هنا سؤال يقول: إذا كان موقف الإسلام واضحاً من موضوع الشورى ونصوصه
صريحة في الدلالة على لزومها فلماذا يختلف الفقهاء والمفسرون في آرائهم
منها، فبعضهم يوجبها، وآخر يستحسنها، وثالث ساكت عنها فلم يبد تجاهها
برأي؟
والجواب أن لهذا الاختلاف أسباباً واضحة ومعروفة لاتخفى على من درس
الفقه وتتبع أحداث التأريخ.
فأولاً: أن اختلاف العلماء في حكم الشورى وكيفية تطبيقاتها ناشىء من
فهم النص، فبعضهم فهم من الآية: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(1)،
الوجوب لما ثبت في علم الأُصول أن كل أمر صدر من العالي إلى الداني
يكون ظاهراً في الوجوب، ولو استفيد منه الندب والاستحباب أحياناً فذاك
راجع لوجود القرينة الصارفة من الحكم الأصلي وهو الوجوب إلى الاستحباب.
وآخرون فهموا الاستحباب لا لعدم اعترافهم لظهور الأمر في الوجوب، بل
لاعتقادهم بوجود القرينة في الآية هنا والتي تصرفه من الوجوب إلى
الاستحباب وهكذا، وهذا الاختلاف طبيعي ومتعارف في العلوم والفنون كافة
التي تعتمد على الأدلة اللفظية والعرفية.
وثانياً: الديكتاتورية الدينية التي كانت تتعاقب على السلطة في
التأريخ الإسلامي وأساليبها القمعية المتشددة ضد العلماء والفقهاء
والمحققين كانت تجبرهم في كثير من الأحيان إلى تبني آراء ومواقف تخالف
رأيهم الحقيقي ولو في الظاهر، إما مجاملة للحاكم أو تجنباً لظلمه وأذاه،
وخاصة الآراء التي تتعلق بنظام الحكم والسلطة السياسية، أو لاأقل
السكوت وعدم إبداء الرأي، وهذه حالة مستشرية وسائدة في كل الأنظمة
السياسية المستبدة منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا.
خاصة وأن مبدأ الشورى في نفسه من المبادىء المهمة والخطيرة الذي يمس
بطريق مباشر سلطات الحاكم وآماله، فمن الطبيعي أن بعض العلماء وإن كان
يرى في واقعه أن الشورى من الواجبات الشرعية التي تتحكم بشرعية الحاكم
وعزله وسحب الثقة منه كما يراه الآخرون إلاّ أنه خوفاً من الإرهاب يضطر
إما إلى السكوت المطلق مقابل تصرفات السلطة الأمر الذي قد يعكس لبعض
عموم الناس موقفاً مؤيداً أو داعماً للحاكم، أو لاأقل يمكن استفادة
الحاكم نفسه من هذا السكوت وتجييره لأهدافه ومصالحه.
أو يضطر بعض العلماء إلى مجاراة الحاكم واصدار فتاوى شرعية ترضيه،
وتنسجم مع طموحاته، حيث لايوجد أمام العلماء أي خيار آخر سوى التعذيب
والمطاردة والقتل بالسم أو بالاغتيال أو في طوامير السجون والمعتقلات
أو الاتهامات الكاذبة والدعايات والإسقاط الجماهيري أو مصادرة كل كتبهم
وأفكارهم وإتلافها في المزابل ومحارق الحمامات حتى لايصل أي شيء منها
إلى الناس، ولهذه الحقيقة أحداث متكررة وكثيرة جداً في التأريخ السياسي
الاسلامي، كما أحرق المعتضد الحاكم الأندلسي كتب ابن حزم الأندلسي سنة
(440هجرية) وفي هذا قال ابن حزم:
فان تحرقوا القرطاس لاتحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في
صدري
يسير معي حيث استقلت ركائــبي وينزل إن أنزل ويدفـن في
قبري (2)
وغيره الكثير من العلماء والمجتهدين الذين واجهوا هذا المصير السيء
(3).
فليس من الغريب إذاً أن نرى أكثر البلاد المستبدة اليوم تقيم أجهزة
الرقابة والتجسس على العلماء والمجتهدين وأصحاب الفكر والثقافة من أجل
قمعهم وإخضاعهم واستخدامهم لصالح الحكومة، أو مصادرة كتبهم وإحراقها،
وبالتالي تصفيتهم كلياً من الوجود؛ لأنها حالة ليست جديدة على التأريخ
ولاوليدة على الديكتاتورية وأساليبها المضادة للفكر والعلم والحضارة.
ومهما كان سبب الاختلاف في الحكم إلاّ أن جميع العلماء متفقون على
رجحانها واستحسان العمل بها، وبعده لانملك إلاّ أن نقول بوجوب الالتزام
بها والعمل على تطبيقها في المجال السياسي؛ وذلك لأن السلطة السياسية
المأمورة بالمشورة حتى إذا كانت تتمسك بالمبادىء الوضعية التي تفصل بين
الدين والدولة لاتتمكن أن تتجاوز قانون المشورة ووجوب العمل بها من
البعد السياسي؛ لكون الاستحباب والأرجحية في المعادلات السياسية يتضمن
معنى الوجوب العقلي أو اللابدية في العمل؛ لأن الاستحباب يشير إلى وجود
المصالح والمعطيات الإيجابية التي يتضمنها هذا المبدأ -الشورى -حتى صار
مستحباً.
والسياسي الواقعي الموزون يسعى وراء المصالح وتحقيق الأرباح في إطار
العدل، فإذا كانت المصلحة الواقعية تترتب على الشورى رآها من الواجبات
اللازمة، وأما إذا كانت السلطة شرعية دينية وسياسية معاً فأيضاً
لايمكنها تجاوز الشورى والاستشارة حتى وإن كانت مستحبة في نفسها في نظر
الشريعة؛ لأنها بالاضافة الى أنها تضمن للسلطة السياسية مصالح وأهدافاً
أكبر يكون العمل على طبقها احتياطاً شرعياً وتجنباً لكثير من المخاطر
والمفاسد العظيمة التي قد تترتب على الاستبداد والتفرد بالرأي، حيث إن
القانون العقلي – المسمى بالاحتياط العقلي عند علماء الإسلام – القائل
بأن دفع الضرر المحتمل بل الموهوم في الأُمور الخطيرة يلزم الحاكم بذلك
كالسلطة السياسية وأخطارها.
هذا بالإضافة إلى الاحتياط الشرعي الذي يديم حكم العقل القائل: ((احتط
لدينك بما شئت))(4) فإن العقل والشرع هنا يتعاضدان في القول بوجوب
العمل بقاعدة الشورى في الحكم وإن كانت في الواقع مستحبة، مثلها كمثل
سائر الأعمال التي تكون في نفسها مستحبة ولكن تصبح واجبة في قياسها إلى
إنجاز اعمال أهم، كالطهارة في نفسها مستحبة ولكن تكون واجبة بلحاظ
كونها مقدمة للصلاة الواجبة.
ومن الواضح أن إقامة حكم الله في الأرض وتطبيق أحكامه ونشر العدل
والحرية وتوفير حاجات الناس من الواجبات الشرعية التي لاتقبل الجدل أو
النقاش.
وتطبيق الشورى هو مقدمة وجودية لإيجاد تلك الضرورات، ومقدمة وجوبية
لامتثال هذه الواجبات أيضاً، فتكون واجبة أيضاً من هذه الجهة، وبعكسه
أيضاً الاستبداد يكون محرماً ومرفوضاً أيضاً من قبل الشريعة؛ لأنه يؤول
الى سحق حقوق الناس وهدر دمائهم ونهب أموالهم وهتك أعراضهم التي هي من
أشد المحرمات في الشريعة المقدسة.
ومن هنا لعله يظهر أن العمل بالشورى من الواجبات الحتمية على الحاكم
الإسلامي لكونها:
أولاً: مقدمة وجودية ووجوبية أيضاً لواجبات أُخرى ومقدمة الواجب
الوجودية واجبة.
ثانياًً: ولكون العمل بها عملاً بالاحتياط العقلي القائل بوجوب دفع
الأضرار المحتملة والموهومة في الأُمور الخطيرة كأخطار الحكم والدولة.
ثالثاً: مضافاً الى الاحتياط الشرعي اللازم في هذه الموارد.
حقائق عن الشورى
وفيما يلي بعض الحقائق الرئيسية حول مبدأ الشورى السياسية في
الإسلام تتكفل بالإجابة عن كثير من الأسئلة والاستفهامات التي قد
يطرحها البعض حول هذا الموضوع.
