دار فى ذهنى العديد من الاسئلة التى أخذت منى وقت طويل كى أجد إجابة
لها مقنعة أو على الاقل تجعلنى أقف عندها بلا جدال بعدها، هى بم تعد
أمة أرقى من أمة؟ وما هى العوامل والدلائل التى تدخل فى قياس الرقى؟
وهل الاخلاق وحدها تكفى معيار ومقياس للرقى؟ ثم تساءلت هل فى الامة
الواحدة أكانت بالأمس خيرا من اليوم؟ أم هى اليوم خير من الأمس؟ وما هى
النواحى التى تراعى عند النظر فى رقى الأمم؟
حقيقة الحال وجدت نفسى حائرا بين هذه الاسئلة وأخرى تتطلب الاجابة
عليها، فوجدت نفسى مطلوب أن أجد الإجابة فى دقة وعن أى العوامل يحسب
وأيها يترك، وايها له قيمه كبيرة الأثر، وأيها ضعيف الأثر أو أثره
ثانوى وهكذا.
قد يلحق بى مجيب بإجابة سهله من طرف اللسان فيقول : مقايس الرقى فى
الأمم الأخلاق، فقد يجد البعض أن أرقى الأمم أحسنها خلقا، ولكن هذه
الاجابة لا تقنع، ولعل الاخلاق متغيرة، وكل عصر له أخلاق يتطلبها
وواجبات ينشدها، وما علينا الآن من واجبات أضعاف ما كان على أجدادنا
منها، فأصبح واجب علينا أن نعلم أولادنا فى المدارس، وما كان ذلك واجبا
من قبل، إنما كان تبرعا من الأب، وأصبح واجبا علينا ترقية الوطن من
جهات متعددة، وما كان ذلك أيضا واجبا من قبل، وإن كان واجبا فكان محاط
بالغموض ليس محدود المعنى ولا معين الاتجاه، وكان آباؤنا يعدون من أرقى
الاخلاق فى الامة بحجاب نسائها وبناء سور متين بين الرجل والمرأة،
فأصبحنا نرى من الواجب أن تتعلم المرأة مثلما يتعلم الرجل.
فإن قلنا أن مقياس الرقى الاخلاق كانت كلمة عامة تدل على كل شئ ولا
تدل على شئ. وقد نجد قوم يقيسون الرقى بالدين، وهى ايضا كلمة عامة
يختلف مدلولها بإختلاف أنظار الناس، ليضيق عند بعض الناس حتى لا يسع
إلا الصلاة والصوم والزكاة والحج ويتسع عند بعض الناس حتى يشمل كل شئ.
والحقيقة أن الحياة تشمل العديد من المناحى المختلفة والمتعددة
والتى يجب أن ينظر اليها كلها لتقويم الرقى، حيث نرى أن لكل أمة مجموعة
من المرافق، وكل مرفق منها يعتبر كالخلية فى جسم الكائن الحى : من
حكومة وتعلم ولغة ودين وأسرة ونظام إقتصادى وأنظمة إجتماعية ونحو ذلك،
وكلها تتغير وكلها ترقى أو تنحط، ولا يختلف معى الكثير فى أنها فى حركة
مستمرة دائما إما إلى الأمام وإما إلى الخلف، وكلها تتفاعل تفاعلا قويا،
يؤثر قويها فى ضعيفها، وضعيفها فى قويها، وهذا التغيير الدائم فى كل
هذه المرافق حسبما رسخ فى إعتقادى هو من الدلائل والمقاييس للرقى او
الانحطاط، فإن كان تغيرا إلى سمو فرقى، وإن كان تغيرا إلى تدهور
فإنحطاط.
وحسبان هذا ليس بالأمر اليسير، فقد تتدهور بعض المرافق لأسباب خاصة،
وتسمو بعضها لاسباب كذلك، ثم تأتى عملية تفاعل عوامل الضعف والقوة،
فينشأ من ذلك عملية شديدة التعقيد ومن أصعبها حلا، ونجد أن المثل
الأعلى للأمة أن يكون كل مرفق من مرافقها الاجتماعية يؤدى عملة خير
أداء، وأن يكون سيره ورقيه فى حالة ملائمة ومناسبة لسائر المرافق
الاجتماعية الأخرى، لا طفر عنها ولا يقعد بها.
ولعلى أدلل على ذلك بالأمة التى تختار أحسن النظم فى التربية
والتعليم، ولا تساعدها اللغة على المصطلحات الحديثة، لا ترقى فى
التربية والتعليم حتى تحل مشكلتها اللغوية، كما أن الامة التى تختار
أحسن النظريات الفقهيه وخير نظم العدالة الدولية، ثم لا يعنيها بعد ذلك
حالة الأسر الأخلاقية، وطبيعة المعاملات بين الأفراد، لايمكن أن ترقى
بنظرياتها الفقهية من الناحية القضائية والعدالة، وكذلك الحال بالنسبة
للأمة التى تسن أرقى أنواع الاصلاحات الاجتماعية، ثم لا تعنيها الناحية
الاقتصادية، تصبح وإصلاحاتها تسر القارئ ولا تسر الناظر وهكذا.
ولعل من أهم الدلائل التى تدل على رقى الأمة وتدهورها وسيرها إلى
الأمام أو إلى الخلف، إما بمقارنتها بغيرها من الأمم فى نواح معينه، أو
بمقارنتها بنفسها فى عصرها الحاضر وعصرها السابق، فالمقارنة الاولى
تعطى دلالة على الدرجة التى تقف عليها الامة فى سلم الرقى العام، بينما
المقارنة الثانية تدلنا على اتجاه سيرها إلى الأمام أو إلى الخلف.
