قصاب وسمعه ينادي اسق الشاة. فسأله عن ذلك؟ قال له يا ابن رسول الله: إنا لا نذبح الشاة حتى نسقيها أولًا. اختنق الإمام بعبرته ونادى:

لا تذبح الشاة حتى تروى من ضمئٍ   ويذبح بن رسول الله عُطشانا!

سمع ذات يوم رجلًا يقول: أنا غريب. فناداه سأله: أمحتاج أنت؟ قال: لا. قال: أتشكو شيئًأ؟ قال: لا أعز الله المسلمين ولكن أشكو بعد الدار والأهل والغربة. قال (ع): ما أنت بغريب إنما الغريب ذلك الذي ترك على بوغاء كربلاء ثلاثة أيام وهو ابن سيد الأنبياء!

وسأله أبو حمزة الثمالي عن بكائه يومًا: يا ابن رسول الله أوليس القتل لكم عادة وكرامتكم من الله الشهادة؟

قال: نعم، ولكن هل قتل الأطفال لنا عادة؟  وهل سبي النساء لنا عادة؟ يا أبا حمزة والله كلما تذكرت فرار عماتي وأخواتي تخنقني العبرة.

وهكذا ظل (ع) كل شيء يراه ترتسم في عينه صور كربلاء الأليمة، فيبكي ويحث على البكاء على سبط رسول الله الحسين بن علي (ع).

النقطة الثالثة: مصادر البرامج الروحية

من يتأمل واقع مجتمعاتنا المسلمة، وما طرأ فيها من تغيرات واضحة وخطيرة، يعي بأنها بحاجة ماسة إلى إنقاذ ومعالجة سريعة. مجتمعاتنا تحتاج إلى منهج الإمام زين العابدين (ع) في بث روح المنهجين الفكري والروحي في المجتمع. لأن العبادة بدون فكر وعلم لا تنفع، هذان الجانبان مرتبطان ببعضهما بعضًا. ولا نقصد بالجانب العلمي الفكري هو ذلك العلم والفكر الذي نأخذه من المدارس والجامعات فقط مع أهميته، ولكنا بحاجة إلى ترسيخ علوم الدين ومبادئه وآدابه في نفوس الشباب أيضًا حتى يكون على بصيرة من أمره.

أما الجانب الروحي فيتمثل في عدة أمور، ويؤدى بشكلين: شكل جماعي وشكل فردي ولكل شكل ميزته والجمع بينهما أفضل. حيث يحتاج الإنسان أن يؤدي طقوسه الدينية مع الجماعة كما يحتاج أن يختلي بنفسه مع ربه. ومن البرامج الروحية نذكر:

ـ الصلاة وهي الرابط بين العبد وربه، وينبغي الاهتمام بمظهر صلاة الجماعة وحث الشباب لحضور المسجد، وكذلك الإهتمام بالنوافل سيما نافلة الليل، سيما ليلة الجمعة فهي ليلة عظيمة ومن الجميل أن يتخذها الإنسان محطة يتزود منها روحيًا، ففي الخلوة مع الله يشعر الإنسان بسمو نفسه، وصفاء سريرته واعتدال منهجه.

ـ ذكر الله تعالى في كل وقت، فذكره يبعث الطمأنينة في النفس، كما في قوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(10).

ـ الدعاء كما تقدم وعندنا كنوز كثيرة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ولكن علينا أن نستفيد منها، ونتبع منهج سيد الساجدين سلام الله عليه. قبل عدة سنوات شكّل أحد الأفاضل وهو الشيخ خالد السيف برنامجًا جميلًا ليلة الجمعة حيث كان يقرأ دعاء كميل بشكل مميز، بحيث هيأ جوًا روحانيًا جميلًا كان محل إعجاب جيل من الشباب الذين كانوا يهتمون ويواظبون عليه بشكل مستمر، وقد انتشرت طريقته في مناطق كثيرة. نحتاج أن نهتم من جديد بهذا البرنامج وأن نخلق برامج جديدة.

ـ حضور مجالس العزاء التي تقام على أهل البيت عليهم السلام فهي تمزج بين الجانب الفكري العلمي والجانب العاطفي الروحي. وبما أن مجتمعنا يعاني من انفلات وغياب كثير من مبادئ الإسلام وآدابه فعل الخطباء والوعاظ أن يركزوا على هذا الجانب بالأسلوب الذي يستهوي السامع ويؤثر فيه.

وهناك بلا شك مجالات أخرى علينا أن نبحث عنها وأن نفعلّها كالانخراط في الأنشطة الاجتماعية. ونسأل الله التوفيق للجميع.

............................................

(1) كلمة مجلس العزاء بمناسبة وفاة الإمام زين العابدين (ع) الذي قرأته في مدينة نيوكاسل بأستراليا.

 (2) سورة المائدة، الآية 2.

 (3) سورة الأنفال، الآية 46.

 (4)موقع سماحة الشيخ حسن الصفار. الوصلة التالية:

http://www.saffar.org/?act=artc&id=2070

 (5) تقرير للأستاذ ماجد الشبركة، شبكة التوافق.

 (6) سورة الأنعام، الآية 108.

 (7) صحيفة زينُ العابدين الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام. باب تقديم الإمام السيد محمد باقر الصدر، أطياف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1428هـ ـ 2007م. القطيف ـ السعودية.

 (8) نفس المصدر السابق.

 (9) مقاطع من دعاء الإمام زين العابدين المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.

 (10) سورة الرعد، الآية 28.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 13/كانون الثاني/2010 - 27/محرم/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م