الحقيقة الأولى: شرعية الحاكم
إن كل حاكم مسلم ملتزم بالمشورة بنصوص قرآنية وروائية لايمكن
تأويلها أو تحريفها أو الزيغ عنها كما تقدمت الإشارة إلى بعضها،
فالحاكم الذي لايعمل بهذا المبدأ يصبح حكمه غير شرعي حتى لو كان من
أعدل الناس وأورعهم وأعلمهم.
إن الأعاذير والعلل التي يذكرها الحكام المستبدون عادة في رد الشورى
وتبرير مواقفهم المتفردة بالسلطة وبالحكم كثيرة وخطيرة أيضاً في نفس
الوقت، فبعضهم يغطي على عدم تمسكه بالاستشارة بجانب من المرونة
السياسية، فيقول: نحن نقبل الشورى كمبدأ عظيم ينظم علاقة الشعب
والحكومة في أجواء حرة ولكننا لانستشير الشعب؛ لأن الشعب لم يرتق إلى
مستوى الوعي والمشورة بعد حتى يكون جديراً بالاستشارة.
وبعضهم يدلس في الحقائق والأحداث والأوضاع السياسية التي تعيشها
بلاده لمصالحه الخاصة، ويبتدع لها تفاسير وتحاليل كثيرة تعينه على
تطبيق الديكتاتورية بشكلها الكامل والقضاء على كل حس أو نفس قد يبديه
الشعب باتجاه الديمقراطية والمشورة، فيرتب لنفسه معادلة سياسية خاصة
مكونة من عدة مقدمات، كل مقدمة منها تكفي وحدها لتبرير استبداده
بالأُمور وتفرده بالسلطة عند بسطاء الناس فكيف إذا اجتمعت؟
فيدعي مثلاً أن البلاد تخوض حرباً مع الأعداء، وفي حالة الحرب لابد
من الحيطة والحذر والتمسك بالسرية التامة على الأحداث بالإضافة إلى
تمركز القرار ووحدته، فإذا أقمنا الشورى سيكون ذلك مدعاة لكشف أسرار
الدولة وموارد الضعف فيها وإيصالها إلى الأعداء بواسطة أجهزة الإعلام
والصحف الحرة ومناقشات المجلس المفتوحة وغيرها من الوسائل الديمقراطية
التي تترتب على نظام المشورة، الأمر الذي يقودنا إلى الهزيمة !!
ولذلك فإن الظروف والأوضاع السياسية في هذه الفترة – على الأقل –
لاتسمح بإقامة نظام الشورى، وسنرجئها إلى وقت ثان وإشعار آخر!!
وهكذا في غير الحرب يوجد لنفسه جملة مدعيات ومبررات كلها منقوضة
وقابلة للرد والبحث والنقاش من أجل توجيه مواقفه الديكتاتورية وأحكامه
الخارجة على القانون وحقوق الشعب، وكل ذلك بعد أن يتخذ عدة قرارات
سريعة التنفيذ للتمهيد لذلك، مثلاً:
1-يغلق كل وسائل التوعية والإعلام وتوحيد الصحافة وبرامج الإذاعة
والتلفاز من أجل أن يملي على الشعب أفكاره ومواقفه، ويقطع عنه طريق
السماع إلى الرأي الآخر.
2-يقضي على كل حس مخالف ومناقش في موقف الحكومة مدعياً أنه في زمن
الحرب ويجب الانشغال بمواجهة العدو الرئيس.
3-توظيف كل الأحزاب والمؤسسات والقادة وأصحاب الفكر والثقافة في
خدمة أهدافه الحربية والخضوع لقراراته متهماً من يرتدع عن ذلك بأنه
متواطىء مع العدو ومشترك معه في المؤامرة، فالعدو يضرب البلد من الخارج
وهؤلاء الرافضون يضربونه من الداخل، وإلى غير ذلك من الاتهامات الباطلة.
وقسم آخر من الحكام يبرر ذلك بتعرض بلاده الى المخاطر والهجمات
الاستعمارية الشرسة، فلايجب أن تنفتح على الشعب ونبيح له حرية الرأي
والكلام التي من شأنها أن تثير التفرقة والاتهامات المضادة بين الأحزاب
والفئات العاملة في الساحة مما يعطي القدرة بيد الاستعمار للاستفادة
منها في ضرب البلاد.
فيقول: نحن لكي نحفظ مظاهر الوحدة والتلاحم الداخلي بين أبناء الشعب
ولكي لانهيىء له الفرصة السانحة في ضربنا نقضي على الديمقراطية وحرية
الرأي واستشارية الحكومة!!
وبعضهم أهون من غيره؛ إذ يعجز عن إيجاد مبرر مقنع لعلوه وطغيانه
فيكتفي بالوعود المعسولة والطويلة الأمد والتأجيلات المتكررة لزمن
الديمقراطية والخطابات والمنح المالية والرتيبة والتنقل على الوعود،
فكل يوم جديد وللحاكم المستبد وعد جديد يخدع فيه الشعب، وغيرها من
الوسائل والأساليب التي باتت معروفة ومشهودة في كل الأنظمة
الديكتاتورية، وهكذا دواليك، ولكن نقول: إن كل هذه الإدعاءات والأعذار
لاتتمكن أن تبرر الاستبداد، أو تقف أمام النصوص الصريحة التي جاءت في
الإسلام للتأكيد على الشورى وديمقراطية نظام الحكم يدعمها في ذلك
السيرة السياسية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي كانت قائمة
على المشورة واحترام الآراء، حيث مارس (صلى الله عليه وآله وسلم) نظام
الشورى بنفسه، فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أكمل الناس وأعقلهم
على وجه الأرض والرسول الملهم المسدد من قبل السماء يستشير الصحابة في
كل أمر لم ينزل فيه نص من القرآن وحتى في الأُمور الصغيرة كان يأخذ رأي
صحابته في المسجد أو المجلس اليومي المعهود بين المسلمين وفي الأُمور
الكبيرة كان يجمع الأُمة ويخطب فيهم في لحظات ديمقراطية رائعة – إن صح
التعبير-ثم يطرح عليهم القضية المستجدة، ويتهيأ لاستماع الآراء قائلاً:
((أيها القوم أشيروا عليّ فقد أمرني ربي بالمشورة)) (5).
وفي هذا قال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأمْرِ)(6)
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أما إن الله ورسوله
لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم
يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً)) (7).
وفي هذا يضع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعدة عامة
وأصلاً ثابتاً من أصول السياسة الحكيمة هي المشورة؛ لأنها طريق إلى
الرشاد وتقويم المواقف دائماً وبالخصوص في الظروف الصعبة والأوضاع
الحرجة، كالحروب والصراعات الداخلية والأزمات الدولية وأمثالها؛ لأن
الحاكم في زمن الحرب والأوضاع الطارئة يكون أحوج مايكون إلى المشورة من
زمن السلام، بعكس مايدعيه الحكام الديكتاتوريون تماماً، ولهذا كان رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أكثر حروبه يستشير أصحابه وأهل
الخبرة والفن في ذلك حتى نقل لنا أحد أصحابه صورة واضحة عن جملة مواقفه
(صلى الله عليه وآله وسلم) وآرائه السياسية والحكم في جملة واحدة قال
فيها: مارأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم)(8).
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاكم استشاري
لقد أكد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على الشورى في
مواقفه السياسية، وأن ليس لأحد أن يتفرد بالأمر دون بقية الناس
فيستعبدهم ويقودهم إلى أطماعه ورغباته بالقوة والعنف من دون أن يجد لأي
أحد منهم قيمة ولاكرامة.
فالحاكم يجب عليه مشاورة الشعب في المسائل السياسية والاجتماعية
التي تخصه والمتعلقة بنظام البلاد، وقد نقل لنا التأريخ بعض الأحداث
المهمة والخطيرة التي مرت على المسلمين، وخاصة في بعض الأحيان التي
كانت تستعصي الحل كان يحلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالمشورة ومبادلة الآراء، منها في الحرب مثلاً العقد الذي تم بين
الرسول ووفد من أهل يثرب (المدينة) حيث كان من أهم بنوده:
1-أن يحمي أهل المدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يحمون
منه أنفسهم وأموالهم وأطفالهم وبالمقابل أن يعلن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ((أنا منكم وأنتم منّي))(9).
