اقتصاد الكازينو

اوجه الشبه والاختلاف بين الكساد العظيم 1929 والازمة العالمية 2008

د محمود ابوالوفا

" ان وظيفة الحكومة هي حراسة الخط الدقيق الفاصل بين الحد الضروري من المخاطرة الذي يقود الاقتصاد الخلاق والمقامرة المجنونة بمدخرات الناس بطرائق تعرضنا جميعا للخطر , وأنا أشاهد بعض الأسهم المالية وهي تهوي في الشهور الأخيرة، كنت كثيرا ما أتخيل صوتا يرن في رأسي، يشبه إلى حد كبير صوت واحد من هؤلاء المشرفين على موائد القمار في"لاس فيجاس"، والذي يقول للمقامرين ببرود، وهو يكنس بيديه الأقراص المعدنية الصغيرة العائدة لهم من على الطاولة، بعد أن خسروا اللعبة : نشكركم على اللعب أيها السيدات والسادة".

 هكذا عبر الكاتب الامريكى الشهير توماس فريدمان عن موقف الحكومة الامريكية من الازمة المالية التى اصابت الاقتصاد الامريكى , ويتوافق هذا الرأى مع موقف اللورد كينز من الممارسات الاقتصادية المنفلتة والتى أسماها فى الثلاثينيات من القرن الماضى" باقتصاد الكازينو".

الكساد العظيم1929:

لقد ادت الحرب العالمية الاولى الى توقف المصانع في اغلب دول اوربا بسبب تحول كثيرا منها إلى الإنتاج الحربي ولذلك اصبح هناك حاجه ماسه الى المنتجات الاستهلاكية فى كافة انحاء العالم , ولقد وجدها المنتج الامريكى فرصة سانحة فى ظل سوق متعطشة لأي منتج فاندفع منتهجا سياسة كثافة الإنتاج , فدارت عجلة الانتاج متسارعة لتغطية حاجة الأسواق العالمية خلال فترة الحرب العالمية الأولى وازدهرت الصناعة والتجارة الامريكية , وبالتالى ازدهر الاستثمار فى الاوراق المالية مما رفع اسعار الأسهم إلى قيم وأسعار خيالية وغير واقعية , وقد ادى ذلك الى ارتفاع اسعار المنتجات , مما جذب المستثمرين من كافة الطبقات لاستثمار اموالهم في سوق الاوراق المالية، وايضا سارعت البنوك بدفع اموالها لتمويل قروض بشروط سهلة وميسرة للمستثمرين , الأمر الذي ضاعف الاستثمارات وساعد فى رفع الأسعار بشكل كبير.

 وبعد انتهاء الحرب بدأ الحال يعود الى سابق عهده حيث عادت اوربا وبقية دول العالم للانتاج المدنى وقل الطلب على المنتجات الامريكية , مما ادى الى تكدس البضائع في الولايات المتحدة , مما تخلف عنه تأثيرات عميقة على المنتجين الامريكيين , فتراكمت البضائع وتكدست لدى الصناع والتجار واصيب الاقتصاد الامريكى بكساد عظيم للمنتجات التى لا تجد من يشتريها , وزادت الديون وأفلست الكثير من المصانع , وتم تسريح الاف العمال , مما ادى الى انتشار البطالة , وضعف القوة الشرائية وانتشار المشاكل الاجتماعية والأخلاقية , وقد تباطأت كثير من الدولة الأوروبية عن تسديد الديون المستحقة عليها للولايات المتحدة الأمريكية مما خلق نقصا فى السيولة , وقد ادى ذلك الى تولد حالات عدم الثقة لدى المواطن الأمريكي , وفقد المستثمرون الأمريكيون والأجانب الثقة في الخزينة الأمريكية , مما كان له اثار سلبية على البورصة , حيث زاد عدد اسهم الشركات الكبرى المطروحه للبيع بشكل كبير , مما تسبب عنه هبوط حاد فى أسعار الأسهم حيث تم عرض 13 مليون سهم تقريباً للبيع , مما هوت معه أسعار الاسهم الى مستوى غير مسبوق وذلك فى يوم الاثنين 24 اكتوبر عام 1929.

