تجربة العمل الحزبي العراقي وغياب الطبقة الوسطى

لطيف القصاب/مركز المستقبل للدراسات والبحوث

يذكر التاريخ المعاصر انه وفي مقتبل تشكيل الدولة العراقية الحديثة وبين العامين 1924م-1925م تأسس في العراق عدد كبير من الاحزاب السياسية الليبرالية من بينها حزب الامة، حزب الاستقلال، حزب الشعب، الحزب الوطني، حزب العهد وغيرها.

 وقد كان من الممكن ان تنجح هذه الأحزاب او بعضها في محاكاة نموذج الاحزاب البريطانية الديمقراطية العتيدة لولا آفات الاحتفاظ بالزعامة في نطاق الآباء الارستقراطيين المؤسسين لها فضلا عن نخبويتها المفرطة التي حالت دون انفتاحها على شرائح المجتمع الفقيرة ما جعل منها في نهاية المطاف تعيش في عزلة عن حاجات وتطلعات الجماهير وبالتالي الانعزال الطبيعي عن الحياة السياسية.

 الامر الذي انتبه اليه الحزب الماركسي العراقي والذي أعلن عن نفسه في فترة تالية لميلاد الأحزاب المتقدمة، فعمد هذا الأخير الى الذوبان في شريحتي العمال والفلاحين (الطبقة المسحوقة) ملقيا في روع هؤلاء كراهية الأحزاب الليبرالية خالطا في ادبياته التعبوية بين ما هو ارستقراطي وبرجوازي وبين كبار الساسة وكبار الاقطاعيين، وبهذا السبيل استطاع ان يستثمر هذا الحزب الصاعد اخطاء الاحزاب الليبرالية الارستقراطية العراقية الى الحد الذي انسى مريديه كونه يتقاسم مع الاحزاب المنتقدة صفات النأي عن روح الدمقرطة واحتكار الزعامة وبالتالي وأد التداول السلمي للسلطة الحزبية.

الى ذلك فان بعض الأحزاب التي تأسست ونشأت بعد هذا الحزب الشمولي إنما تأسست وفقا لمقاسات الاحزاب الشمولية سواء اليسارية منها او اليمينية، ولم يدر في خلد مفكري الاحزاب العراقية البحث في جدوائية محاكاة النموذج الغربي البريطاني ثانية بل عدّوا اية فكرة من هذا القبيل بمثابة إعادة الحياة الى الأحزاب الرجعية (المبادة) والرجوع بالبلاد الى المربع الاول في الفقر والجهل والمرض، وعليه فقد تسللت اساليب العمل السرية بيسر وتلقائية الى تلك الاحزاب الناشئة حتى التي تتقاطع مع متبنيات الحركات الشيوعية والنازية وما اليها قلبا وقالبا.

وقد تجلى ذلك بوضوح في السيرة العملية لحزب البعث حيث قام هذا الاخير بتجيير جميع النشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلد لصالحه وحوّل سائر الجمعيات والاتحادات النقابية الى مشروعه الحزبي الخاص فضلا عن احتكاره للسلطتين التشريعية والتنفيذية على غرار اكثر الاحزاب العالمية ايغالا بالسرية.

 ومع فرض قانون (الحزب القائد) وما تلته من تصفيات دموية بحق المناوئين سواء من الأحزاب السياسية او الشخصيات المستقلة وصل هذا الحزب الى مديات عنفية ربما لم يصل اليها اي حزب شمولي اخر في التاريخ المعاصر.

 وبحسب الملاحظة العملية فان الاحزاب التي تربعت على سدة الحكم والسلطة بعد نهاية حقبة البعثيين على ايدي الامريكيين في عام 2003م لم تستطع هي الأخرى الانفكاك عن الإرث السياسي العراقي الذي القى بذوره الاولى في التربة العراقية الحزب الشيوعي العراقي وقد مرت الاشارة اليه آنفا وفرع حزب (الاخوان المسلمون)، هذا الحزب السلفي الذي اعتمد نهج الحزب النازي الالماني في سرية التنظيم وتأسيس الخلايا وانتشارها عبر الدول كما يلمح الى ذلك الكاتب الغربي (لورنزو فيدينو).

وبسبب سياسة الإقصاء والتشويه التي اعتمدها حزب البعث في الإزراء بتجربة الاحزاب الاخرى والتنكيل بمريديها والمتعاطفين معها وقفت الاحزاب العراقية التي تبوأت مقاعد السلطة بمحظ الصدفة تنظر مدهوشة الى انقطاع الصلة بينها وبين قطاعات الجماهير العريضة، فحتى الحزب الشيوعي العراقي صاحب الشعبية في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي لم يحظ باكثر من مقعدين من مجموع 275 مقعدا نيابيا في انتخابات 2006 م البرلمانية، فيما لجأت بعض الاحزاب الاسلامية العراقية بشقيها السني والشيعي الى النفخ في الروح الطائفية لدى اتباع كلا المذهبين من اجل كسب تاييد جماهيري ولو الى حين انتهاء موسم الانتخابات النيابية، كما ان من الاحزاب الاسلامية من فشل في كسب التاييد والتعاطف الجماهيري في انتخابات مجالس المحافظات عام 2008 م ومنها من راح في ذات الفترة يعبر على مسلماته الايدلوجية السابقة القاضية بجعل الحزب لا الفرد اولا فعمد الى عكس آيته الحزبية من اجل منافع انتخابية مؤقتة.

ان ما شهدناه من حالات عدم الركون الى منطق الانتخابات بالنسبة للتسلسل الهرمي المعمول به في بعض الاحزاب الاسلامية بشقيها السني والشيعي بالاضافة الى انتهاجها لمبدئي التوريث تارة والانشقاق تارة اخرى يجعلها تندرج ضمن خانة الحزب القائد بكل جدارة وان اختلفت العناوين والمسميات، كما ان ترفع البعض منها عن الانفتاح على الواجهات المؤثرة في صميم الحركة المجتمعية لابناء هذا البلد مثل بعض المدارس والمرجعيات الدينية والبيوتات ذات البريق العريق جعل من هذه الاحزاب المتعالية نموذجا بائسا للحزب الارستقراطي البائد وافقدها التواصل الحقيقي مع الحلقات المفصلية داخل بنية المجتمع العراقي.

وختاما فان نجاح الأحزاب كما تدلنا على ذلك التجارب الديمقراطية الناجحة اعتمد على جملة اركان من ابرزها وجود الطبقة الاجتماعية الوسطى، ولكي يحصل العراقيون على احزاب ناضجة تتبع برامج خدمية على صعيد السياسة الداخلية وبرامج تستند الى التعايش السلمي المتكافيء في نطاق سياستها الخارجية ولا تنهج نهجا تكتيكيا في التعامل مع المواطنين، لابد من توفير البيئة المناسبة لنمو وازدهار الطبقة الوسطى في المجتمع العراقي وجعل الوصول الى هذه الغاية من اولى اولويات الدولة العراقية الراهنة، اذ ان اي دولة ديمقراطية مفترضة في العالم لايمكن ان تصنع احزابا سياسية واقعية في غياب الارض التي تتواجد فيها وعليها هذه البيئة الا وهي الجماعة البشرية التي يتمتع افرادها بحس فكري ثاقب ويمتلكون قاعدة اقتصادية لاتهتز امام شعارات السياسيين المؤقتة.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/كانون الاول/2009 - 2/محرم/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م