هذا ويتبدى لى أن من أهم الدلائل هو أيضا موقف الأمة إزاء ما يحيط
بها من ظروف طبيعية وإجتماعية، هل هذا الجيل أحسن استخداما لبيئته وما
يحيط به؟ وهل استطاع أن يوجد منابع لثروته وسعادته أكثر مما استطاع
أسلافه؟ هل استخدم المنابع القديمة أصبح أفضل مما استخدمها آباؤه؟ هل
فى حله المشكلات الاجتماعية والطبيعية أصبح أكثر توفيقا عن ذى قبل؟ ثم
ما مقدار تضافر جهود الأفراد وقتذاك فى التغلب عليها بمقدار ما تقدمه
اليوم؟ ثم هل السؤال عن ثروة الأمة هل هى زادت؟ وهل استطاعت أن تسعد
بثروتها أكثر مما كانت تسعد بها من قبل؟ ثم هل استخدمت العلم أحسن
استخدام مما فعله آباؤها فقلت الوفيات وتحسنت صحتها، وجمل منظرها،
ونظفت عيشتها، وأصبح نيل القوت أسهل وأيسر حتى تفرغ الناس للعلم والفن
والأدب؟
فإذا ما توصلنا إلى إجابات محددة فى هذا الطرح من الاسئلة ولم تكن
الاجابة عسيرة، وبذلك نستعين على تعيين الاتجاه ومقدار الرقى إن كان
هناك رقيا.
ولعلى أجد مناسبا فى طرح جانب هام يعد من أكبر دلائل الرقى فى أى
أمة وهو قدرتها على تذليل العقبات أمام الكفايات، فخير الامم من افسحت
المجال أمام أفرادها ليرقوا كما يشاؤون بقدر استعدادهم وجدهم، فى
التعلم، فى الوظائف، فى النواحى السياسية والاجتماعية،... الخ ومدى ما
قطعته الأمم المتمدنة من خطوات واسعة، من إزالة إحتكار الأرستقراطية
للمناصب العليا، ويسرت وسائل التعلم لمن شاء، واعتمدت فى تقدير الاشخاص
على مزاياهم لا على حسبهم وبيئتهم وكم هى حاربت المحسوبية ومكنت كل فرد
أن يصل إلى ما يستطيع من رقى من خلال استخدام ذكائة ومواهبه.
كما يأتى جانبا آخر هام ويعتبر من أهم دلائل الرقى هو ثروة الامة،
ومقدار ما ينفق منه على الصالح العام من بناء مدارس ومصانع ومساجد
وكنائس ومتنزهات وحدائق وصرف صحى ومياه وإنارة ونحو ذلك. ومن الجدير
الاشارة اليه بأننا فى هذا الشأن لا نعنى بكمية ما ينفق بقدر ما نعنى
بكيفية الانفاق بمعنى هل تم الانفاق فى أحسن السبل، وهل هناك وجه آخر
خير منه؟ كما يأتى أيضا فى هذا السياق مقدار شعور الأفراد بهذا الشأن،
ومقدار ما يتبرعون به من أموالهم لهذا الصالح العام، وإن كانت حقيقة
الامر بأن ثروة الامة ليست مقصورة على ميزانية الحكومة، ولكنها تشمل
ثمرة الأفراد، فالامة التى لا يشعر أغنياؤها بواجب فى أموالهم لفقرائها،
تعد أمة منحطة إذا ما قيست بغيرها من الأمم التى كثرت فيها المدارس
والأندية والمستشفيات والجمعيات الخيرية من مال أغنيائها.
وحتى إذا ما نظرنا إلى ميزانية الاسرة فى الامة وكيف تنفق، فالاسرة
التى تعرف كيف توازن بين الدخل والانفاق وكيف تفرق بين الضرورى
والكمالى، ولا تسمح لنفسها بالانفاق فى الكمالى قبل أن تستوفى الضرورى.
فهذا من غير شك يجعل الاسرة أسعد حالا، وأكثر استعدادا للرقى، وهل
الأمة إلا مجموعة من الأسر؟ وهل الأمة إلا حاصل جمع رقى الأسر؟ وكما أن
أسرة قد تكون أسعد من أسرة، مع أن دخلها أقل وثروتها أضعف، ولكن عقلها
أكبر، وتصريفها لمالها أدق، فكذلك الأمم، ليس خيرها أغناها، ولكن خيرها
من عرفت كيف تستخدم مالها وأحاطت ما تملك بنظم راقية، وكمية كبيرة من
الاصلاح تجعل مالها يتضاعف فى القيمه وإن لم يتضاعف فى العدد، فكم من
أمه لها ثروة كبيرة طبيعية، ولكن لم تعرف كيف تستخدمها، فلوحلت محلها
أمة أخرى لصيرت صحراءها بستانا، وجبالها جنانا، ولجعلت ترابها ذهبا
وأرضها عجبا.
لعل السبيل الى الرقى قد يقترب من الحصر فى مقدار تغلب الأمة على
طبيعة بلادها، وتعديل نفسها حسب ما يحيط بها، والانتفاع بأرضها وجوها،
وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يوضح كيف تستغل منابعها، وبمقدار صالح
من النظم السياسية والاجتماعية والاخلاقية يهيئ الافراد لسبل الانتفاع
بما حولهم، ويعدهم خير إعداد للنظر فى مصالحهم. وأننى بذلك أتساءل الان
أين أنا فى نفسى، وأين أنا فى أمتى، وأين أمتى فى العالم؟
* بورسعيد - مصر
alynassef@yahoo.com |