مغزى زيارة كربلاء

وسانتياغو دي كومبولا وذي الكفل

علي الأسدي

المشاهد للمسيرات الحاشدة من النساء والرجال المنطلقة من مختلف مدن العراق وقراه، وهي تتجه نحو كربلاء في عاشوراء سيرا على الأقدام، يتساءل: ما خطب هؤلاء، يتركون بيوتهم وأعمالهم، متحملين العناء كله، ليؤدوا زيارة لمرقد رجل مضى على استشهاده أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن؟ 

لكن للذين شاهدوا عن قرب، أو سمعوا عن طقوس دينية مماثلة من غير المسلمين، تجري في مجتمعات أوربية أكثر تقدما ثقافيا واقتصاديا من مجتمعنا،فلن يصابوا بالدهشة أبدا، فالناس هناك تقطع مئات الكيلومترات أيضا، مشيا على الأقدام، يدفعها ذات الشعور الانساني الذي يقود ملايين الناس الفقراء لكربلاء.

كامينو دي سانتياغو مدينة اسبانية تقع في الشمال الغربي من البلاد، أخذت شهرتها التاريخية بسبب ما قيل عن وجود ضريح القديس جيمس فيها الذي يؤمه للزيارة والتبرك المسيحيون الكاثوليك من شتى أنحاء أوربا والعالم.أطلق على الطريق المؤدي إلى ذلك المزار بطريق سانت جيمس. أما وجود مزار القديس جيمس في سانتياغو فمصدره أسطورة، مفادها، أن ناسكا مسيحيا اسبانيا، عاش في القرن التاسع الميلادي قد رأى أثناء منامه أن أحدا أمره بالسير باتجاه النجوم ففعل كما أمر به، حتى انتهى به المطاف إلى موقع في سانتياغو في اسبانيا. في ذلك الموقع عثر الناسك على رفاة القديس جيمس، ومع مرور الوقت انتشرت تلك الاسطورة بين مسيحي العالم، وعلى إثرها شيد في المكان ضريحا وكنيسة باسم القديس جيمس، ومنذ ذلك الوقت تحول الضريح إلى مزار يتجه لزيارته ملايين الناس سنويا. وقد ساد في حينها اعتقاد بين الناس أن المشي على الأقدام لذلك المحج يخلصهم من ذنوبهم ويضمن لهم الجنة في الآخرة. وبرغم تقدم المواصلات ووسائط النقل الحديثة إلا أن الناس يصرون على المشي على الأقدام أو باستخدام الدراجات الهوائية، والقليل منهم يستخدم سياراته الخاصة.

الطريق الرئيسي للحج يبدأ من مدينة صغيرة في فرنسا اسمها لوردس، فيما تتوجه جماعات من  الزوار من ايطاليا مرورا بأهم المدن الاسبانية في الشمال مثل سان سيبستيان وبلباو، حيث يستريحون خلال رحلتهم في آلاف الفنادق التي انتشرت على الطريق،اضافة إلى المطاعم والمقاهي والمحال التجارية المتخصصة بالسلع ذات العلاقة بالزيارة والمزار. وتقع على الطريق أيضا العديد من المستشفيات والمراكز الصحية ومكاتب لختم جوازات الحجاج لاثبات أدائهم فريضة الحج. كما شيدت عشرات الجسور على الأنهر المحاذية للطريق لتسهيل انتقال الحجيج إلى المواقع الدينية الأخرى حيث عشرات الكنائس التاريخية. يفضل الزوار رحلة الحج في الربيع أو الصيف، ذلك لأن الطرق الجبلية التي يمر عبرها طريق الحج تتجمد أيام الخريف والشتاء، ما يعني أن الزيارات التي يؤديها الناس غير مرتبط بشهر أو تاريخ معين، على عكس الحال مع المسلمين عند أداء فريضة الحج إلى مكة التي تبدأ في شهر ذي الحجة، أو الزيارات الحسينية التي تبدأ في شهر محرم.

يبلغ طول الطريق من فرنسا حتى محج القديس سانت جيمس في سانتياغو حوالي 900 كم وتستغرق الرحلة 30 يوما بمتوسط سير 30 كم في اليوم، وتنقل مصادر تاريخية بأن المزار كان موجودا مدة طويلة قبل المسيحية، حيث يواصل الزوار رحلتهم شمالا حتى شواطئ المحيط الأطلنطي عند كاليسيان التي اعتبرت طبقا لمعتقدات الناس حينذاك نهاية العالم. كان التقليد الشائع قبل المسيحية أن يحمل المشاة المتوجهون إلى المزار حرشفا لمحار بحري،تشبه هيئته الخارجية أشعة الشمس اثناء غروبها، حيث يعتبروه رمزا للخير والنماء. وكما ورد في الأساطير فإن المشاة بعد أدائهم زيارة المرقد يتابعون رحلتهم حتى شواطئ الأطلنطي، ويبقون هناك  ليشاهدوا النجوم وهي تغرق في مياه المحيط الذي سمي أيضا ببحر الظلمات أو بحر الموت، حيث تموت النجوم منهية رحلتها الأخيرة استعدادا لتبعث من جديد. فيما ترى مصادر أخرى أن مزار القديس جيمس قد شيد منذ 1000 عام، ويعتبر المزار بالنسبة للمسيحيين الكاثوليك في العالم  في المرتبة الثالثة في الأهمية بعد الفاتيكان في روما والقدس في فلسطين.