فالحماية التي تعهد بها اليثربيون بموجب هذا العقد غير ملزمة على
أهل المدينة إلاّ داخل مدينتهم، وأما خارجها فلا.
2-أنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في
ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناؤنا ونساءنا(10).
وتأكيداً لالتزام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بمضمون
هذا العقد فإنه حتى السنة الثانية للهجرة ظلت السرايا والغزوات
الخارجية مقتصرة على المهاجرين دون بقية أهل المدينة، وعندما اضطر
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لملاقاة قريش ومواجهة قافلة
تجارية آتية من بلاد الشام في خطة دفاعية، ولما كانت بنود العقد لازالت
كما اتفق عليها أول مرة دون أي تعديل فقد جمع الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) أصحابه ليستشيرهم بما عزم عليه من ملاقاة جيش قريش بعدما
تعدت القافلة، ولعل في جمعهم هذا كان يقصد تغيير بعض بنود العقد السابق
مع أهل المدينة بالإضافة إلى الامتحان وتقوية القلوب وشحذ العزائم.
ثم قال: ((أشيروا عليّ أيها الناس)) إنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم
حين بايعوه بالعقبة قالوا: يارسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل
دارنا (11).
ومع أن كبار المهاجرين أجابوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
مبايعين على الموت إلاّ أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) بقي يردد قولته:
((أشيروا عليّ)) حتى قام زعيم الأنصار سعد بن معاذ وقال له: كأنك
تريدنا يارسول الله؟ (12).
وأكد البيعة نيابة عن أهل المدينة، وأصبح الكل تحت قيادة الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء، وبات العقد عاماً يحارب أهل
المدينة مع الرسول في أي مكان داخلها وخارجها (13).
شاهد آخر
وفي السلم أيضاً يستشير، حيث كانت دولته (صلى الله عليه وآله وسلم)
هي دولة المدينة، وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) هو نفسه على احتكاك
مباشر بالمسلمين جميعاً حتى إنه كان يتفقد أي رجل يتغيب عن الصلاة،
ويعود المريض، وكانوا يتحلقون حوله، ويستمعون إليه، وعند زيادة العدد
تتم الاستعانة ببعضهم لنقل الكلام بسبب عدم وجود مكبرات للصوت.
فكان الحكم مباشراً، والقرار السياسي يشارك فيه الجميع بالمشورة؛ إذ
كانوا يشتركون في مناقشة أي قضية صغيرة أو كبيرة، ولم يكن بينهم وبين
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي حجاب، ومن هذا المنطلق كان
الكل يفهم حقه بالادلاء بأي رأي يراه، أو كلمة يتحدث بها في الشؤون
العامة التي لم ينزل فيها وحي؛ ولهذا تقدم أحد المسلمين من الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وقوع الحرب في بدر سائلاً عن
الحكمة من اختيار الموقع الذي تمركز فيه الجيش في بدر، وعما اذا كان
الأمر وحياً، وعندها لااعتراض ولاشورى أم أن ذلك من اختصاص الرأي
والحرب والمكيدة؟
فكان رد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بل الأمر الثاني، وتم
تغيير المكان بناء على اقتراح ذاك الفرد، ومرة أُخرى نزل رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) على رأي سعيد بن معاذ وقبل ببناء مركز للقيادة
ليدير به العمليات الحربية وهو في منأى عن الخطر المباشر. وفي نهاية
المعركة في بدر طرأت مسألة جديدة لم يكن قد أعدوا لها حلاً مسبقاً، وهي
قضية التعامل مع الأسرى، فجمع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
أصحابه واستشارهم في شأنها، ولأول مرة تتباين الآراء فيما بينهم،
فبعضهم قال بضرب أعناقهم، وبعضهم قال بطلب الفدية والعفو عنهم، وعندما
وجد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الحزم هو في الرأي
الثاني أخذ به؛ لأنه في الواقع كان يمثل الحل الذي يتناسب مع عواطف بعض
المهاجرين؛ إذ ليس بين الأسرى إلاّ قريب أو نسيب(14).
هذه الحادثة تثبت بنص الوحي أن القرار هو من حق الشعب، وأن الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) القائد في مثل هذا كأحدهم ينفذ مابايعوا عليه
وارتضوه لأنفسهم، ومع أننا نتعامل مع مجموعة قليلة في هذه الحادثة
ولأول مرة تقوم هذه القلة بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بأعمال مشتركة بقيادة واحدة وبالتزامات واحدة، ومع الأخذ بعين الاعتبار
الأعراف وطباع الناس يومها فلن نكون مغالين إذا قلنا قياساً: إن الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه أبرزوا بشكل جلي طبيعة
الحكومة في الإسلام وطريقة ممارسة السلطة فيها الحاكم والشعب على بينة
من أمرهم يمارسون حقهم الشرعي في السلطة(15).
وبعد(16) أن اتفق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) مع
غطفان على عقد معاهدة تخرج بموجبها من صفوف الأحزاب وتأخذ بمقابل ذلك
ثلث ثمار المدينة، وبعد كتابة العقد وقبل التوقيع النهائي عليه استدعى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زعيمي أهل المدينة – سعد بن معاذ
وسعد بن عبادة-ليستشيرهما في الأمر، فهؤلاء من المدينة فقط، ولم تذكر
كتب التأريخ حضور أحد من المسلمين غيرهما، كما لم تذكر استشارة أحد من
الأنصار يوم اقتصرت الشورى على المهاجرين ووقع الرسول الصلح مع قريش،
وهو الذي عرف بصلح الحديبية، وقد ترك الأمر بكامله لممثلي المدينة وهما
السعدان اللذان سألاه قائلين: يارسول الله، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً
أمرك الله به لابد لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا ؟
قال: ((شيء أصنعه لكم، والله ماأصنع ذلك إلاّ لأنني رأيت العرب قد
رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم
إلى أمر ما)).
القرار إذاً من حق من يتحمل تبعيته، فالأرض والثمار ملكاً لأهل
المدينة، والصلح قد جرى عليه، وفي هذه الحادثة تتأكد لنا المعاني
الواضحة لدور الشعب قي ممارسة السلطة ومساهمته مع الحاكم في تقرير مصير
دولته، حيث رفضا الاتفاقية، وأعلن سعد بن معاذ أنه لم يسبق لأهل
المدينة قبل الإسلام أن قبلوا مثل ذلك، وإن شيئاً بالنسبة إليهم لم
يتغير، وأن ليس لغطفان إلاّ السيف، فلم يغضب الرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله وسلم) من ذلك، بل ولم ير مايدعو حتى إلى معاتبتهما بحجة أنه
الرسول صاحب المكانة العليا بين القوم والحاكم الذي لايرد له أمر،
وإنما استجاب (صلى الله عليه وآله وسلم) لرفضهما المعاهدة، وعندما سأله
سعد بن معاذ عن أمر الكتاب الذي كتب ولم يوقع بعد سلوك الرسول هذا أثبت
أنه لم يعتبر العقد قائماً إلاّ بموافقة أصحاب القضية، أي أهل المدينة،
ثم سلّمه الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) الكتاب، وأعطاه حرية
التصرف به، وكان قرار سعد أن محا كل مافيه... قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): ((فأنت وذاك)) فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا
مافيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
أنظر: المجلس منعقد وبحضور الخصمين والرسول يسعى لأن يؤمن كل الناس
برسالته، ثم يرفض أهل المدينة الاتفاق بعدما كتب، وفوق ذلك كله يأخذ
سعد بن معاذ الصحيفة ويمحو مافيها، ويتحدى بلسانه هو نيابة عن أهل
المدينة غطفان ومن معها. كل ذلك على مرأى ومسمع من رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وبحضور وفد غطفان أيضاً، ولايترك ذلك أي أثر على وجه
الرسول، فأية ديمقراطية أعظم من هذه ؟.
وفي يوم الحديبية (17) عسكر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله
وسلم) بالمسلمين في الحديبية شرق مكة، وأرسل لقريش وفداً برئاسة عثمان
بن عفان حيث تربطه بهم علاقة متينة ليقنعهم بأن المسلمين ماجاؤوا إلاّ
لأداء العمرة فقط، وكل شيء يدل على صدق نياتهم، السلاح الخفيف والهدي
الذي ساقوه معهم من المدينة ولباس الإحرام، وجاء خبر بمقتل أعضاء الوفد
بمن فيهم عثمان مما حتم وقوع الحرب مع قريش ثأراً، ودعا الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) أصحابه واستشارهم في الأمر فقرروا الحرب، وأعطوه
البيعة على ذلك، إلاّ أن قريشاً تداركت الموقف وأرسلت على الفور وفداً
يطلب الصلح مع المسلمين بعدما أكدوا عدم صحة إشاعة مقتل أعضاء الوفد،
وبعد مفاوضات مع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقعت
المعاهدة، وكان من بنودها ماأعتبره بعض المسلمين مخيباً لأمالهم
ومنافياً لتطلعاتهم وحقيقة سياستهم.