 وبعد مرور خمسة أيام في 29 أكتوبر، حدث الانهيار الثانى في سوق الأوراق المالية , نتيجه لزيادة العرض عن الطلب حيث اتجهت اسعار الأسهم الى القاع، وادرك رجال المال ان أموال المستثمرين قد اختفى او تبخر جزء كبيرا منها , و ازداد عدد الأسهم المعروضة إلى 30 مليون سهم في الأيام التالية الأمر الذي وصلت معه أسعار الأسهم الى ما يقرب من الصفر , وتراكمت الديون العميقة على المستثمرين للبنوك والتي بدورها صارت مفلسة تحت وطأة الديون الكبيرة التي تراكمت عليها من كثرة القروض غير القابلة للسداد بسبب انهيار البورصة وافلاس المستثمرين , مما ادى إلى تنامى مشاعر الخوف لدى العامة حيث ظهر بصوره جلية أنهم مقبلون على حالة ركود وانهيار اقتصادى , وبدأت تنتشر حالات الإفلاس للشركات وبالتالى تسريح الاف العمال , وقد عمدت الحكومة الامريكية الى سحب الودائع الأمريكية من المصارف العالمية وخصوصا الأوروبية , وذلك لتحريك السوق لمحاولة سد عجز السيولة.

 وقد ادى هذا الإجراء الى تحسن نسبى فى الأوضاع الاقتصادية الامريكية , لكن فى المقابل تسبب في انتقال عدوى الأزمة إلى سائر الدول الرأسمالية في العالم وخصوصا بريطانيا وفرنسا وألمانيا , وقد اختلف حينئذ عن مدى تأثير انهيار سوق الأوراق المالية بوول ستريت على وقوع الكساد الكبير , ام كان الكساد الكبير هو سبب رئيسى فى انهيار سوق الاوراق المالية.

وقد تبين خلال الكساد العالمي العظيم 1929 عن عجز المدرسة الكلاسيكية ( نظرية ادم سميث ) عن معالجة الازمة، وفي ذات الوقت بدأ بزوغ فجر الفكر الكينزي من خلال كتابات جون كينز الذي ركز فيها على أثبات اوهام ما يسمى"باليد الخفية"، حيث ذهب الى خطأ ادعاء المدرسة الكلاسيكية بأن الأسواق لها القدرة على المحافظة على توازنها واصلاح بعضها البعض، ورأى أن أحوال الكساد والتضخم تحتاج إلى تدخل مباشر من قبل الدولة لإصلاحها، ودعا الى ضرورة تدخل الدولة بقوة خاصة بعد تعطل قوى الإنتاج والاستغناء عن ما يزيد على اكثر من ربع القوى العاملة الصناعية , ولقد تمكنت النظرية الكينزية من المساعدة فى تحقيق الازدهار الاقتصادي في الخمسينيات والستينيات حيث أقدمت الدول الغربية على تأميم بعض الصناعات والأنشطة المهمة بالنسبة للاقتصاد ككل مثل الحديد والصلب والكهرباء والسكك الحديدية، كما أصبحت المشروعات الخاصة خاضعة لتوجيه الدولة بشكل عام، وكذلك خضعت بعض القطاعات الحيوية كشركة إنتاج الفحم الإنجليزية وشركة المترو الفرنسية لنظام التأميم , كما حرصت الدولة على توجيه وتوعية القطاع الصناعي والزارعي والمستثمرين وعلت راية المدرسة الكينزية في تلك الفترة على غيرها من المدارس الاقتصادية.

 اى ان الأزمة الاقتصادية الكبرى قد تركت تأثيراً ملحوظا علي الأنظمة الرأسمالية حيث تحول النظام الاقتصادي الرأسمالي الحر إلى الاخذ ببعض مبادىء الاقتصاد الموجه.

الازمة العالمية 2008:

اما الازمة المالية الحالية فقد ارتبطت بشكل أساسي بسبب ما يطلق عليه"القروض العالية المخاطر" والتى نتجت بسبب توسع المصارف فى منح قروض عقارية لمئات الآلاف من المواطنين من ذوي الدخل المحدود بدون ضمانات حقيقيه للمقدره على السداد، ويرجع اتجاه المصارف الى هذا السلوك للظروف التى احاطت بالسوق العقارى فى تلك الفترة وهى ظروف اتسمت بالنمو الهائل فى قطاع العقار متزامنا مع انخفاض ملحوظ لنسب الفوائد المطبقة، مما ولد حاله اقبال كبيره جدا لدى المواطنين الأميركيين , وصلت الى حد التهافت الشديد على شراء المساكن , وفى بداية عام 2004 انتهج البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سياسة الزيادات المتوالية لنسب الفوائد على القروض.