من هو القديس جيمس؟

تقول الروايات المتاحة في كوكل وغيره أنه في عام 44 للميلاد وأثناء عودة الحواري جيمس إلى مدينة القدس بفلسطين ألقي القبض عليه ونفذ بحقه حكم الاعدام بقطع الرأس بأمر من هيرود أغريبا الأول. ووفق هذه الأساطير أن الملائكة نقلوا جثة القديس عبر البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، ثم اتجهوا به غربا عبر ميناء جاليسيا الروماني حيث دفن في سانتياغو دي كومبولاستيلا. لكن أهمية طريق الحج أو طريق القديس جيمس قد تضاءلت كثيرا في القرن الثاني عشر إثر تصاعد حركة الاصلاح الديني التي قادها المصلح البروتستانتي مارتن لوثر كينك. لكن أهميته عادت ثانية لتزدهر في الثمانينيات كزيارة دينية وسياحية، امتدت شهرتها في كل انحاء العالم.

وفي فرنسا أيضا تعتبر مدينة لوردس محجا لملايين الزوار المسيحيين الكاثوليك، حيث موقع كنيسة السيدة العذراء. وتنقل الأساطيرعن هذا المحج، انه في عام 1850 ظهرت السيدة العذراء في مدينة لوردس 18 مرة أمام طفلة أسمها برناديت سوثبيروس، حيث طالبتها العذراء أن تنقل رغبتها إلى أبرشية لوردس لبناء كنيسة في نفس المكان نفسه الذي ظهرت فيه، وذلك من أجل تقريب العلاقات بين ابنها عيسى المسيح والمجتمع. وقد شيدت بالفعل كنيسة استقطبت اهتمام ملايين الناس في العالم، ويذكر أن ستة ملايين حاج يأتي لزيارة الكنيسة كل عام من داخل فرنسا ومن خارجها. مدينة لوردس الصغيرة التي لا يزيد عدد نفوسها عن 15 ألف نسمة، فيها من الفنادق أكثر من أي مدينة فرنسية عدا باريس العاصمة، وذلك لعظم أعداد الحجيج الذي  يؤم المدينة لزيارة كنيسة العذراء مريم.، وكذلك الحال مع كنيسة فاطمة الواقعة في مدينة صغيرة عدد نفوسها 8000 نسمة الواقعة على بعد 75 ميلا شمال لشبونة العاصمة البرتغالية، حيث يؤمها الزوار بأعداد تصل إلى الملايين سنويا. ولا تنفرد هذه المدن بهذه المشاهد بل يمكن مشاهدتها أيضا قرب أضرحة القديسين في مدن إيطاليا واليونان والمكسيك وفي أماكن أخرى في بقية العالم.

الاعتقاد السائد بين زوار هذه الأضرحة أن للقديسين القدرة على شفاء الأمراض المستعصية، وأن المعاناة التي يقاسونها أثناء قدومهم للزيارة يجلب لهم رضا الرب ويمنحهم الشفاء. لذا تجد أن بعض الزوار يقومون بالزحف على الركبتين أو على الأطراف الأربعة لمسافة عدة كيلومترات محملين أنفسهم متاعب إضافية سعيا لتحقيق ما جائوا من اجله.  والبعض يقوم بحمل المريض الطفل على الظهر أو بين يديه ويحبو على ركبتيه حتى الضريح. مشهد الأفراد وهم يزحفون حاملين مرضاهم تتكرر حول مزار القديس جيمس في سانتياغو الاسبانية، وكذلك عند كنيسة فاطمة حيث تمثال مريم العذراء الواقعة على بعد 75 ميلا شمال مدينة لشبونة العاصمة البرتغالية. ولا تنفرد هذه المدن بهذه المشاهد بل يمكن مشاهدتها أيضا قرب أضرحة القديسين في إيطاليا واليونان وفي بقية دول أوربا  والعالم.

