إذا أردنا فهم ماهية الشخصية الروائية وما هو دورها ووظيفتها في
الأدب وفي حياتنا علينا تجنب جعلها موضع جدل أكاديمي و نظري أو
أيديولوجي محض: بل ينبغي علينا أولا العودة إلى تجربة القارئ. فماذا
يقول قارئ الرواية؟
انه يقول ويكرر هذا الذي هو » فلسفته« العفوية وتجربته الأثيرة،
وان بقيت مضمرة وتقريبا غير مصرح بها بان الرواية هي وريثة الملحمة
لذلك فهي مكرسة لبطل ما، و بأن كل رواية تحمل و بشكل واضح أبيات فرجيل
في مستهل قصيدة الانيادة* (أني انشد للمعارك وللرجل الأول القادم من
تخوم طروادة...).
ان تجربة القاريء غير قابلة للجدل.ان لم تخلق الشخصية الأحداث و ان
لم تكن هي دائما المسبب التلقائي لها و المسؤول عنها فهي المركز الذي
تدور حوله هذه الأحداث. اما الكتاب فهو، في نظر القاريء، المكان
للحوار الخفي بين شخصين وهما السارد و الشخصية، السارد الذي يبقى في
الظل و صنوه الذي يتألق على مسرح الأحداث ألا وهو الشخصية الروائية.
ليس للشخصية الروائية خارج النص أي وجود حقيقي ملموس بلا أدنى شك،
و القاريء يعلم ذلك!. لكن حياتها الوهمية تستمر في الامتداد داخل لحظة
التأمل و لحظة استحواذ النص على القاريء و لحظة » إعادة الخلق « (refiguration)*،
حين تتحول الكلمات المكتوبة الى نتاج من خلال نشاط القارئ و دعمه و
إسناده الفعالين و المؤثرين.
إذن لا نشك بأن الشخصية تعيش و تستمر على العيش، و حينئذ تظهر
الرموز الأسطورية الكبيرة التي لا يستطيع أن يمر بها الإنسان لا في
حياته العامة و لا الخاصة و لا في ذروة نشاطه ولا حتى في قرارة نفسه.
ومثلما يقول هنا فرانسوا مورياك: جميع قراء الرواية يعرفون بان مهمة
شخوص الرواية هي » أن يجعلوا القراء يكتشفون أنفسهم و أن يٌظهروا لهم
المفتاح الأخير للغزهم الخاص «.
إذن يجب عدم التخوف من الرجوع إلى تجربة القاريء بغية فهم طبيعة
الخلق الأدبي. لان الأدب ليس العلم. فان لم يستطع الفكر العلمي أن ينمو
ويتسع و لم تستطع الاستكشافات العلمية أن تحدث إلا على حساب التجربة
العادية، ففي المقابل فان التجربة الأدبية تنطوي على مطلب وحقائق ضمنية،
سرية وأساسية. بيد انه و بسبب هذا المطلب وهذه الحقائق هوجمت النظرية
الأدبية في الستينيات من القرن العشرين. وقد عَدت مختلف التيارات
الشكلانية في الستينيات»الشخصية« كبقاء مهتريء و كبقايا لحالة سابقة
للرواية، فقد كانت موضوعا لرفض لاذع من القوى الممثلة للأدب.
فلماذا صوب الشخصية يتجه هذا الهجوم كله؟
هذا الجدل، كان عتيقا، إلا انه يكشف عن شىء، فهو يُقر في الحقيقة بـ
»الإلحادية الأدبية« للجيل كله: الشخصية و السارد ليسا سوى » أشكال
ورقية «، و الفن ليس له وظيفة تمثيلية، و الموضوع لا يمثل سوى وروده في
القصة: أي نتاج خالص للتراكيب البنيوية. أما صورة الشخصية التي فككها
نقد الإنسانية البرجوازية لم يعد أمامها إلا التلاشي. كانت هذه الصورة
عابرة ولم تكن سوى حلقة في سلسلة.
و يصاحب صورة الشخصية هذه، وهذا من الطبيعي، »التحليل النفسي« الذي
أصابته أللعنة و التي كانت لا تزال ملازمة له، و القصور في ذلك يعود
إلى الرواية الهابطة و إلى أسلوبها البالي في التحليل النفسي و إلى
تقليدية هذه التحليلات. و من المفرح ان التحليل النفسي ينبهنا إلى »إننا
كنا نفكر حين لم نكن موجودين و إلى إننا لم نكن موجودين حين نفكر«.