وتزعم أحدهم معارضة المعاهدة بكامل بنودها، وواجه الرسول الأكرم(صلى
الله عليه وآله وسلم) بمعارضته تلك بعدما تكلم بشأنها مع بعض أصدقائه،
وأراد استمالته اليه، فقصد الرسول ووجه اليه جملة من الأسئلة يستفسر
فيها عما اذا كانوا هم المسلمون فعلاً !! وعما اذا كان محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم) هو الرسول أيضاً !! وعاد ليطرح حقيقة المفاضلة بين
المسلمين والمشركين وعما اذا كان ذلك صحيحاً أم لا !! ولما أكد الرسول
صدق وحقيقة كل مايدعو إليه وبهدوء لايتعدى كلمة: بلى عاد معترضاً
ليقول: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟
ورغم جواب الرسول له بأنه لايخالف أمر ربه وأنه مطمئن إلى النتيجة
فقد بقي المعارض غاضباً حتى نزل الوحي ! فنزّل القرآن على الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) بالفتح، فأرسل إلى المعترض فأقرأه إياه، فقال:
يارسول الله، أو فتح هو ؟ قال: نعم، فطابت نفسه ورجع !!
وفي غزوة تبوك (18) – السنة التاسعة للهجرة-نزل الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله وسلم) عند الشورى التي أسداها إليه أصحابه، ولم يتجاوز
ذلك المكان، وعاد إلى المدينة ومن خلال إجابته لبعض الصحابة أوضح
لأصحابه أسباب عدم مجاوزتها، وعندما سأله أحد أصحابه: إن كنت أمرت
بالسير فسر، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((لو أمرت به مااستشرتكم
فيه)) (19).
ويوم جاءه بنو هوازن يريدون سباياهم من الأولاد والنساء لم يجبهم (صلى
الله عليه وآله وسلم) إلى طلبهم وهو الرسول، بل إنه طلب منهم أن يأتوه
صلاة ظهر اليوم التالي، ويستشفعوه بالمسلمين، ويستشفعوا المسلمين به مع
أنه كان قد وعدهم برد ماكان من نصيبه ونصيب بني هاشم، وبالفعل فقد حصل
الاجتماع، وخطب فيهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي
خطابه أكد حق مجموع الأمة باتخاذ القرار بخصوص أُمور دنياهم..
((.. أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين وإني قد رأيت أن
أرد إليهم سبيهم، من أحب أن يطيب فيفعل)) (20).
وعندما لم يتمكن بسبب كثرة الحشد المستشار أن يفهم كل فرد من
المسلمين قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((.. وإنا لاندري من أذن منكم
في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم..)) (21).
وغيرها من الأحداث والقصص التي تؤكد على حسن سياسة الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله وسلم) ومدى استشارته الدائمة في أمور السياسة والحكم،
فليع ذلك كل حاكم مسلم يتعدى على الإسلام، ويطغى على المبادىء، ويقود
الناس بالسيف والارهاب والاستبداد السياسي.
الحقيقة الثانية: الانتخاب لا التعيين
يجب أن تخضع المشاورات السياسية للحكومة لأنظمة وموازين معروفة لدى
الشعب توفر له المجال الواسع للاطلاع على مجريات الأحداث وسياسة الدولة
ومراقبة الأعمال والقرارات التي تتعلق بإدارة البلد، بحيث تجعل الشعب
كل الشعب مساهماً مساهمة فعالة وصادقة في سياسة الحكومة، وهذا لايمكن
إلاّ إذا خضعت برامج الدولة ومخططاتها إلى مناقشات مفتوحة وعلنية في
محضر الشعب، وبعيداً عن السرية والجلسات المغلقة التي لايعرف مايجري في
داخلها سوى الحضور، وليس على الشعب إلا تحمل تبعات الموقف أو تنفيذ
القرار.
ولما كان من المتعذر جداً على الشعب بجميع فئاته وطبقاته أن يدخل
مباشرة في مناقشة القرارات وان كانت هي الطريقة الأسلم والأقرب الى
الديمقراطية كان لابد من تشكيل مجالس نيابية تقوم بمهمة المشورة
ومبادلة الآراء وتحديد سياسة الدولة نيابة عن الشعب والذي قد يسميه
الإسلام – مجلس الشورى- استفادة من الاصطلاح القرآني – الشورى – على كل
قول أو عمل يتم عبر المداولة والتفاهم والحوار، ولاتهمنا التسمية هنا.
وإنما يجب أن نعرف أن أعضاء المجلس الاستشاري الذي يشرف على الحكومة
ويحفظ توازن السلطات يجب أن يتم بالانتخابات الحرة المباشرة من قبل
أبناء الشعب، ولايقبل فيه التعيين أو التنصيب الذي قد يقوم به الملك أو
الرئيس، وإنما يجب أن يرشح المواطنون ممثليهم ونوابهم إلى المشاورة
بالاختيار الحر والقناعة الذاتية بلا أن تملى عليهم آراء، أو تفرض
عليها أشخاص لم يكن يرتضيهم الشارع والسوق وكل الجماهير لولا ألاعيب
الحكومة وتغريراتها وضغوطها الأجوائية؛ إذ إن الإسلام لايرى للملك او
الرئيس أي حق في أن يمتلك حق التصويت نيابة عن الناس في اختيار نوابهم
ووكلائهم في المجلس، لأن أساليب التنصيب والتعيين قد تحتفظ بمظاهر
الحرية والديمقراطية ولكنها غالباً ما تكون ديمقراطية مقنعة تستبطن
الديكتاتورية، وتتطلع إلى أهدافها الخطيرة.
ربما نجد أن بعض حكامنا اليوم ومن أجل التذرع بالديمقراطية وعدم
الاستبداد يقيمون مجالس نيابية وبرلمانات في بلادهم تناقش بعض الأمور
الهامشية التي لاتمس أصول السياسة في البلد، أو تناقش الأصول في مظاهر
حرة ولكنها في الواقع دائماً لاتتمكن أن تخرج بنتيجة أو قرار يتعارض مع
سياسة الحاكم، ولكن عبثاً يصنع الديكتاتور؛ لأن السياسة الديكتاتورية
مفضوحة الخطط والأساليب، بحيث لايمكن التغطية عليها بأي شكل من أشكال
الدستور والمظاهر الديمقراطية، فهل امتلاك الحاكم حق تعيين نواب المجلس
نيابة عن الشعب مظهر ديمقراطي؟ أو أن امتلاكه لحق إقامة المجلس أو حله
وجعل ذلك الحق كبند من بنود الدستور هو الآخر مظهر ديمقراطي؟ وهل
المجلس الذي يعجز عن مناقشة قرارات الحاكم أو استجوابه أو الاعتراض
عليه أو الانتقاص من قدره ومكانته الشخصية يمكن أن يعبر عن وجود
الديمقراطية في البلد؟ وهل أعضاء المجلس الذين ينتمي أكثرهم او كلهم
إلى نفس الحاكم أو أسرته أو خطه السياسي يمكن أن يرسموا سياسة
ديمقراطية؟.
إن كل هذه وأمثالها من المظاهر التي يدلس بها حكامنا المستبدون
الحياة السياسية والثقافة والآراء والأفكار في بلادنا الإسلامية لايمكن
أن تعبر إلاّ عن الأجواء الديكتاتورية الخانقة والضغوط والممارسات
القمعية التي تتم بها مصادرة الحريات، ولذلك لايصح الاكتفاء في التدليل
على الديقراطية وسياسة المشورة في البلد مالم يتمتع الشعب بنظام
برلماني حر منتخب مباشرة من قبل الشعب، وتشارك كل الجهات والأطراف
المتعددة فيه في صناعة موقفه وقراره، وكل ما تم الاتفاق عليه والتصويت
إلى جانبه يكون نافذاً حتى على الحاكم الأعلى أيضاً بلا استثناء ومن
دون أن يمتلك الحاكم أي سلطة عليه وعلى أعضائه،وفي عكس ذلك الصحيح؛ إذ
يكون الحاكم هو المسؤول أمام المجلس، ويستمد شرعية حكومته وقراره منه
أيضاً، بحيث يستطيع المجلس أن يستجوبه في أي وقت أراد واتجاه أي قضية
كانت، كما يمتلك سلطة تنصيبه أو عزله.
