من أنت أيها الإنسان؟

زهير الخويلدي

ارجع إلى نفسك وتأمل هل تغفل عن وجود ذاتك ولا تثبت نفسك

ابن سينا – الإشارات والتنبيهات

 

عندما تنظر إلى الكون وتتطلع إلى الطبيعة وتشاهد البحار والجبال وتلمح التنوع والثراء في الكائنات فإنك تتساءل ترى ما سر هذا التناسق البديع وهذا التصميم الجميل وتفتش عن القوة العجيبة التي تقف وراء كل هذا النظام وعندما ترجع إلى نفسك وتتأمل ذاتك فإنك تتردد بين الغفلة واليقظة وبين النسيان والتذكر وبين الإهمال والإدراك وتتفحص بعقلك عن وعيك وتستعمل مشاعرك وأحاسيسك للبحث عن جسدك وتفاجئ أنك تجهل ذاتك ولا تثبت نفسك وتتساءل: من أنت أيها الإنسان؟ وماهي مكانتك في الكون؟ وبماذا تدرك ذاتك؟ وما المدرك من ذاتك؟ أترى أحد مشاعر جسمك أم قوة عقلك؟ وماذا يترتب عن هذا الإدراك للذات؟

ما نراهن عليه عند التفكير في هذه القضية هو أنه ليتعلم الإنسان كيف يقوم بشكل صحيح الأرض والممالك والمدن ونفسه فان عليه العودة إلى نفسه وينظر ماهي عليه قياسا إلى الوجود.

أول ما يبحث المرء في هذه الدنيا هو عن نفسه محاولا جاهدا التفرد والتميز في هذا الوجود بالحصول على أنا وامتلاك شخصية مستقلة يسكن إليها وبناء ذات لها كامل درجات الشرف والسؤدد ، ويعرف الأنا بكونه الضمير المتكلم الفردي والمراد بها الإشارة إلى النفس ، وأيضا يمثل جانبا من الشخصية يتكون بالتدريج عبر اتصال الطفل بالعالم الخارجي ويمثل القطب الدفاعي للشخصية في الصراع مع الهو الذي يحركه مبدأ اللذة ومع العالم الخارجي الذي يحتكم إلى مبدأ الواقع.

من هذا المنطلق الأنا هو جهاز تكيفي ينطلق من الهو ويحتكم إلى العالم الخارجي وتعرفه نظرية التحليل النفسي عند فرويد على أنه نتيجة تقمص شخص محبوب تعلق به الهو ويسمى الأنا الأعلى وهو في الغالب مرتبط بالأنا الاجتماعي. وقد ذكر كانط في كتابه الأنثربولجويا من وجهة نظر برغماتية أن: قدرة الإنسان على امتلاك الأنا في تمثله تسمو به غاية السمو فوق سائر الكائنات الحية الأخرى على وجه الأرض.

من البين إذن أن الكينونة الإنسانية انبثقت من صلب هذا الأنا وظهرت فكرة الذات كمقولة فلسفية أصيلة تدل على استكمال الطبيعة البشرية لتحققها على صعيد الوعي والحرية والارتقاء الوجودي،بالرغم من أن الذات كانت تعني جوهر كل شيء و يقال الذاتي لكل شيء ما يخصه ويميزه عن جميع ما عداه.ان الذات هي ما يقوم بنفسه ويقابله العرض وقيل ذات الشيء نفسه وعينه، وفي المنطق الذات هي الموضوع ويقابلها المحمول، وتطلق على الماهية بمعنى ما به الشيء هوهو ويراد بها حقيقة الشيء ووجوده العيني، ولذلك فهي تدل على النفس والجسم وهي أعم من الشخص الذي يمكن أن يتركز اهتمامه على نفسه ويقصي الآخرين فتظهر عنده الذات مركزية.