لكني أخشى أن لا يهدف هذا الإنكار الذي يميز كل تحليل نفسي، في
الحقيقة و بشكل قاطع، إلا لرفض الفرضية القائلة بان الإنسان هو كائن حر،
يفكر في حياته من اجل السيطرة عليها، وفي الوقت نفسه يجد في الرواية
المرآة التي تعكس انفعالاته، والطريق المعتم لحقيقته، والفرصة التي
يجرب فيها أشكالها.
فالجدل الذي دار حول الشخصية هو في ظاهره ليس سوى جدلا أدبيا، ولكن
في الحقيقة هو أكثر من ذلك، فالمسائل الأدبية التي تخص الأدب هي في
جوهرها مسائل واسعة فلسفية ووجودية. ولكن، و ليس هذا من باب اثارة
الدهشة، الشخصية تقاوم. ذلك ان الروائيين، وليس فقط بعض البلزاكيين
المتأخرين، من بلزاك الى بيرانديلو ومن مورياك الى كونديرا لا يخشون
اليوم في الفكرة التي يكونوها عن فنهم من القول أن انبثاق الشخصية هي
لحظة حاسمة في الخلق الأدبي. يوجد بلا شك الكثير من التفاهة في حديث
الروائي الذي يعلق أمام كاميرا التلفزيون و بتواضع و بإسهاب على مقالب
شخصيته التي نُشِرت مؤخرا كالأم التي تتحدث عن مقالب ابنها الأكبر. لكن
أيضا أي موقف تأملي نجده في صورة بيانشون الواقف بالقرب من فراش موت
بلزاك، أو في صورة بيرانديلو الذي يجد كل مساء في ظل مكتبه » شخصياته
الست« الثابتة و الهادئة و الغاضبة.
إذن ممن تولد الشخصية؟ يبقى ذلك لغزا خفيا، فعند كونديرا تُخلق
الشخصية من اللاشيء، من تبدلات في الذات، من حركة (كما في شخصية» آن
Agnès «في رواية » الخلود « L'Immortalité)، أما عند مورياك فانها
تولد من ذكريات غامضة (مثل ذكرى المرأة النحيفة المتهمة بدس السم و
المحاطة برجلين من الشرطة)، أما عند بيرانديلو فأنها تولد من مأساة
غامضة تُطالب كل مساء ان تُحمل إلى ضياء النهار.
لكن الشخصية موجودة وهي تمارس نوع من الالتماس المشوش، المرتبة
الأولى من هذا النداء لكينونة هذه الشخصية نفسها التي سوف تغمر القارئ
لاحقا. لان بعض من هذه المخلوقات، كتب مورياك، » تدور حولنا كما لو
أنها لم تقل كلمتها الأخيرة بعد، وكما لو أنها تنتظر منا أن ننجزها«.
الشخصية تقاوم، فعلى الرغم من أنها تخضع إلى اعتى عمليات المحو الهدامة
و إلى أقوى الضغوطات المُحلِلة و أنها مجردة من الهوية ومن أوراق
الأحوال المدنية و حتى من جسدها لكنها تقاوم. رغم تحولها، عند كافكا،
إلى مجرد حروف أولى من اسم،و عند بيكيت إلى فم مفتوح على خلفية مظلمة،
وعند كالفينو في رواية »كوزميكمويكس « الى هذه الحروف المتعذر لفظها "
Qfwq"، لكن الشخصية تستمر في البقاء، فهي موجودة تمارس سحرها ووظيفتها
و سلطتها.
هل نكون اقل انتباها و حضورا و تأثرا حين نكون داخل إحدى روايات
بلزاك أو تولستوي؟
عندما تقوم شخصية تدعى » جوزيف كي Josephe K. «[1] و التي لا
نعرف عنها في الحقيقة أي شىء و التي تواجه ذلك الرعب و الإرهاب الذي
سنقرأه، بربط أنفاسنا بل وربط حياتنا بطريقة أو بأخرى بتلك الحياة التي
تترنح وتموت:
(وقعت أنظاره على الطابق الأخير للمنزل الملاصق للمقلع، وبلمح البصر
فُتحت مصراعي النافذة هناك في الأعلى، وبدا من تلك المسافة ومن ذلك
الارتفاع رجل شديد النحافة والضعف، انحنى بسرعة من الخارج مادا يديه
إلى الأمام. من يكون هذا الرجل؟ هل هو صديق، إنسان طيب؟ (...)، رفع
يداه و باعد بين أصابعه، لكن واحدا من أولئك السادة امسكه من رقبته
فيما راح الآخر يغرز سكينه في قلبه ثم يخرجها ليطعنه مرة أخرى. أما »جوزيف
كي« ظل يراقب، بعينيه الموشكتين على الموت، الرجلين اللذين انحنيا قرب
وجهه ووجهيهما متلاصقان و اللذين راحا يراقبان تلك النهاية...)
