معيوف كفيف البصر، ومن عاداته الخيرة المواظبة على حضور صلاة
الجماعة من يوم الجمعة في أحد جوامع المنامة المحاذي لمسكنه.. ثم انقلب
فجأة كل المنقلب على هذه العادة ليسجل موقفا بديلا عنها أثار به حفيظة
علمائه من "السلفية" و"الإخوان" على حد سواء في منطقته.
في ورشة نجارة على جانب غربي من شارع قاسم المهزع دارت "هدره" بين
معيوف وصاحب الورشة الحاج رمضان خلف طاولة "بسطة شاي العصر".. يتساءل
الحاج رمضان مستغربا: يا معيوف.. إنته ويش جيّبك إلى حسينيتنه أمس
الجمعة وعندك الجامع الكبير غاص بجماعتك؟
يجيب معيوف والألم يعتصر قلبه: تدري يا رمضان، أنا دخلت النار ثم
الجنة في أسبوع!..لا تعجب لذلك..القصة وما فيها يا حاج هي بين أن
تستعيذ بعد نذير شؤم أو تسترجع بعد بشرى.. ويش عندي غير هذا وأنا
الأعمى أَنْ جئت الجامع الكبير.. إمام الجامع يا حاج رمضان أدخلني
النار ببلاش أثناء تفسيره للآية الكريمة {ومن كان في هذه أعمى فهو في
الآخرة أعمى وأضل سبيلا}.. لم أتمالك نفسي فانتصبت وسط الجموع واستعذت
بالله في وجه الإمام قائلا: (أعوذ بالله منك ومن شيطانك الرجيم).. وفي
لحظة استياء منهم طردني جمع غفير من حضور الجامع بأمر من إمامهم.. وأمس
الجمعة لم يكن لي فيه من خيار سهل غير ارتياد حسينيتكم القريبة من بيتي
لعلي أجد فيها ضالتي، فسمعت خطيبكم يفسر نفس الآية حتى أدخلني بها
الجنة ببلاش!. فاسترجعت في سعادة بالغة بين المصلين بصوت عالي بالقول:
(إنّا لله وإنّا إليه راجعون)!.
اجتاحت محيا الحاج رمضان ابتسامة عريضة، فاستدرك بشجونه الحديث: يا
معيوف.. أحوالنا نفس أحوالك، خفف من سعادتك.. تره ما رحت بعيد.. كنا
قبلك نسترجع في كل حسينياتنا والغبطة تسري في دمائنا قبل دموعنا.. أما
الآن فنستعيذ مثلك في أكثرها وبأسف شديد، ونتأمل فرجا قريبا يعيد
للحسينيات مجدها الأول.. وأخال أن البعض يرى في النزاع على بعض
الحسينيات قنابل موقوتة ربما تُقبل على انفجار يهدد البنية الاجتماعية
في مناطقها وقراها.. فلا تغادرنا، وكن على أهبة الاستعداد للاستعاذة
كثيرا والاسترجاع قليلا مثلنا دائما حتى تنجلي غبرة السياسة، لأن
السياسة عمرها قصير نسبيا وتحمل في احشائها أدوات الكشف عن حقيقة
زبائنها بلا وسائط إذا ما تعلق الأمر بشعائر الإمام الحسين (عليه
السلام)!
يا معيوف.. انعزلنا كطائفة عن السياسة لزمن عمره حوالى 1400 عاما،
وكنتم كطائفة أخرى أسيادا منذ خلافة أبى بكر حتى ما بعد خلافة
العثمانيين التي خلفت وراءها أنظمة فاسدة قد تعتلون بها اليوم موجة
الديمقراطية لتسودوا بها من جديد بلاد المسلمين بلا منازع..
ثم اكتشفنا وإياكم سواء بسواء أن انعزال طائفتنا عن السياسة في تلك
الحقبة الزمنية الطويلة كان عين الحنكة السياسة ولا انعزال حقيقي عنها
أبدا.. كيف؟.. لأنكم في نهاية هذه الحقبة بصرتم خطورة الضياع الفكري
الذي أوصلكم إلى الفرادة في صناعة التطرف والإرهاب بشكل موازي لبنائكم
نظام دولة الاستبداد، وفي ظنكم أن انعزالنا عن السياسة بأشكالها
المختلفة عندكم سيفتح لكم أفاق الدين والدنيا.
ثم انجلت هذه الصيرورة التاريخية عن حقيقة تفصح دائما بالقول: أن
طائفة "السنة" يتحملون أوزار الضياع منفردين، فاستعاذ منكم الكثير من
أبنائكم قاهرين واسترجعوا فينا فرحين مسرورين. فلا تستغرب اليوم أن
يعتلي البعض من مراجعكم منبر الجمعة لهول مصاب الاستعاذة والاسترجاع
ليصف مرجع فينا بـ "الزنديق الفاجر".
