لا راحة إلا فى التغيير

على جمال الدين ناصف

لقد خلق الله عز وجل الانسان ملولا وعجولا، يمل النعم إذا طالت عليه، ويمل الشقاء إذا طال به، يمل الشتاء إذا دام، يمل الحر إذا طال، يمل طيب الطعام إذا أستمر عليه، ويمل الطعام الخسيس إذا ايضا استمر عليه، وقد مل بنو إسرائيل أكل المن والسلوى، إذ قالوا " لن نصبر على طعام واحد، فإدع ربك أن يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها." ولا نعرف لماذا لامهم موسى عليه السلام فى ذلك وإن كان الملل طبيعى عند الانسان، ربما كان اللوم منشأه صيغة الطلب إذ كانت مذمومة ( فإدع لنا ربك).... !!! وليست الصيغة التى كانت يجب أن تصدر من التابعين لمتبوعهم.

 لذا نجد الانسان قد استعان على درء الملل بالتنويع والتنقل والتغيير، حتى وإن كان من حسن إلى رديء، فقد نرى من يشتهى أتفه الطعام بجانب أطيبه، والبعض يقصد الرحلات الخلويه مع الطبيعة هربا من القصور الشامخة والابنية المشيدة، وقد روعى هذا فى برامج التعليم والتدريب: فدرس رياضيات بعد درس لغة إنجليزية، ودرس فى إدارة الاعمال بعد درس فى الاحصاء، وهكذا دفعا للملل من الدرس أوالمدرس، هذا وأننا نرى ذلك ايضا فى برامج الحياة عامة: لعب بعد عمل، مزاح بعد جد، فرح بعد ضيق، وحتى الطبيعة قد راعت فى برنامجها هذا التغيير: كاليل والنهار، والبرد والحر، وضوء الشمس وضوء القمر، وهكذا ولولا هذا التناغم العجيب الذى يتعاقب على الانسان لضاق الناس ملل لا يطاق، ولكانت الحياة عبئا ثقيلا لا يحتمله الانسان، ولفر الناس من الحياة إلى الموت طلبا للتغيير والتنويع.

 فقد ظن الناس أن الراحة الانغماس فى الكسل، والاضراب عن العمل، والتمدد على سرير مريح، أوالاتكاء على كرسى مريح، وليس هذا أيضا بصحيح دائما، إنما الراحة فى التغيير من حال الى حال، من عمل الى لا عمل، ومن لا عمل الى عمل، فما أحلى النوم بعد التعب، وما احلى اليقظة بعد النوم - ونجد فى الجلوس راحة بعد إطالة الوقوف، وفى الوقوف راحة بعدما طال الجلوس، وفى الفراغ راحة بعد طول العمل، وفى العمل راحة بعد طول الفراغ هكذا يكون نظام الحياة الملل من الدوام، والراحة فى التغيير.

 إن أقدر الناس فى هذه الحياة من إستطاعوا أن يتغلبوا على الملل والسأم بالتغيير المناسب فى نفسه وغيره، وليس خفى عن أحد أن الاديب القدير من إستطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابته، وكذلك الممثل القدير من إستطاع أن ينوع فى الادوار التى يقدمها لجمهوره وإلا كان ملول، وخير البرامج التى نشاهدها الان على الفضائيات ما إستطاعت أن تجدد نفسها من حين الى آخر تجديدا يتفق ومنفعة الناس ويتفق مع قواعد الرقى، وخير القادة من إستطاع أن يجدد فى دعوته، فإن كان له مبدأ واحد مثلا يدعو اليه إستطاع أن يبرزه كل يوم أو كل فترة فى شكل جديد يلفت النظر اليه، ويبعث فيه النشاط والحركة.

 وأننى أجد كثير من شرور هذا العالم سببه الملل، فكسل الطالب وإنصرافه عن الدرس نوع من الملل، وكسل الموظف وقعوده عن الجد فى العمل نوع من الملل والسأم، والخمود السياسى والفكرى والاجتماعى أيضا نوع من الملل.

 وفى أغلب الاحيان ما يكون الميل الى الكيوف والادمان عليها نوعا ايضا من الملل، وكثيرا ما يكون الشقاق العائلى والمعاناة الاسرية والمشادة بين الزوجين أحيانا والابوين وأولادهما تكون أحيانا كثيرة تعبيرا عن نوع من الملل.

 من أجل هذا كله أصبحت الحياة فنا يجب ان يدرس ويتعلم، حتى كل شئ إذا ما إرتقى وتعقد أصبح فنا أوجب دراسته، ثم أصبحت التربية فنا أوجب أن يدرس بعدما كان الابناء تربى من قبل أمهاتهن وأبائهن حسبما أتفق، كذلك فإن الحياة نفسها نحياها الآن حيثما اتفق، ولكنها تعقدت وأصبحت بحاجة الى العديد من الدراسات. وحتى حياتنا الاسرية نطالب فيها المرأة أن تتجدد فى بيتها حتى لا يمل زوجها، والزوج يتجدد حتى لا تمل زوجته، والمدرس يتجدد حتى لا يمل طلبته، ورئيس الحزب يتجدد حتى لا يمل تابعيه، والوزير يتجدد حتى لا يسأم منه مرؤوسيه، وإن كان التغلب على الملل والسأم ليس من الامور الهينة، وليس كل تغيير يصلح لازلة السأم أوالملل، فدائما سوف يصلح التغيير عندما ندرس النفس ونوع التغيير، وحسبما نقوم بدراسة المرض نقوم أيضا بدراسة نوع العلاج، ليكون فى النهاية الدواء طبقا للداء.

* بورسعيد – مصر

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/كانون الاول/2009 - 2/محرم/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م