توضح لنا مقاومة الشخصية هذه طبيعة ووظيفة القصة ذاتها، يجب ان نقول
و نكرر القول: بان هناك علاقة أو رابطة دائمة بين الرواية و الشخصية،
فمن يطعن بالأولى لا يسعه إلا أن يطعن في الثانية. لماذا؟
يجب علينا ان نعود إلى الفكر الفلسفي الذي نشأ مع » الفن الشعري«
لأرسطو. فجوهر الحكايات الملحمية الخيالية والدرامية، بحسب أرسطو،
يرتبط بشكل وثيق ببناء الحبكة وببزوغ الشخصية. إن التصوير الأدبي يرتكز،
حسبما نتذكر ذلك، على تنظيم الأحداث، أما محاكاة الواقع » mimésis «
فهي ليست باستنساخ للواقع و لا تقليده، بل إعادة تصويره. لان هناك،
بشكل ضروري، نقلٌ و تغييرُ و مسخ ُ عندما ننتقل من الأجساد البشرية إلى
الأجساد غير المادية للكلمات، من عجينة الأشياء إلى العجينة التصويرية.
إذن محاكاة الواقع » mimésis « هي عملية تحول، إذ تُستبدل الأشياء
الغائبة (غير الموجودة) ببدلائها، برموزها التي هي الكلمات، العلامات
و العبارات. هذا التحول او الانتقال هو الذي يعمل على إظهار أو بزوغ
الهيئات او الأشكال، فإعادة تصوير الشيء هو منحه شكلا، فمحاكاة الواقع
» mimésis « (و الكلام لازال لأرسطو) تهدف إلى تشكيل » « un muthos،
حبكة،تكوين، ترتيب و نظام.
فمن خلال عملية منح الشكل هذه تمارس محاكاة الواقع مقصدها الذي يهدف
إلى فهم معنى أنشطتنا وعواطفنا. يقول أرسطو يوجد هناك ميل و نزعة لدى
الإنسان للمعرفة و الاكتشاف و لاستبدال النظام محل اللانظام في مجال
سريان الحدث. فلديه الميل لجعل الحدث الذي يأتي أولا سببا و الحدث الذي
يأتي بعد ذلك نتيجة. « post hoc ergo propter hoc »، يالها من معجزة!
فهاهو تدفق الزمن يتحول إلى نظام عقلي و يتحول التسلسل الزمني إلى
منطق. أحداثٌ بلا نظام، بلا بداية و لا نهاية، سريانٌ مطردٌ للأحداث،
موتى بلا سبب و عذابات ليس لها حد و لا تتمة، و لكن و بفضل البناء
الدرامي و السردي و الملحمي وإذا بالتتمة تظهر و كل شيء يأخذ موضعه في
الترسيمة الواسعة التي يمليها فكر و إرادة الشخصية أحيانا و غالبا ما
تكون من صنع السارد الذي يبلور القدرة التنظيمية للعقل بدءا من مادة
خام (واقعية أو خيالية، مٌختلقة أو تاريخية).
لكن هذا النظام لا يسري على لاشيء، بل يسري على مادة محاكاة الواقع
» mimésis «، نقطة انطلاق العملية التحويلية، التمثيلية، وما هذه
المادة إلا أنشطة الناس و عواطفهم، ومثلما لا توجد أنشطة بلا » فاعلين
« فلا يمكن لمحاكاة الواقع امتلاك أنشطة بلا فاعلين أو محركين. ومن هنا
فان مكان الشخصية يُستنبط آنيا ً، في المعنى الفلسفي للمصطلح. لكن
الشخصية هذه لا تُنتج من نمط معروض سلفا ً أو محدد مسبقاً بل تصنعها
أنشطتها الخاصة. فضلا عن هذا فأن الشخصيات لا تحمل عند أرسطو إلا اسم »الفاعلون«.