شبهة ورد
قد يكتفي الحاكم المستبد في تحصيله على شرعية حكمه بأصل وجود المجلس
الممثل للشعب، أما كون هذا المجلس يعقد بانتخاب الشعب أو بانتخاب
الحاكم لايضر بدستورية الحكم وديمقراطية السياسة، ويحتج لدعواه هذه
بعدة أمور:
1-بأن القرآن الكريم الذي نص على الشورى اكتفى بأصلها ولم ينص صراحة
على كيفية ممارستها هل بالتعيين أو بالانتخاب ؟
2-أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يطبق قانون
الانتخاب في اختيار مستشاريه.
3- أن الحاكم الأعلى مادام قد نال ثقة الشعب وحظي بأكثرية آراء
الشعب في الانتخابات الحرة فإن هذه الثقة التي حصل عليها تمنحه سلطة
تعيين مشاوريه وأعضاء مجلسه.
وواضح أن هذه الدعاوى الثلاث كلها باطلة لاتقدر أن تبرر ديكتاتورية
الحاكم وصلاحيته غير القانونية المطلقة؛ لأن القرآن الكريم عندمت نص
على الشورى أرادها أن تكون مشاورة تجري بين جميع الناس بلا استثناء،
حيث قال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ O (22) والضمير (هم) كلمة عامة في
مفهومها تشمل الجميع، ولكن بما أن مشاورة جميع الناس غير ممكنة في أكثر
الأحيان أصبح الطريق العقلائي والمنطقي لتطبيق ذلك – بحيث نحتفظ
بقاعدة الشورى من جهة وعلى مشاركة جميع الناس فيها من جهة أخرى – هو
اختيار زعماء الناس وأشرافهم وأهل المكانة الاجتماعية فيهم.
وهذا الاختيار لايصح أن ينجزه الحاكم بنفسه، وإلاّ لكان كل رأي يصدر
من واحد منهم يمثل رأيه الخاص، ولايعتبر نافذاً على باقي الناس، وإنما
لابد أن يكون بترشيحهم وانتخابهم المباشر لأهل الشورى أو الحاكم يرشح
مستشاريه ثم يعرفهم على الشعب لكي ينتخبهم، أو هو يختارهم مباشرة، وبعد
ذلك يعرفهم على رأي الشعب، ويجري فيهم تصويت مباشر، لافرق، وإن كانت
بعض الطرق أفضل من بعض فإن القرآن الكريم يخاطب العقلاء وأهل العرف في
وجوب الشورى، ومن الطبيعي أن هؤلاء هكذا كانوا يطبقون الشورى قبل
الإسلام في المسائل الحربية وإن لم ينصبغ بهذه الصبغة المعهودة، وهكذا
يفهمون من الآية الكريمة.
فالنص وان لم يدل بوضوح على وجوب الانتخاب إلاّ أن الفهم العرفي
والعقلائي والسيرة التي كانت متبعة آنذاك تكشف عن أن مراده
من(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(23)، المشورة الانتخابية لا التعيينية،
ويؤيد ذلك عمل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقانون الشورى
كان يتم في كثير من الأحيان حسب أسلوب الانتخاب وترشيح الممثلين، فعنه
(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ((عليكم بالسواد الأعظم)) (24) و:
((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) (25) ومعلوم أن السواد الأعظم هم
أغلبية الأمة وأكثرية الشعب، كما اتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مبدأ الانتخاب في تأسيس مجلس الصحابة الذي يعتبر أول مجلس شورى
شكل في الإسلام، وذلك في بيعة العقبة.
حيث إن الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج قد اختاروا وفداً عنه يتكون
من ثلاثة وسبعين رجلاً، ومعهم اثنتان من نسائهم، فبايعوا رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في العقبة، وبعد البيعة طلب الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله وسلم) من أعضاء الوفد أن يخرجوا إليه – أي يختاروا – من
بينهم اثني عشر نقيباً لكي يمثلوهم، ويتولوا أمرهم، ويكونوا الصلة
بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال في ذلك: ((أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون وكلاء على قومهم))
(26).
وحرصاً من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يكون
التشكيل صادقاً ودقيقاً فقد طلب منهم أن يكون التمثيل في المجلس بنسبة
تعداد كل قبيلة، وأن يكون النقباء أو النواب تسعة من الخزرج وثلاثة من
الأوس، وبهذه الطريقة الانتخابية تم تشكيل أول مجلس شورى في الإسلام،
والذي تطور فيما بعد وأصبح مجلساً يضم أكثر الصحابة.
ومعلوم أن مجلس الصحابة كان يمثل كل المسلمين آنذاك نظراً لطبيعة
المجتمع العربي الذي كان يرتكز على نظام القبائل ورؤسائها وأصحاب
النفوذ والواجهات الاجتماعية، فإذا كان رئيس القبيلة يشارك في المجلس
معنى ذلك أن جميع القبيلة تؤيده وتحميه مما كان يعطي للمجلس وقراراته
دعماً جماهيرياً كبيراً وشرعية أكيدة. كل هذا في الصدر الأول عندما كان
الوازع الديني والثقة المتبادلة بين المسلمين وحضور الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله وسلم) بين أظهر الناس وعلى قمة السلطات السياسية هي
المتحكمة في الأمور، فكيف في عصرنا هذا الذي سادت في السياسة أساليب
القهر والقوة وتسخير المبادىء وتحريف الدين والأخلاق من أجل أهدافها
الشيطانية ؟ فالحاكم الذي يترك له أمر تشكيل المجلس لايستطيع أي أحد أن
يضمن عدم تعديه واستبداده وتفرده بالأمور؛ إذ قد يختار الشخصيات
الضعيفة التي لارأي لها والتي تحسن الطاعة والمجاملة والانقياد التام
لأوامره كمستشارين وأعضاء لمجلسه كما هو المعروف السائد اليوم، فيصبح
حكمه ديكتاتورياً فردياً لاتأمن من أضراره ومخاطره، وهذا يهدم الهدف
الرئيسي الذي من أجله نزل مبدأ الشورى.
مشورة الأمة
لقد أصبحت السياسة الاستشارية التي كان يتبعها رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) مع المسلمين وعياً في أذهان الأمة يحفزهم لأن يبادلوا
الحكام الآراء والمواقف، ويشاركوهم مسؤولية الزعامة وإصدار القرار،
ولذلك استمر نظام الشورى كأُسلوب ديمقراطي واضح يعين سياسة الدولة بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان المسلمون يلزمون الخليفة
بعدم تجاوزهم في أي موقف يتخذه يتعلق بمصالح الكل، كما أن تركيبة
المجتمع الأول كانت بشكل بحيث تمنع أي حاكم أو خليفة من تجاوزه في أي
قرار، فالخلفاء الأوائل وإن دبروا طويلاً من أجل مصادرة الحكومة والميل
بها عن صاحبها الشرعي الذي نص عليه القرآن والرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله وسلم)، وبايعه الناس في اجتماع حافل في قصة مفصلة، إلاّ أن
الأمة كانت تجبرهم دائماً على الرجوع إليها، وتفرض عليهم سياسة
ديمقراطية يشارك فيها جميع الصحابة والمسلمين في جميع الأمور الكبيرة
بل والصغيرة التي تخص عموم الناس لأنها كانت أمة واعية عاشت أشد الخطوب
والمحن والتجارب السياسية، وتعرفت على الأساليب الصحيحة التي مارسها
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في قيادة الدولة، مضافاً الى
السيادة القبلية التي كانت متداخلة مع تركيبة الدولة والتي كانت تتمتع
بقوى ونفوذ كبير في صنع القرارات السياسية.