 وقد شكل ذلك زيادة كبيره في أعباء القروض العقارية من حيث سداد الأقساط او فوائدها، مما تسبب عنه تباطىء حركة الاقتصاد الامريكى ( بالاضافة الى اسباب خارجية اخرى) وقد نتج عن ذلك حالة من الركود اصابت الاقتصاد الامريكى , وقد ولد ذلك حاله من العجز لدى الكثير من الأميركيين عن سداد قروضهم، وتدريجيا تنامت اعداد العاجزين عن تسديد اقساطهم على مدار اشهر قليلة , وبدأ يخيم شبح الكارثة علي أسواق المال وعلى جميع الجهات ذات العلاقة في قطاع العقار ( مصارف – مؤسسات مالية – شركات تأمين - مودعين ) وقد بلغ اجمالى تلك القروض حوالى 1.3 تريليون دولار في شهر مارس 2007 م، ومع حلول النصف الثاني من عام إلى 2007 توقف عدد كبير من المقترضين عن سداد الأقساط المالية المستحقة عليهم، فسارعت جهات الاقراض (طبقا للاجراءات المتبعه) إلى مصادرة مساكن العاجزين عن تسديد القروض واعادة عرضها للبيع مرة اخرى وقد كان هذا التصرف هو المعول الاول الذى ساعد فى اشتعال الازمة وهدم المصارف ومؤسسات التمويل , حيث ادى ارتفاع نسب الفائدة الى احجام المواطنين عن شراء العقارات مما تسبب عنه (ندرة فى الطلب) , كما ادى مصادرة المساكن وعرضها للبيع مرة اخرى الى زيادة المعروض ( كثرة العرض ) وقد ادى ذلك الى ركود تام فى سوق العقارات وبالتالى انخفاض حاد فى اسعار العقارات , وضياع اموال المصارف وجهات الاقراض الاخرى وحصولهم على اصول عقاريه ( قيمتها تقل كثيرا جدا عن السعر الذى تم التمويل على اساسه نظرا للانخفاض الحاد فى الاسعار) , ونتيجه لضياع اموال جهات الاقراض مما ترتب عليه بالضرورة ضياع اموال المودعين والمؤسسات المالية والتى تقدر بمليارات الدولارات.

وعلى ذلك كان لابد لجهات الاقراض ( مصارف او مؤسسات مالية) ان تعلن افلاسها وتخرج من السوق , اما المودعين فيتحول غالبيتهم الى فقراء ومعدمين ويتعرض البعض من المقترضين لاحكام بالسجن , وعلى ذلك أنهار جزء ليس بالقليل من مفردات الحياه الاقتصادية الامريكية من خلال فقد الكثير من المواطنين العاملين بتلك الجهات المفلسه لوظائفههم , وقد تكبدت مؤسستين من أكبر مؤسسات الرهن العقاري في الولايات المتحده وهما" فريدي ماك" و"فاني ماي" خسائر كبيره حيث وصل حجم تعاملاتهما ما يقارب من الستة تريليون دولار ( ما يعادل اكثر من خمسة أمثال حجم اقتصاديات الدول العربية ) وقد قامت الحكومة الأمريكية (باختيار الاتجاه الكنزى مرة اخرى) حيث استحوزت عليهما من خلال شراء أغلبية أسهمهما , وايضا قيام الحكومة الأمريكية بمساعدة مصرف" جي جي مورجان" فى صفقة شراء أول مصرف متعثر في الولايات المتحدة ' بير ستيرنز' , وفى سبتمبر تكشفت أزمة نقص السيولة لدى بنك 'ليمان براذرز'، رابع أكبر بنك فى الولايات المتحدة , حيث اعلن البنك الإفلاس، بعد أن رفضت الحكومة إنقاذه , وقد بلغت معاملاته فى الديون المتعثرة نحو 613 مليار دولار , وكما قامت الحكومة بإنقاذ شركة التأمين العملاقه ' إيه آى جي' حيث عجزت عن الوفاء بديون قيمتها 14 مليار دولار متخلفه عن وثائق التأمين.