أما »الفاعلون« فهم أولئك الذين يمارسون فكرهم في العالم: وهذا ما
يدعى بالنشاط، ولكن المعنى من أنشطتهم لا يبدو على الدوام واضحا لهم،
أما دور الخيال الملحمي و الدرامي هو إبراز هذا المعنى وذلك بوضع هؤلاء
الفاعلين تحت دائرة الضوء الذي ينيرهم وما هذا الضوء إلا السرد.
ومابين » البطل «عند هوميروس و» الشخصية «عند بلزاك أو » الشكل بلا
جسد و لا جنس « في السرد الحديث تبقى الشخصية » بين عالمين «. هذه
الشخصية، صورة خلقها والمحصلة للتجربة الخيالية او الواقعية للمؤلف و
للتنسيق " المحاكاتي " لأنشطته تصل إلى القارئ كما لو أنها معروضة
عليه لتنجز.
وللوصول إلى هذه الغاية يتوجب على المؤلف نفسه التحول إلى كائن آخر
من كائنات الخلق الخيالي، إلى كيان من فكر ألا وهو السارد الذي يخلق
نفسه وفق النظام ذاته الذي يفرضه على أشيائه.بمعنى آخر أن المؤلف يتحول
إلى إحدى الشخصيات في روايته نفسها، فهو يضع نفسه هو الآخر (بين
عالمين) بين عالم الخيال والعالم الحقيقي الذي لا يزال ينتمي إليه،
وعلى هذا المنوال سوف يدخل القاري اللعبة لاحقا. يسري الحدث تقوده
اليد الخفية والفكر الأكيد للسارد.
تتلمس الشخصية طريقها ثم تتقدم في الظل، تضيع و نضيع معها، لكننا
ندرك أن نجدة ً ما قادمة وان كلاما ً يُقال خفية سوف يُسمع: انه صوت
السارد. أن هذا السارد، الذي يدع كل شيء يسري على هواه ثم لا يلبث أن
يتدخل، لن يقدم إلى مخلوقاته بإسم الحرية إلا خليط من الاستقلالية
النسبية والعبودية المُراقبة. لكن القارئ لا يشعر بالسرور الكبير إلا
حين يشهد ذلك التصادم بين الحريتين غير المتكافئين وإلا حين يشارك في
الحوار الخفي أو الصريح بين السارد وشخوصه.هذا التصادم بين الواقع
والخيال الذي ينتابنا أثناء القراءة هو جوهر الخيال الدرامي أو الملحمي،
هو خدعة ٌ تصب بكاملها في مصلحة الإبداع الروائي ومتعة القارئ و تصب
كذلك في مصلحة سير الخلق الأدبي.
فجوهر الموضوع يكمن هنا في ان المناوبة يمكن ان تتم، وعلى القارئ
الآن التحرك، فالفكر سيطر على موضوعهِ، و على الأفعال و العواطف و كوّن
منها التصوير المناسب الذي يجعلنا قادرين من خلاله على سماع صوتنا و
محاولة كشف لغزنا الخاص. يُضاف إلى فهم المسببات إذن التخفيف من
العواطف بمرورها بمصفاة العقل.
إن هذه الظاهرة هي ما أطلق عليها أرسطو (تطهير النفس Catharsis).
التي تتضمن عمليات إبعاد و بناء و توضيح للتنوع الذي لا نهاية له و
المبهم والمدمر لعواطفنا. و عند ذلك نفهم كيف أن عدم وجود الشخصية أو
عدم بناءها يجعل من المستحيل حدوث التطهير أو بمعنى أوسع يمنع ذلك
عملية أعادة التصوير أو عملية تطبيق الخلق الخيالي على عالمنا، و بمعنى
آخر يمنع عملية القراءة.
إذن عملية (تطهيرالنفس Catharsis) ليس بوسعها الاستغناء عن الشخصية.
فذلك لغزٌ وواقع ٌ، لأننا بحاجة من اجل ذلك (للإسقاط النفسي)*
والانتقال والتقمص. ولكي نجعل من عملية الخيال الإبداعي تعمل يجب علينا
أن نؤمن بوجود الشخصية التي تُختَصر فيها وتتمحور حولها الأحداث التي
تنظمها القصة.