كل ذلك كان يوزع القدرة السياسية في المجتمع، فكل قرار كان يصدر من
الخليفة ولم يحظ بتأييد الصحابة ورؤوس العشائر كان يواجه بالرفض
والانتفاض إلاّ إذا أصر الخليفة نفسه عليه، ومارس من أجل تطبيقه القمع
والصرامة والشدة، وحمل في سبيله السيف كما حدث ذلك بالفعل عندما تفاجأ
المسلمون بتولي أبي بكر زمام الزعامة على المسلمين بعد رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وهم بالأمس قد بايعوا علي بن أبي طالب (عليه
السلام) وصافحوه على الولاية، حيث انتفضت ضده الكثير من الصحابة
والمسلمين من أهل القبائل، حيث لم يقبلوا بطريقة الالتفاف على الحكم
والتحكم بسلطانه، ونادوا بلزوم رجوعه إلى الزعيم الذي عينه رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) إماماً على المسلمين، حيث جهز أبو بكر جيوشاً
جرارة لعلها بلغت الأحد عشر جيشاً من أجل قمعها والقضاء عليها، والتي
أسماها بعض المتعصبين من المؤرخين زيفاً وتغطية على الأحداث وتعمية
للحقائق باسم حروب الردة عن الاسلام؛ لأنها في الواقع ماكانت ردة عن
الاسلام بل ردة على أبي بكر والأساليب الديكتاتورية التي مارسها من أجل
استلام الحكم، هكذا يرى الأمر بعض محللي التأريخ.
وعلى أي حال فقد كان الخلفاء الأوائل يستدعون في كل مايمس شؤون
الدولة رؤساء القبائل وشيوخ البطون وخيرة الصحابة ويشاورونهم بها، وكان
يعتبر ذلك استفتاء شعبياً غير مباشر؛ لأن تقاليد المجتمع العربي منذ
أقدم العصور كانت تعتبر زعيم القبيلة هو المتحدث باسمها، كما كان يمتلك
هيمنة روحية خاصة على أبناء القبيلة، بحيث لم يكونوا يردون له أمراً او
نهياً ويتعبدون بآرائه ومواقفه.
وكثيراً ماكان هؤلاء الخلفاء أيضاً يلجأون إلى نوع من الاستفتاء
الشعبي المباشر كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
كثير من الأحيان، وذلك بدعوة المسلمين أجمع إلى المسجد والتشاور معهم
في القضية المراد عرضها، كما فعل أبو بكر في مسألة فرض راتب لنفسه من
بيت مال المسلمين عندما تعطلت تجارته بسبب أعباء الخلافة، فبرغم أن
الراتب الذي طلبه أبو بكر ثلاثة دراهم في اليوم الواحد إلاّ أنه عرض
القضية على جميع المسلمين في المسجد قائلاً: أيها الناس، إن عمر وعلياً
قد ارتضيا لي رزقاً من بيت مال المسلمين ثلاثة دراهم في اليوم أرضيتم
بهذا ؟ قالوا: اللهم نعم، نعم قد رضينا. وهنا صاح أعرابي من جانب
المسجد قائلاً: لا والله مارضينا. قال: لم ؟ قال: لأن أهل البادية غير
ممثلين في الجمع.
كما خطب عمر يوماً أمام جمع غفير من الناس في خلاف قد نشأ بينه وبين
بعض الصحابة، حيث دعا المسلمين للمشاورة فيما بينهم لحسم النزاع قائلاً:
إني لم أُزعجكم إلاّ لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أُموركم، فإني
واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق. خالفني من خالفني، ووافقني من
وافقني، ولست أُريد أن تتبعوا هذا الذي هواي. معكم من الله كتاب ينطق
بالحق(27).
فوجود الأمة الواعية هو الذي كان يفرض على الخليفة ممارسة سياسية
ديمقراطية مضمونة دائماً وان كان هو لايرتضيها، ومن هنا نرى أن الإسلام
يطالبنا دائماً بالرجوع إلى الشعب والقاعدة الجماهيرية في كل شؤون
الحكم وعدم الاستبداد والتفرد بالأمور، ولعل ترجمة ذلك في هذا اليوم
ترجمة واضحة يكون في تكوين مجلس للشورى منتخب من قبل الشعب، ويمثله
تمثيلاً حراً وصادقاً في صنع قرار الدولة ونظام الحكم والدولة.
الحقيقة الثالثة: حق المعارضة
إن مبدأ الشورى يحتم وجود المعارضة والمخالفة في الرأي في أي شكل من
أشكالها؛ إذ لامعنى للشورى ولاقيمة للحوار والمناقشة إذا لم تكن هناك
آراء متضاربة ونظريات مختلفة ومواقف متباينة.
بعد أن آمنا بأن حرية الرأي تسمح لكل فريق أن يدلي بصوته ويقف وراءه
ويجمع في سبيل إثباته كل حججه وبراهينه فاختلاف الآراء هو الذي يظهر
الحقيقة على حقيقتها، ويعطي الفرصة السانحة لتمحيص الأمور والقرارات
ودرك قوة أو ضعف الآراء، ولاضير في مجلس يستشيره الحاكم فيجد كل أعضائه
من الموافقين على رأيه سلفاً وقبل المشاورة، ومافائدة مجلس المشورة
السياسي إذا كان ماهراً في فن الطاعة والانقياد والذيلية ؟ ومافائدة
الأعضاء المشاورين إذا أصبحوا إمعات لاتهمهم قضايا الشعب والأمة بقدر
مايهتمون في الفحص عن رغبات الحاكم وآرائه الشخصية ليعلنوا هم عنها
نيابة عنه، ويضموا أصواتهم الى صوته من دون مبرر أو دافع سوى الخوف
والتملق والمصالح الشخصية؟.
لقد حفظ لنا التاريخ العديد من المواقف الاستشارية الحرة التي كانت
تختلف فيها آراء الصحابة وتتضارب عند رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وهو يتوسط بينهم، وكم من مرة اختلفوا فيما بينهم وخاضوا جدالاً
مفتوحاً وطويلاً أحدهما يثبت والآخر ينفي وكل منهم يأتي بالحجج التي
تدعم رأيه وموقفه وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمع اليهم، ويشهد
مناقشاتهم من دون أن يحسم الموقف لأحد مالم تؤيده الحجة والدليل ؟ بل
في بعض الأحيان كانوا يعارضون حتى قراراته (صلى الله عليه وآله وسلم)
ويرفضون تطبيقها مالم يخوضوا في حوار عنها، ويقولون له: يارسول الله،
إن كان هذا أمراً فالله أمرك به فعلينا السمع والطاعة، وأما اذا كان
الاجتهاد والرأي والمشورة فليس هذا رأينا، وإنما رأينا يخالف رأيك.
خاصة وقد كان يحدث هذا غالباً في ظروف الحرب والأوضاع الحرجة التي
قد تتطلب طاعة مطلقة وحسماً سريعاً للقرار القيادي كما حدث في بدر وفي
أحد وفي كثير من الغزوات، فماذا كان موقف الرسول الكريم (صلى الله عليه
وآله وسلم) من تلك المعارضة؟ كل موقفه كان هو أن يقول لهم بهدوء
وسكينة وتواضع: ((لو كان أمراً من السماء لما شاورتكم فيه ولكنه رأيي))
ويضيف على ذلك قائلاً: ((إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمور دينكم
فخذوا به.. لأنه وحي، واذا أمرتكم بشيء من رأيي – أي من أمور الدنيا –
فانما ظننت ظناً – أي هو ناشىء من التفكير ومايراه إنه مصلحة لا إنه
وحي – فلاتؤاخذوني بالظن)) (28).
فالأمر بالشورى لم ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لمجرد تطييب خواطر الصحابة أو لمجرد جذبهم وتشريفهم بإشعارهم أن لهم
دوراً ورأياً في ممارسة الحكم، بل نزل لكي يقولوا آراءهم ويعارضوا كيف
يشاؤون فيما لم ينزل فيه وحي أو نص من القرآن أيضاً؛ وذلك لأن الإسلام
لم يرد للأمة أن تكون أمة ذيلية ومنقادة لاتقدر على شيء في مقابل
الحاكم سوى الخضوع والاستسلام والتعبد بأقواله وأفعاله، بل حثها على
الحوار والاستفسار والمساهمة في الرأي لكي يلغي ظاهرة الطبقية السياسية
والاستبداد في السلطة، حيث تكون هناك فئتان: فئة حاكمة فقط وفئة محكومة
فقط، فئة تأمر فقط وفئة تمتثل الأمر.