بيد أن الإجابة عن سؤال ترى من يكون الإنسان؟ يرتبط أساسا بإثبات الإنية، فما المقصود بهذا الأمر؟

الإنية عند الفلاسفة وخاصة في كتاب التعريفات للجرجاني هي تحقق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتيةونجد ابن سينا في كتاب الشفاء في الفصل الخاص بالمنطق ( المدخل 46.) يضبطها بالفصل النوعي بقوله: فيكون كل لفظ ذاتي إما دالا على ماهية أعم وسمي جنسا وإما دالا على ماهية أخص وسمي نوعا وإما دالا على إنية وسمي فصلا ويعنى ذلك كله أن الفصل كالناطق للإنسان هو الذي يدل على إنيته ومرتبته الذاتية بالنسبة إلى غيره من أنواع الحيوان وهو الذي يدل على تحقق وجوده العيني. لكن هل كل من يقول أنا قادر عل إثبات إنيته؟ وهل الوعي هو الطريق الملكي الوحيد لتحقيق الإنسانية في الإنسان؟ ألا يمكن أن تتعرض ملكة الوعي نفسها إلى عملية نقد ومراجعة جذرية؟

يمكن نقد ملكة الوعي بإبراز محدوديته على صعيد المعرفة والوجود وذلك بخلع الكوجيتو الديكارتي عن عرشه والتفطن إلى أن الذات ليست بديهية وقادرة على معرفة ذاتها بطريقة شفافة ومباشرة وأن الإنسان ليس بالضرورة يحدد كحيوان ناطق وإنما من سلالة عالم الحيوان وعرضة للتطور والأنا ليس متحكما في أقوالها وأفعالها وإنما هو خاضع للعبة الأهواء والجسد وتابع للتاريخ والمجتمع والثقافة التي يندرج فيها.

من هنا كشفت الفلسفة المعاصرة مشكلة زيف الوعي والوعي باعتباره زيفا وبينت أن الذات ليست فقط تتحرك فوق مسرح من الأوهام وإنما هي نفسها وهم خالص وذلك بعد أن تبين أن الوعي لا يمثل سوى القشرة الخارجية منها وتبعيته لللاوعي عند فرويد وللوجود الاجتماعي والاقتصادي عند ماركس وللغرائز واللغة عند نيتشه. فهل مازال للحديث عن الإنسان أشرف الكائنات معنى في ظل هذا التفكيك وهذه الرجة؟ وهل يستقيم  تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق؟

إن تعريف الإنسان على أنه حيوان ناطق يثير عدة مفارقات ويوقعنا في عدة تناقضات ولا يقدم لنا حدا جامعا مانعا للإنسان بل يصادر على المطلوب ويزيد المشكلة تعقيدا ويستدعينا إلى معرفة معنى الحيوان ومعنى النطق وهذه بدورها تستدعي عناصر أخرى للتحديد وهكذا ننساق إلى تسلسل لامتناه.

إن تعريف الإنسان على أنه حيوان عاقل يسقطنا في تصور إقصائي للجسم ويجعلنا ننفصل عن العالم ونسقط في الأنانة (الأناوحدية) ونتعمد شيطنة الآخر وصياغة خطاب تبجيلي افتخاري تجاه الذات.

عندئذ المطلوب هو الانطلاق من الإنسان كما يعيش في حياته اليومية وكما هو موجود في الواقع بوصف مختلف الأنشطة التي يقوم بها وفهم مختلف المكونات التي تتألف منها طبيعته على وجه المساواة وبعيدا عن تفضيل عنصر على آخر لاسيما وان العلاقة بين النفس والجسم هي علاقة اتصال ومخالطة ولكونهما يتكاملان في إثبات الإنية والارتقاء بالإنسان إلى درجة الوجود الأفضل.

إن الآدمية الكائن البشري تفيد التعقل التوسطي بين البداهة الاعتقادية المحبذة والانزعاج الريبي المنفر وتعني أيضا قدرته على الاستجابة لنداء الوجود واستعماله لحريته في الدفاع عن غيريته واختلافه وصنع كيانه وتوجيه ذاته نحو خيره وسعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة وتفيد كذلك قدرته على المساءلة والاستفهام والاعتراف بالتناهي والهشاشة والحاجة المستمرة إلى معرفة المصير الغامض الذي يتربص بمستقبل الحياة على الأرض.

ولذلك فإن الانسان يظل يبحث عن المطلق ويستشعر الكلي الآخر في الإلهي مرددا قولة باسكال الشهيرة التي ذكرها في خواطره : أي موجود هو الإنسان ضمن الطبيعة في آخر المطاف؟ انه عدم بالنظر إلى اللامتناهي وانه كل شيء بالنظر إلى العدم، وانه توسط بين لاشيء وكل شيء،. وما عسى الإنسان إلا أن يعبر عنها بشكل آخر حتى يلمح بعض مما يظهر وسط النور:ترى من أكون؟

* كاتب فلسفي

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/كانون الاول/2009 - 2/محرم/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م