لا يقتصر التردد على المزارات المقدسة على المسيحيون الكاثوليك وحدهم، فالمسيحيون البروتستانت والأرثودوكس والمسلمون واليهود والمندائيين والأيزيديين لهم طقوسهم المماثلة وإن تباينت أعداد زوارها. إنها مشاعر بشرية عامة لازمت الانسان منذ مراحل وجوده الأولى وحتى أيامنا الحالية، وهي تعكس شعور الانسان بالضعف أمام قوى الطبيعة الخارقة، أو الأخطار التي يسببها البشر ذاتهم التي قد تهدد ممتلكاتهم أوحياتهم. ومن هنا تتشبث الجماهير الفقيرة المستضعفة بالقوى الغيبية ممثلة بأولئك الأنبياء والقديسين الذين يتوسمون فيهم الأمل والعون لتحسين أحوالهم ورفع الحيف عنهم. فزيارة أضرحتهم والبكاء على قبورهم لم يأت من لا شيء، بل من حاجة الناس لمعونة لم تستطع قدراتهم البدنية والعقلية الإيفاء بها.

والمجتمع العراقي الذي تعرض للكبت والحرمان والاضطهاد القومي والطائفي والسياسي من قبل حكامه عبر التاريخ، يجد في زيارة أضرحة الأنبياء سبيلا للتعبير عن أحزانه ومآسيه، وكذلك عن أفراحه وآماله بغد أفضل.

 بعكس نظرة النظام السابق العدائية للطقوس الدينية الشيعية التي كان يمارسها الناس في بعض مواسم العام، تتصرف حكومات الدول المتقدمة باحترام مزاولة الناس لطقوسهم بصرف النظر عن أصولهم. فهذه الأخيرة تمنحهم الدعم والحماية الضرورية، وتعامل المزارات وزوارها  باعتبارها تراثا ثقافيا، يوحد ملايين الناس في مشاعر التصالح مع ذاتهم ومع بعضهم. ولتأكيد القيمة الروحية والتراثية لتلك المواقع بادرت المنظمة الدولية للأمم المتحدة بحماية تلك المزارات التي تجذب ملايين الناس للزيارة وأداء الصلاة والتعبد فيها، كما اعتبرتها منظمة الثقافة والآداب والعلوم معلما ثقافيا واجتماعيا جدير بالعناية.

يعتبر العراق أكثر بلدان الشرق الأوسط ثراء بالمزارات الدينية التاريخية لمختلف الأقوام التي تسكن أو سكنت وتعايشت في وادي الرافدين، حيث يعود بعضها إلى الحقبة السومرية والبابلية والأشورية. وتحظي المزارات اليهودية في نفوس اليهود العراقيين بأهمية بالغة، إذ برغم هجرتهم أو تهجيرهم القسري من بلادهم العراق في أربعينيات القرن الماضي بقوا متعلقين بأضرحة أنبيائهم المقدسين. وكما تذكر كتابات بعضهم في وسائل الاعلام أن لديهم رغبة قوية للعودة إلى العراق وطنهم الأم، لزيارة أضرحة النبي نوح وابراهيم وأيوب وحزقبال (ذي الكفل) وأضرحة عزرا ويحزقيل ويونان ونحوم وغيرهم. وللمسيحيين مزارات مقدسة يؤمونها في مختلف اوقات السنة تبركا وسعيا لرضا الرب عنهم. وبالنسبة للإيزيديين الذين يعتبرون من المكونات العريقة لمجتمعنا العراقي، فلهم مزارتهم الخاصة بهم يؤمونها في بعض ايام السنة تعبدا وطلبا للخير والبركة. و تحظى الطائفة المندائية بحرية مزاولة طقوسهم الدينية والشعبية على هدى أسلافهم منذ آلاف السنين، فهم كالأيزيديون تمتد جذور ثقافاتهم عميقا في التاريخ العراقي.

مثل هذا الميل القوي لدى الناس لزيارة أضرحة أنبياء وقديسين، رجال او نساء مضى على وفاتهم آلاف أو مئات السنين، لم يأت من لا شيء، بل من حاجة الناس لمعونة لم تستطع قدراتهم البدنية والعقلية الإيفاء بها، ولهذا يتوجهون نحو قوى يعتقدون أنها الوحيدة القادرة على مد العون والتعاطف وتخفيف المعاناة عنهم. وعلينا بصرف النظر عن معتقداتنا الدينية واللادينية احترام معتقدات الناس ومشاعرهم، وبفضل ذلك وحده سنتفهم مغزى أن يتوجه من لا حكومة عادلة ونزيهة له صوب السماء طالبا العون، أو مغزى، أن تزحف أم على ركبتيها لمئات الأمتار حاملة وليدها المعاق نحو ضريح الإمام الحسين، أو ضريح الإمام النعمان، أو كنيسة مريم العذراء، أو مرقد ذي الكفل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 23/كانون الاول/2009 - 6/محرم/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م