وكذلك حتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أعظم شخصية
شهدها العالم البشري كان مكلفاً بالمشورة واحترام الآراء والاستماع
إليها. ومن العجب أننا نجد أن بعض الحكام في عصور الاستبداد والفردية
يعتبرون أنفسهم فوق مستوى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فلايستشيرون أحداً، ولايقبلون معارضة من أحد، ولولا الخجل أو العجز
لادّعوا لأنفسهم العصمة والألوهية أيضاً كما ادعاها فرعون؛ لأن
الاستبداد طبيعة واحدة لاتختلف، واذا أجبرتهم الظروف السياسية أحياناً
للبروز بمظهر ديمقراطي فإنهم يكتفون بتشكيل مجلس للمشورة يزجون فيه كل
مسؤولي النظام وأصدقائهم وأقربائهم، وغيره من المظاهر الدستورية
الكاذبة التي تنطوي على غش وخداع وجمود في التفكير وإصرار على
الديكتاتورية في كل حال.
وخلاصة الكلام: أن مبدأ الشورى يحتم إذاً وجود المعارضة واختلاف
الآراء والمواقف بين أطراف الشورى. هذا مما لابد فيه، فلايمكن إلغاؤه
أو القضاء عليه، وحينئذ يكون السؤال عن السبل التي يجب أن نتبعها في
قبال ذلك، بحيث نحول الخلاف إلى وحدة والمعارضة إلى اتفاق. والجواب هو
العمل بالأكثرية دائماً.
الحقيقة الرابعة: حكومة الأكثرية
إن تطبيق الشورى يقتضي الأخذ برأي الأكثرية المشيرة والعمل على طبقه،
وإلاّ فقدت الشورى مصداقيتها وباتت بلا دواع ومبررات، وهذا تكريس
للاستبداد والديكتاتورية التي قام نظام الشورى من أجل أن يقضي عليهما.
العمل بأكثرية الآراء بعد إتمام المشورة من الشرائط الضرورية الذي
يتضمنه معنى الشورى، وعلى هذا أفتى بعض العلماء أيضاً القائلين بوجوب
اعتماد الشورى في نظام الحكم.
قال المرجع الشيرازي (دام ظله) في الفقه الحكم في الإسلام: إن تقديم
رأي الأكثرية هو من مستلزمات المشورة المقررة في الكتاب والسنة
والإجماع والعقل (29).
وقال آخر: صحيح أن باستطاعة المسلمين أن يعتمدوا الإجماع ويعملوا به
في أمورهم، وبذلك قد اعتمدوا أصل الشورى واحترموا رأي الأكثرية، إلاّ
أن اتفاق الآراء وإجماعها على المسائل التنفيذية أمر غير ممكن، وسيرة
رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) وسائر قادة
الإسلام تؤكد أنهم حين إجراء الشورى كانوا يتبنون الرأي الأرجح،
ويأخذون بالأكثرية(30).
فلايمكن تجاوز الأكثرية بعد إتمام المشاورة وتقديم رأي غيرها عليها؛
لأننا نقع في عدة محاذير عقلية وشرعية، لأننا بعد المشورة نكون أمام
عدة خيارات:
1-أن نستشير ولانعمل بنتيجة المشورة، وهذا باطل قطعاً ؛ لأنه نقض
لقانون المشورة وللغرض منه أيضاً، مضافاً الى أن المشورة نفسها ستكون
عملية زائدة ولغواً باطلاً عند الحكماء.
2-أن نعمل بكلا الرأيين المتعارضين – الأقلية والأكثرية – وهذا في
نفسه محال في بعض الأحيان؛ لأنه يستدعي أن نلتزم ونعمل بالنقيضين في
وقت واحد إذا كانت الآراء متعارضة بين السلب والإيجاب، كوضع الحرب مثلاً
إذا تعرضت البلاد إلى هجمات حربية، وانقسمت آراء المستشارين بين من
يقول بلزوم الدخول فيها ومن يقول بعدمه فكيف نعمل هنا ؟ هذا فضلاً عن
أنه يستلزم وقوع الفوضى والهرج والمرج وهي من الأُمور المحرمة في
الشريعة.
3-أن نعمل حسب رأي الأقلية، ونلغي رأي الأكثرية الغالبة، وهذا أيضاً
لايصح لأنه استبداد محرم في الشريعة أولاً، وعمل يتعارض مع أساس الشورى
ومعناها.
4-فلم يبق أمامنا إلاّ حل واحد هو أن نقدم رأي الأكثرية الغالبة،
ونعمل به، ولعل هذا الحل هو السبيل الوحيد الذي يكفل لنا حسم النزاعات
الجانبية التي تنشأ من ترك بعض الآراء والعمل ببعضها الآخر، فإن
الأقلية لاتجد في نفسها أي مبرر للاعتراض على المشي وفق ما صوتت لأجله
الأكثرية، وتطييب خواطر المستشارين وزيادة تماسكهم وتلاحمهم في تطبيق
نتائج المشورة وإن خالفت آراءهم أحياناً، والقرب من روح الشورى
ومضمونها؛ لأن القصد من الشورى هو إخضاع سياسة الدولة ونظامها السياسي
إلى موازين استشارية تمنع أو تحدد من نسبة الخطأ والاشتباه فيها عبر
مبادلة الآراء ودراسة كل الأبعاد والجوانب التي تتعلق بموضوع البحث.
ومن الواضح أن الرأي الذي صوبت عليه الأكثرية يتمتع بنسبة أكبر من
الصواب والدقة والتأييد غالباً، مضافاً إلى أننا لو لم نقبل بتقديم رأي
الأكثرية لكان علينا التمسك بتقديم رأي الأقلية عليه، وهو حل يرفضه
المنطق والعقل أولاً، وثانياً يمهد السبيل لعودة الاستبداد واحتكار
الرأي مرة أخرى؛ وذلك لأن الديكتاتور الفرد إذا وجد أمامه طريقين
مختلفين وهو يمتلك الخيار بينهما في خطواته السياسية فإنه سوف يعرض
سياسة البلد إلى التغيير وعدم الثبات من جهة، كما يكرس الديكتاتورية
ويعطي للحاكم الفرصة السانحة لفرض آرائه ومواقفه على الآخرين؛ وذلك لأن
الرأي الحاكم الجدي في نتيجة الأمر سيكون إما مطابقاً لرأي الأكثرية أو
مطابقاً لرأي الأقلية، وعلى كل حال سيحدث العمل على رأيه مبرراً كافياً
لإلغاء الآراء الأخرى، باعتبار أن كلا الطرفين الأكثرية والأقلية صحيح
وشرعي، فإذاً اذا كان رأيه مع الأكثرية فبها، وإن كان رأيه مع الأقليه
فبها أيضاً، ولايمكن لأي من الطرفين الاعتراض عليه بأنه مخالف لقوانين
المشورة، فلكي نضمن توازن معادلة المشورة لابد إذاً من العمل بآراء
الأكثرية.
مبدأ الأكثرية في الشريعة
التزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمبدأ الأكثرية في
الموارد التي لانص فيها ولا وحي حتى لو انعقدت الأكثرية مخالفة لرأيه (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وهناك أدلة وشواهد عملية من التأريخ على
ذلك(31)، منها:
1-في حرب أحد جاءت قريش مستعدة لحرب المسلمين ونزلت قبل جبل أحد
وعرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدومهم، فاستشار الصحابة
مبيناً رأيه الخاص في ذلك وهو البقاء في المدينة كخطة دفاعية للوقيعة
بهم؛ لأنه إذا دخل القوم الأزقة قوتلوا ورموا من فوق البيوت، ولكن
الأغلبية من المسلمين رأت الخروج، وفي هذا علق المرحوم المحقق النائيني
H حول موقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخروج الى أحد قائلاً:
في غزوة أحد مع أن رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المبارك
وجماعة من أصحابه كان عدم الخروج من المدينة المشرفة مرجحاً التحصن
فيها، وتبيين بعد الحرب أن المصلحة والصواب كان في البقاء في المدينة،
ولكن رغم ذلك خرج الرسول من المدينة لكون الأكثرية أيدت ذلك فتحمل (صلى
الله عليه وآله وسلم) تلك المصائب الجليلة.
2-وأيضاً كان رأيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حصار الطائف الرجوع
فلم يرض الناس وقالوا: نرحل ولم تفتح علينا الطائف؟ فقال لهم وقد نزل
على رأي الأكثرية: ((فاغدوا على القتال)) فرجع (صلى الله عليه وآله
وسلم) عن رأيه حتى اذا استبان لهم عدم جدوى البقاء قال لهم الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم): ((إنا قافلون غداً))فسروا بذلك وفرحوا(32).