أن اشتغال النص ذاته يتطلب ذلك: فحقيقة هذا الاشتغال ملزمة المرور
بصور من كلمات، وحياة المؤلف ذاتها وروحة ملزمة أن تتجسد حيّة ً على
الورق الذي يعكس حال الكاتب نفسه و الذي ينقذه ُ في الوقت عينة. ماذا
يعني لنا اليوم (توماس مان Thomas Mann)*، أن لم يكن ذلك الصوت
اللامادي، لكنه الحاضر، الذي وصل ألينا عبر الزمن حينما نقرأ نهاية
رواية (موت في البندقية Mort à Venise La)؟:
(لقد بدأ لأشنباخ أن الـ '' طبيب النفساني " الشاحب و المثير
للشفقة كان يبتسم له هناك، وكان يشير إلى البحر الكبير. كما بدا له
بأنه يبعد يدهِ عن وركه ويؤشر بإصبعه تجاه الأفق البعيد، و ينطلق
سابقاً غيره، كالظل في الفراغ الهائل المليء بالوعود).
تجعلني الشخصية، بدوري، ادخل إلى عالم التحولات الكبير. فبواسطة
الشخصية تستطيع الرواية أن تكون تجربة عن العالم وذلك حين تجبرني، أنا
القاريء،على التحول بدوري الى كائن خيالي. فعندما اقرأ، استسلم، أنسى
نفسي، أقارن نفسي، استغرق و اغفر لنفسي. وعلى هذا المنوال أتحول إلى (آخر)
نسبة الى صورة الشخصية. و مثلما يقول آراغون Aragon: " لا يكفي للإنسان
أن (يكون)، عليه أن يكون(آخر) " [2]
أكون(آخر) من خلال تأملي للشخصية و أكون (آخر) لكي أعود إلى ذاتي، و
حين أمر بلحظة غيابي الخاصة و حين احرم نفسي من نفسي، أستطيع حينها أن
افهم ما تكون عليه حياتي، وهذا ما يدعوه سارتر " إيثار القاريء": من
خلال هذا الموت المصطنع و هذا التحول المؤقت اصل إلى المعنى و ابلغ
الإدراك. و بفضل هذا الخيال القصصي، يبدو كل واحد منا كما لو أنه يحمل
رؤوسا عدة على أكتافه و يتحول إلى روح ٍ مفتوحة ٍ و قلب ٍ متجدد ٍ. هل
هذا يعني أن قراءتنا المهلوسة هذه تجعلنا ننسى بان الشخصية ما هي إلا
كائن وهمي و تجعلنا نؤمن بوجودها خارج النص؟
الشخصية تعيش بلا شك لكننا نعرف تماما أية حياة تعيشها، انها حياة
الوهم لا أكثر و لا اقل. ولكي نعرف ماهية هذه الشخصية لا يكفينا القول،
مع فاليري، بان تمثال » فينوس دي ميلو« ليس لديه لا كبد و لا شرايين.
لكي ندرك معنى الإيهام السردي، المحرك الذي لا غنى عنه لاشتغال الرواية،
لايكفينا أن نصرخ: ماذا! الشخصية غير موجودة! بل على العكس!
لان الشخصية موجودة: لكنها موجودة في الخيال، في حالة وجود وهمي.
مثلما الملك (لير) " موجودا " على المسرح لكنه وجود مسرحي.ان ظاهرة
التصديق الروائي هي من طبيعة ظاهرة الإيهام الكوميدي، أي الإيهام
المسرحي.فالأشياء على المسرح هي في الحقيقة موجودة وغير موجودة، فأرض
الملك(لير) ليست في واقع الأمر غير (أرضية) مغطاة بالحديد أو أية أرضية
بسيطة أخرى. أما (لير) نفسه فماهو إلا ذلك الرجل المتعب الذي ربما
تصادفه في الغد في الشارع أو في أروقة المترو. لكن اية قيمة حقيقية
سيمثلها الحمال، وأي دور اجتماعي سيلعبه ذلك الذي يصرخ وسط المسرح: انه
ليس غاليلو غاليلي! انه رولان بيرتان!، انه شارل لوتون!