يا معيوف.. بعد أن كنا أرضا هامدة بسياسة الانعزال، إهتزت أرضنا
اليوم وربت، وظننا وأنتم أن أرضنا ستنبت من كل زوج بهيج، وإذا بنا ندمر
قيود الانعزال لنراوح في عالم السياسة على ذات منهجكم الأول الذي
أدخلنا وإياكم في تيه 1430 عام..
إنْ شئت يا معيوف أن تتعرف عن أهم مظهر في ذلك، فدونك سلوك أتْباع
التعصب المرجعي الواحد في بلدنا الذين لم يتقبلوا فينا تعددا اجتهاديا
كان خلاصة العطاء الحضاري لميراث البحث العلمي في الحوزات..
لذلك لا تستغرب اليوم استعاذتنا بالله في الكثير من حسينياتنا مثلما
استعذت أنت من قبل في جامعك، ليس كاستجابة شرطية منا لما يقال فيها من
سنة ارتضيناها بعد أن استقيناها من أهل البيت (عليهم السلام)، فتلك
السنة المطهرة الفريضة الغائبة عند المتعصبين، بل كاستجابة شرطية منا
لما كنا نحذر منه ونخاف: كنا أهل حسينيات مستقلة تمثلت فيها الحركة
الأخبارية بامتياز وحدوي من قبل، ثم تمثل فيها اجتهاد كل مرجعياتنا
الدينية بلا تمايز إلى حين.. والآن وبقدرة مارد الفوضى السياسة التي
استقينها عن منهجكم؛ احتُكِرتْ الحسينيات كلها لأتْباع التعصب المرجعي
خاصة ومن حيث لا يشعر أهالي المناطق والقرى بذلك، ونُبِذَتْ المرجعيات
الأخرى أو عزلت إلا بشروط أبوية خاصة. وها هي بقية المؤسسات الدينية
تتساقط تحت نفوذ قوى التعصب المرجعي واحدة بعد الأخرى تحت مبرر ضرورات
السياسة في بلادنا وفي المنطقة.
يا معيوف.. مثلما أنت صحت في إمام جامعكم واستعذت في وجهه لأنه كان
في اعتقادك المبرم خلاصة لصيرورة تاريخية أوصلت الأمة إلى طريق مسدود
في العقيدة والنظم السياسية والاجتماعية، ثم شككتم في "علماء الدين"
عند طائفتكم وتنزلتم بهم إلى صفة "رجال الدين" في أحسن الأحوال؛ فلا
محيص عن يوم يصيح فيه بعضنا ويشكك بنفس طريقتكم، وكيف لا يكون ذلك
ومنهج التعصب المرجعي السياسي المستبد بكل شيء عندنا الآن لا يعدو أن
يكون منهجا "سلفيا" أو " أخوانيا".
يا معيوف.. سبقناكم إلى منهجكم السياسي قبل أن تردون على منهج أهل
البيت (عليهم السلام) في السياسة.. فانظر الأحوال إلى وقت معلوم حيث
سينشأ حينئذ في التشيع انعزال وانكفاء مرجعي خطير عن عالم السياسة اثر
ضغط تعصب مرجعي آخر لم يدرك بعد أن خبرات الإخفاق المؤلمة في عالم
الزعامة عندكم كانت خبرات في الاستبداد السياسي إذ لا وجه فيه إلا وجه
الزعيم الواحد الضرورة الذي لا تكتمل فيه مراتب الزعامة إلا إذا أتى
على رؤوس الزعامات الأخرى يقطفها على ملأ من اتباعها ومريديها.. وأن
المرجعية المتعصبة الواحدة هذه لم تدرك بعد أن السياسة في الدين لا
تكون موصلة إلى الاستقرار في عالم المجتمعات المدنية إلا إذا كانت
واعية لمبدأ الشراكة الجامعة لكل الأدوار المرجعية الدينية ومستوعبة
لكل مناطق الاختلاف بالاجتهاد.
معيوف الهارب من الجامع الكبير مضى عنده حد الاستيعاب إلى مؤشره
البياني المعتاد. وقبل أن يجر أذيال الخيبة قاصدا سكنه؛ التفت إلى
الحاج رمضان وقال له مازحا: أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا.. قف يا حاج
رمضان عن سرد تفاصيل شجونك فلا ناقة لي فيها ولا جمل.. أخذتها عريضة في
الكلام يا رمضان.. تدري أنا أعمى، وليس على الأعمى حرج، وليس الأعمى
كالبصير، وما يدريني من كان إمام جامعنا الكبير في تلك الجمعة.. ربما
كان مجنسا لا يعتد علماؤنا بقوله، وعليّ واجب التيقن من دينه الجمعة
القادمة ! |