الأمر الذي يكشف لنا أن نتيجة الشورى ملزمة للحاكم أيضاً وليست
اختيارية، وعليه اتباعها ولو كانت مخالفة لرأيه، مضافاً إلى ذلك فإن
الآيات والروايات الداعية إلى لزوم الجماعة والسلوك في سبيل أكثرية
الأمة ولو الأكثرية النسبية لحفظ زيادة الوحدة. هذه كلها تؤيد مبدأ
الأكثرية، منها الآية القرآنية التي تعطي لسبيل المؤمنين موضوعية خاصة
في لزوم المتابعة، حيث ذمت من يترك سبيل المؤمنين ويذهب لسبيله. قالت:
(وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)(33)، وكذلك الحديث الشريف
((خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر)) (34) ((فإن المجمع
عليه لاريب فيه)) (35) هو أن مراعاة الأكثرية ومتابعتها في العمل يؤمن
الزلل في أكثر الأحيان.
وواضح أن المراد من المجمع ((المجمع عليه)) ليس الإجماع الشرعي
ليخرج من البحث عن الأكثرية والأقلية، وإنما المراد من ((المجمع عليه))
هو الجمع العرفي الذي يصدق على الأكثر أيضاً، ولعل المراد منه هنا على
سبيل التعيين هو الأكثر بقرينة ((ودع الشاذ النادر)) الذي يكشف عن وجود
قولين، أحدهما مشهور وعليه الأكثر، والآخر قليل ونادر.
وأيضاً يقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إن الله
تعالى لايجمع أمتي على ضلالة، ويد الله تعالى مع الجماعة، ومن شذ شذ
الى النار)) (36).
والرواية المنقولة عن أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)أنه قال: ((اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من
اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة)) (37).
وعلى أي حال فإن تقديم الأكثرية على الأقلية في الرأي مسألة عقلائية
لايصح أن يختلف عليها اثنان حتى إنا نجد الحاكم في أي بلد ديمقراطي
قائم على نظام المشورة لايعتبر مسؤولاً وحده عن القرارات التي تتخذ
برأي الأكثرية وإن كان مسؤولاً عن طريقة تنفيذها والعمل على طبقها.
واذا تعارض رأي الحاكم مع رأي المجلس أو البرلمان فعليه أن يحاول
إقناعه أولاً، أو التنسيق والجمع بين الرأيين، فإذا لم يتمكن على ذلك
فعليه الالتزام بتنفيذ قرار المجلس لإقراره الشخصي؛ لأن رأي المجلس
الناجم عن تشاور الجماعة أصوب وأدق من رأي الحاكم الفرد دائماً إما من
جهة الواقع أو من جهة الطريق.
خاصة وأن متابعة آراء الأكثرية يقطع دابر الفردية؛ لأن أي حاكم
مستبد يعرض الدولة والشعب إلى مخاطر ونتائج سلبية كثيرة، وهذا هو الخطر
الكبير الذي أراد الإسلام أن يجنب جماعة المسلمين وحكامهم من الوقيعة
فيه، فسن قانون الشورى، وألزم العمل به، وكيف يمكن أن يتصور الإنسان أن
نتيجة الشورى – الأكثرية – غير ملزمة في الوقت الذي نجد أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه هو الملهم الذي يأتيه الأمر والتوجيه
من السماء مباشرة ومن بين يديه ومن خلفه كان حريصاً على المضي وراء
الأكثرية، فمتى مااستشار أصحابه التزم بالرأي والمشورة حتى لو عارضت
رأيه، وقد أعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك في أكثر من مناسبة.
منها ماجاء عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنه عندما
نزلت هذه الآية الكريمة: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكّلْ عَلَى اللّه)(38)، جاء الإمام علي(عليه السلام) إلى الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله عن معنى كلمة {عزمت} فقال
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مفسراً لها:((مشاورة أهل الرأي ثم
اتباعهم)) (39).
* فصل من كتاب الحرية السياسية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء
المقدسة
........................................................
(1) آل عمران: 159.
(2) سير أعلام النبلاء:ج 18، ص 205 ؛ مدافع
الفقهاء:ص 68.
(3) واليك نماذج من العلماء الذين قتلوا بالسم أو
الحرق أو التعذيب منقولة عن بعض كتب التاريخ والرجال:
1-بديع الزمان الهمذاني استشهد بالسم عام ((397
هـ)).
2-الحلاء المعروف بـ(الناشىء الأصغر) قتل حرقاً
بالنار عام ((366 هـ)) وعمره 95 سنة.
3-محمد بن هاني الأزدي المعروف بـ (متنبي الغرب)
لأنه من الأندلس استشهد قتلاً أو خنقاً على خلاف بين المؤرخين وعمره
((36)) سنة.
4-أبو الحسن التهامي قتله العباسيون في السجن سراً،
أو تحت التعذيب.
5- الشهيد الأول الذي لاتزال كتبه وفتاواه وآراؤه
مدار الحوزات العلمية الإسلامية في الفقه والأصول والحديث. جاهد في
سبيل الله حتى استبيح دمه، فقتل ثم صلب ثم أحرق بالنار في رحبة قلعة
دمشق عام ((786 هـ)) وله من العمر ((52)) سنة.
6-الشهيد الثاني وهو كالشهيد الأول في المجد والعظمة
العلمية والروحية، كان مجاهداً في سبيل الله حتى ضاق عنه حكام لبنان
وحكام الروم، وبحثوا عنه تحت كل حجر ومدر، وأخذوه في أيام الحج، فقتل
على ساحل البحر في قصة طويلة، وأهدي رأسه الى ملك الروم، وترك جسده
الشريف على الأرض، وغيرهم عشرات العشرات من العلماء المجتهدين الشيعة
الذين قتلوا بهذه الطرق الوحشية تلبية لأهداف السياسة.
(4) الوسائل:ج 27، ص 167، ح33509، باب 12 باب وجوب
التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى.. وفيه عن الامام الرضا (عليه
السلام) قال: قال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد:
((أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت)).
(5) مسند أحمد:ج 4، ص 328.
(6) آل عمران: 159.
(7) الميزان: ج4، ص64؛ الدر المنثور:ج 2، ص 359 ؛
الشورى والنص: ص 26.
(8) كشاف القناع:ج 3، ص 73 ؛ نيل الأوطار:ج 8، ص 46،
بعض ماجاء في غزوة الحديبية: 14.
(9) مسند أحمد:ج 3، ص 362 ؛ عيون الأثر: ج1، ص217.
(10) سيرة ابن هشام:ج 2، ص 447 ؛ إحقاق الحق
((الأصل)): 286.
(11) البحار:ج 19، ص 218.
(12) المصدر نفسه.
(13) الشورى والديمقراطية: 22 ((بتصرف)).
(14) المصدر نفسه.
(15) المصدر نفسه.
(16) المصدر نفسه.
(17) المصدر نفسه.
(18) المصدر نفسه.
(19) تاريخ مدينة دمشق:ج 2، ص 37.
(20) البداية والنهاية ((لابن كثير)):ج 4، ص 406 ؛
يصح أن يمدح المعصوم نفسه:ص 15.
(21) المصدر نفسه.
(22) آل عمران: 159.
(23) آل عمران: 159.
(24) النهاية في غريب الحديث والأثر: ج2، ص419.
(25) صحيح البخاري:ج 4، ص 78.
(26) فتح القدير:ج 5، ص 223.
(27) من حياة الخليفة عمر بن الخطاب:ص 342.
(28) انظر صحيح مسلم: ج7، ص95 ؛ الشفا بتعريف حقوق
المصطفى:ج 2، ص 184.
(29) الفقه ((الحكم في الاسلام)): ج 99، ص 57.
(30) نقلاً عن شورى الفقهاء المراجع: ص 358.
(31) نقلاً عن شورى الفقهاء المراجع:ص 36.
(32) انظر عيون الأثر:ج 2، ص232 ؛ المغني: ج10،
ص545؛ مسند أحمد: ج2، ص11، صحيح البخاري: ج5، ص102؛ صحيح مسلم: ج5،
ص169.
(33) النساء: 115.
(34) مستدرك الوسائل:ج 17، ص 303، ح21413، باب9 باب
وجوب الجمع بين للاحاديث المختلفة.
(35) المصدر نفسه: ح21412، باب 9.
(36) كنز العمال:ج 12، ص 156، ح34461.
(37) الجامع الصغير: ج1، ص31.
(38) آل عمران: 159.
(39) انظر فتح القدير: ج1، ص395. |