ان الإيهام المسرحي يفترض قبول التصديق الوقتي بالأشياء الوهمية،
فيجعل من كل عملية فتح عيون إرادية بلا جدوى. لان هذا الممثل الواقف
أمامي هو (الملك لير) عينه، وان خشبة المسرح هذه هي (ارض الساحرات)،
مثلما كانت بالأمس تمثل بناية (قصر ڨرساي) حيث سيليمن Célimène تنتظر
آلسيست Alceste، او كانت تمثل بلاط تريزين Trézène حيث تقتل فيدرا
Phèdreنفسها من اجل هيبوليت. Hippolite
هل الشخصية مجرد كائن ٌ ورقي ٌ؟ هيا كفى! انها تعيش اقل منا لكنها
في الواقع تعيش اكثر منا، لأنها تبقى على قيد الحياة و بلا فناء.
ومثلما يقول بيرانديلو Pirandello[3] في مسرحية» ست شخصيات تبحث عن
مؤلف«:
(ان الذي يحالفه الحظ ليولد شخصية سوف يسخر من الموت، لان الموت لن
يطاله!. الإنسان سوف يموت و الكاتب، الأداة لخلق الشخصية، سوف يموت،
بينما الشخصية لن تمت أبدا! وهي ستعيش دون الحاجة لمواهب خارقة أو
معجزات. من كان سانشو بانشا Sancho Pança؟ من كان دون ابونديو Don
Abondio؟ ومع ذلك هم عاشوا خالدين، لأنهم بوصفهم أجنة حية وجدوا رحماً
خصباً، وهو ذلك الخيال الذي عرف كيف يكتنفهم ويغذيهم ويجعلهم يعيشون
إلى الأبد!).
أن الأسئلة التي تجتهد الرواية بلا كلل للإجابة عليها هي أسئلة
أخلاقية وميتافيزيقية وهذه الأسئلة يمكن أن يختصرها جميعاً السؤال "كيفَ
نعيش؟" الذي يطلقه على نفسه كل إنسان وسط تطلعات ٍ مرتبكة في وجود
ينفتح على الحقيقة ويصبو إلى الحرية.
هناك القوة و الضعف، الإهمال و الهجران، الاتفاقات و اللقاءات و
النهايات السعيدة. ماذا يعني السلوك؟ ماذا يعني ان يكون المرء حرا ً؟
وكيف له ان يكون حراً؟ ماذا يعني ان يكون خائفاً وماذا يعني انه لم يعد
خائفاً؟
العيشُ ليس محزنا بل هو مأساوي وهو لا يعني الإجبار و لا السخرة،
والعيش يجب ان لا يكون واجباً بل سعادة ً: العيشٌ هبة ٌ و نعمة ٌ. لكن
الألم يأتينا من مرأى القوى التي تتصارع من اجل سحق (الحياة) بذريعة (العيش).
ان الجزء الأكبر من الوجود يمر عبر وسائل حفظ البقاء. انه بقاء الفقراء
في كالكتا المحاصرون بالبؤس، وبقاء أولئك الذين يجتازون المدن الكبرى
كل صباح عبر الأنفاق من اجل الانزواء في الظل ليس من اجل القراءة أو
التأمل،الذي قد يكون الوسيلة الوحيدة لنسيان مؤقت لضوء العالم المقدس،
بل من اجل إملاء قوائم الحسابات ووضع أصابعهم على أزرار الآلات
الالكترونية.
اين يكمن معنى كل هذا؟ ومن المهتم بذلك؟ هل هو العلم أم التقنيات
أم العلوم الإنسانية؟ أم هي الملاهي الآلية ذات التعّرفة؟ أم الدوران
الالكتروني للصور الكونية؟
كلا، لا هذا و لا ذاك، إن من يهتم بذلك كله هو الفكر الحي للوجود "
علم الحياة " الذي تختزله ُ " الرواية "، القصة و الأدب، هذا ما يقوله
في آن معاً دون علمهم،كل من هيميتو فون دوديرير Heimito von
Doderer في "الأبالسة" (les Démons)وفرانسوا مورياك في كتاب "الروائي
و شخوصه".
لأنه في الرواية فقط وليس قي أي مكان آخر يستطيع الإنسان أن يتكلم
بوصفة إنسانا: بوصفه فاعلاً وبالتالي هو متفرداً، هشاً فانياً، غير
مسؤولأ و غير قابل للاستبدال، وحيدا الى الأبد.