وقد تأثرت اقتصاديات اغلب دول العالم بالازمة المالية الامريكية , فعلى الصعيد الاوربى فقد اتخذت كثير من دول أوروبا خطط إنقاذية للبنوك والمؤسسات المعرضة للإفلاس , حيث بلغت قيمة المبالغ المرصودة للانقاذ حوالى مائة مليار دولار خلال يومين فقط , فقد سعت الحكومة الفرنسية و البلجيكية وحكومة لوكسمبورج الى إنقاذ مجموعة (ديكسيا) للخدمات المالية ورصدوا ما قيمته 6.4 مليار يورو لضخها في (ديكسيا) , كذلك تأميم بنك"برادفورد اند بينجلي" البريطاني وتصفيته في أخر سبتمبر 2008 , وقد قامت الحكومة البريطانية بشراء محفظة الرهون العقارية للبنك، والتي تبلغ قيمتها 89 مليار دولارامريكى وبيع فروعه لاحد البنك الاسبانيه , وكذلك فان حكومات بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج قامت بتأميم جزئي (حوالى 49 في المائة) لمجموعة (فورتيز إن.في) البلجيكية الهولندية بضخ 11.2 مليار يورو , اما الحكومة الألمانية فقد شاركت لإنقاذ بنك هايبو ريال ايستيت للتمويل بقيمة بلغت 26.6 مليار يورو في شكل ضمانات.

وقد اختلفت طريقة معالجة الازمتين ( 1929 و 2008) , فقد تمثلت طريقة معالجة الازمة فى عام 1929 والتى اعتمدها الرئيس"روزفلت" والتي عرفت باسم"ذا نيو ديل"، انها معالجة ذات أبعاد إصلاحية اجتماعية واقتصادية، ولم يكن اهتمامها بمعالجة الوضع المالي للسوق فقط , بل كانت سياسة اقتصادية مرتكزة على البناء الاخلاقى والوطنى , حيث المساهمة في مشروعات كبرى بهدف حل مشكلة البطالة وتشغيل أكبر عدد ممكن من العمال ولذلك تم انشاء مكاتب للتوظيف وبدأ الاهتمام بالمشروعات الإنمائية والاجتماعية.

 اما خطة الانقاذ ومعالجة ازمة 2008 التى تبناها الرئيس بوش والتي تم إقرارها من الكونجرس فى اواخر عام 2008، فقد كانت كما وصفها البعض على أنها" مسكن موضعي مؤقت"، حيث قامت الخطة على شراء الأصول الهالكة من المؤسسات المتعثرة لمنعها من الانهيار، وذلك يعنى ضخ المال اللازم لتسييل قروض البنوك المتعثرة، ونظرا لانعدام الثقه المتوافر بالاسواق قد يزداد الأمر تعقيدا، حيث من المؤكد زيادة الطلب على سحب الودائع، مما يعرض هذه المصارف لازمة سيولة جديدة متمثلة فى نقص السيولة لديها نظرا لاتجاه الغالبية العظمى للاحتفاظ باموالهم بعيدا عن المصارف والمؤسسات المالية , كما لم تحمل الخطة اى اتجاه انمائى وبالتالى اجتماعى كما حدث فى خطة الرئيس روزفلت وانما كان هم القائمين عليها منع انهيار المؤسسات العملاقة.

 ونظرا لحالة التباطىء التى يمر بها الاقتصاد الامريكى منذ سنوات بسبب المنافسة الشديدة من جانب المنتجات الاوربية وغزو منتجات شرق اسيا فانه من المنتظر دخول القطاعات الاقتصادية الأمريكية المختلفة فى حالة ركود قد تمتد لسنوات , لقد استطاع الاقتصاد الامريكى والعالمى الخروج من نفق ازمة 1929 فى منتصف الثلاثينات ولكن المؤشرات الاقتصادية للاسهم لم تعود الى ماكانت عليه الا فى عام 1954 ولا يخفى على احد ان نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939 كان من احد اسباب ذلك , لكن يتخوف كثير من المتخصصين من امتداد الازمة لوقت ليس بالقصير فى ظل المشتقات والادوات المالية التى اضحت من ضروريات الحياة الاقتصادية والعامة والتى من الصعب الاستغناء عنها بسهوله , حيث يعتقد ان تلك المشتقات والادوات المالية كانت احد اقوى اسباب الازمة العالمية عام 2008.

Maw01000@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/كانون الاول/2009 - 29/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م