السؤال إذن: آلا نرى حجم الخسارة إذا ما اختفت رموز القصة من على
ضفاف العالم؟ آلا نرى لماذا يتوجب علينا الحفاظ على عوالم الرواية و
القصة والسرد حية ً، وبذلك الحفاظ على شخوصها حية ً، تلك الشخوص،
الضمان الأكيد لإمكانية عودتنا إلى ألذات؟ ولكن، من اجل إتمام المهمة،
ينبغي المرور بمنعطف الإيهام الروائي. هو كذلك انه قانون الخيال:
من اجل أن تستطيع الرواية من التقدم في السلسلة اللامتناهية
لتحولاتها وان تكون المكان الذي يتعقد فيه المعنى لقضية ما، يجب
التصديق بوجود الشخصيات المتعاقبة التي يتجسد فيها قلقنا. من خلال هذا
التصديق الذي نمنحه للرواية، ومن خلال مثلبة (الكينونة) هذه التي
نتحملها من اجل منح شخوصها أجسادا، فان الرواية بوصفها مرآة لمطلب
لحياة منعكسة، هي قادرة إذن على وضع الأفق الأخلاقي المحتمل لأفعالنا
في إطار لغوي.
الحقيقة الروائية هي ذات طابع عادل: الدقة و العدل. جاء الأدب هكذا
لتحقيق هذين المطلبين، الحياة مع الفكر و الحياة في الحقيقة. ان الدرس
الذي يسدية الأدب يتجسد في النصوص الكبرى التي نعرف منها القائمة
الأسطورية التي علمتنا إياها (المدرسة) و التي رسخت في ذاكرتنا في
البدء من خلال ما نتذكره من شخصياتها على امتداد البعد التذكاري
التفخيمي للإيهام الملحمي. لهذا السبب نرى تفوق الكتب الكبيرة على
الأخرى ونرى هذا الإقبال عليها: وذلك لتمزيق الستار الزائف من الأكاذيب
و المظاهر الخداعة الذي تحيكه حولنا و حول تجاربنا القصص المسلسلة
المتواضعة و الروايات الهابطة.
إن الأدب يؤكد،على الأقل في(الكتب الكبيرة)، بأنه لا يوجد وجود ممكن
بلا أفق ٍ أخلاقي، أو بالأحرى يُثبت بالبرهان و التجربة، بان كل الناس
يحددهم الأفق الأخلاقي سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوه. فالأدب يتفحص
الأنظمة المتعددة لمرجعية الحياة المستقيمة، لإخفاقات الحياة و
تناقضاتها، لحلولها وعقباتها، وهو يقدم بذلك عدد من المعايير والمؤشرات.
والأدب لا يتوقف عن إجراء التحليل المعمق، اللامنتهي و غير المحدود
وذلك بعرضه عدد لامنتهي و غير محدود من هذه المرايا لأرواحنا الممزقة:
وما هذه المرايا إلا شخوص الروايات.
* كلية الآداب ـ جامعة الكوفة
alashatnan@yahoo.com
.............................................
* دانييل سالناف Danièle Sallenave
من كتاب(الروائي و شخوصة)ـ دار اكوراـ باريس ـ 1994
François Mauriac Le romancier et ses personnages -
Traduction & préface: Ala Shatnan Aieze
.......................................................
* الانياده: قصيدة ملحمية للشاعر فرجيل تتألف من 12
نشيد (29-19 قبل الميلاد) , احتلت هذه الملحمة عند الرومان المكانة
نفسها التي احتلتها الألياذه و الأوديسيه عند الإغريق.(المترجم)
* (هذا التعبير يعود لبول ريكور Paul Ricoeur)
وهو فيلسوف فرنسي ولد في فالينسيا عام 1913ينطلق في منهجه الفلسفي
من النظرية الظاهراتية , من مؤلفاته " في التأويل" وهي دراسة حول فرويد
عام 1965. (المترجم)
[1] - جوزيف كي Josephe K. شخصية كافكا في رواية
" القضية" Procès (المترجم)
* الإسقاط النفسي: عملية يعكس بها الفرد ألوان نشاطه
في شخصيته ذاتها. (المترجم)
* توماس مان Thomas Mann: كاتب ألماني
(1875-1955)، تعد روايته (موت في البندقية) من اشهر أعماله حاز على
جائزة نوبل عام 1929
[2] -théâtre / roman))
[3] - بيرانديلو Pirandello(1867-1936): كاتب
مسرحي و روائي ايطالي تميز بأسلوبه الواقعي، حائز على جائزة نوبل عام
1934. (المترجم) |